أوكرانيا كإعادة لسيناريو أفغانستان

أوكرانيا كإعادة لسيناريو أفغانستان

يجب على أولئك الذين يعقدون مقارنات بين الحرب الأوكرانية والصراع السوفياتي الأفغاني أن يتذكروا ما حدث في تكملة القصة.‏

* * ‏ يسير التفكير في واشنطن على النحو التالي: بـ”التكلفة المنخفضة” المكونة من الأرواح الأوكرانية وبعض الدولارات الأميركية، يمكن للغرب إنهاء تهديد بوتين الاستراتيجي للولايات المتحدة. ليس هناك أميركيون يموتون.

وليس ما يحدث الآن مثل ما حدث العراق أو أفغانستان 2001–2021. إنه شيء ينتمي إلى ما بعد الحداثة، شيء جديد، حرب نظيفة بين القوى العظمى، شيء مثل جاكسون بولوك* العلاقات الدولية -الحصول على الكثير من النفوذ للسياسة الخارجية بتكلفة قليلة. يبدو الأمر كما لو اننا كان يجب أن نفكر في هذا في وقت أبكر.‏

حسنًا، لقد فعلنا. ولم ينجح الأمر على المدى القصير، وهنا تكمن الرسالة. مرحبًا بكم في أفغانستان الجديدة على غرار الثمانينيات، حيث الولايات المتحدة تلعب كلًا من الأدوار الأميركية والسوفياتية معًا في بعض الأحيان.‏

للوهلة الأولى يبدو كل شيء مألوفا جدًا. تقوم روسيا بغزو دولة مجاورة كانت تهتم بشكل أو بآخر بشؤونها الخاصة.

وأهداف روسيا هي نفسها: دفع حدودها في مواجهة ما تعتبره تعديًا غربيًا على مجال نفوذها من ناحية، وتحقيق هيمنة على مستوى العالم من ناحية أخرى.

وتنهار النجاحات الروسية المبكرة في ساحة المعركة، وترى الولايات المتحدة فرصة لاستنزاف الروس على حساب الكلفة الجسدية لأحد آخر. “سنقاتل حتى آخر أفغاني” هو شعار اليوم.‏

تقوم وكالة المخابرات المركزية، عبر “حليفنا” الماكر في باكستان، بإغراق أفغانستان بالمال والسلاح. الأدوات مختلفة ولكن التأثير هو نفسه: توفير ما يكفي من القوة النارية لإبقاء الدُّب مقيدًا وينزف، ولكن ليس بما يكفي لقتله، ولا سمح الله، إنهاء الحرب المربحة للغاية -الكثير من القتلى الروس وصفر من القتلى الأميركيين.

(حسنًا، ربما عدد قليل منهم، لكنهم من نوع “استخدِم وانسَ” للسياسة الخارجية، من القوات شبه العسكرية والقوات الخاصة التابعة لوكالة المخابرات المركزية، لذلك لا داعي لحسابهم). وثمة مكافأة تاريخية مثيرة تنطوي على مفاقة: في كل من أفغانستان في الثمانينيات وأوكرانيا، بعض ‏‏الأموال‏‏ التي تنفق تأتي من دولة عربية نفطية غنية. هل رأيت الصلة بعد؟‏

إذا تركنا جانبًا بعض الاختلافات الكبيرة التي مكنت أميركا من تحقيق نجاحات أولية في أفغانستان، وأهمها خطوط الإمداد الروسية الطويلة، فلنلقِ نظرة على ما أعقب تلك الأيام الأولى المُسكرة.‏

في حين أرسلَت دول حلف الناتو وغيرها أعدادًا صغيرة من القوات والمواد إلى أفغانستان، بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها لجعل أوكرانيا تبدو وكأنها عرض للناتو بينما هي ليست كذلك.

من المفترض أن واشنطن أعلنت دعمها لأوكرانيا لأجل الحفاظ على الناتو وتمكينه، على الرغم من حقيقة أن أوكرانيا لم تكن عضوًا في الحلف.

ومع ذلك، لإبقاء ألمانيا على الهامش في هذه الحرب، شنت واشنطن (‏‏كما يُزعم‏‏) هجومًا سريًا على البنية التحتية المدنية الحيوية لألمانيا، والذي ستكون له عواقب سلبية دائمة على الاقتصاد الألماني.‏

هذا الادعاء، بالإضافة إلى معاملة الولايات المتحدة المفتوحة لدول الناتو كمكبّات مريحة للإمدادات وأكثر من ذلك بقليل، يشير إلى أن الناتو سيخرج من أوكرانيا مكسورًا.

ويتساءل المرء أيضًا: إذا كان مستقبل أوروبا هو الذي على المحك، فلماذا يجري التعبير عن القلق الأكبر في واشنطن وليس في برلين أو بروكسل أو باريس؟‏

كما هو الحال مع أفغانستان، هناك أسئلة حول ما إذا كنا نحن الأميركيين سنكون قادرين على المغادرة، حول ما إذا كانت قواعد “مخزن الأواني الخزفية” التي طبقها كولن باول -أنت تكسرها، أنت تشتريها- تنطبق على أوكرانيا. كانت أوكرانيا مضطربة، حتى قبل الغزو الروسي، في ما يرجع إلى حد كبير إلى التدخل الغربي في شؤونها الداخلية.‏

استمد الرئيس زيلينسكي، وهو ممثل كوميدي ومنتج تلفزيوني تم تصويره في الغرب على أنه تقاطع بين تشرشل وبونو، شعبيته من صورته المناهضة للمؤسسة، ووعوده بمحاربة الفساد وتحسين الاقتصاد، وفاز في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية في العام 2019.

وكانت قد سبقته الثورة الأوكرانية، المعروفة أيضًا باسم “ثورة الميدان الأوروبي”، التي بدأت في أواخر العام 2013 كسلسلة من الاحتجاجات ردًا على قرار الرئيس آنذاك، فيكتور يانوكوفيتش، رفض اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والسعي بدلاً من ذلك إلى علاقات أوثق مع روسيا. ‏

وازدادت الاحتجاجات حجمًا وكثافة حين احتل المتظاهرون ميدان “ميدان نيزاليزنوستي” المركزي في كييف، مطالبين باستقالة يانوكوفيتش وإجراء انتخابات جديدة.

وفي شباط (فبراير) 2014، تصاعد التوتر عندما قامت قوات الأمن التابعة ليانوكوفيتش بقمع المتظاهرين، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات عنيفة خلفت عشرات القتلى.

ثم فر يانوكوفيتش من البلاد، وتم تشكيل حكومة جديدة في أوكرانيا. وأشعلت هذه الثورة التوترات مع روسيا التي قامت بضم شبه جزيرة القرم في وقت لاحق ودعمت الانفصاليين في شرق أوكرانيا. ‏

لن تختفي أي من هذه المشاكل حتى لو تراجع الجيش الروسي إلى حدود ما قبل الغزو. وسوف تكون فكرة أنه لا يوجد شيء يحدث هنا سوى استيلاء صعب لبوتين صنعته السلطة على الأراضي فكرة ضحلة وغير مكتملة.‏

ماذا تبقى؟ المخاوف بشأن مستوى الفساد المستشري في أوكرانيا، والدور الأميركي في معالجته. على الرغم من المساعدات المالية الأميركية الكبيرة لأوكرانيا، كانت هناك تقارير عن الفساد وسوء إدارة الأموال.

وجادل البعض بأن الولايات المتحدة لم تفعل ما يكفي لمعالجة هذه القضايا، وبدلاً من ذلك غضت الطرف من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

وفي الحقيقة، ليس تاريخ أميركا مع ضخ الأسلحة والأموال غير المحدودة تقريبًا في الدول النامية الملطخة بالفساد جيدًا -كما رأينا، مرة أخرى، في أفغانستان، بنسخة الثمانينيات، أو منذ غزو بوش فصاعدًا. لا يمكن للفساد سوى أن يزداد سوءًا فحسب.‏

كان ثمة مصدر خوف كبير في أفغانستان هو انتشار الأسلحة، وانتقال هذه الأسلحة من ساحة المعركة إلى الأيدي الخطأ.

وسواء كان ذلك حاوية بنادق أو أحدث الأنظمة المضادة للطائرات، فإن الكثير من الأسلحة فالتة الآن في أوكرانيا. في حالة أفغانستان، كان الخوف الحقيقي هو أن تنتهي صواريخ “ستينغر”، القادرة على إسقاط الطائرات الحديثة، في أيدي الإرهابيين.

ومنذ ذلك الحين، تطارد الولايات المتحدة هذه الصواريخ عبر أسواق الأسلحة في العالم.‏

والأمر أسوأ في أوكرانيا. هنا يتم استخدام أدوات الدفاع الجوي الأميركية الأفضل ضد الأصول الجوية الروسية والإيرانية.

فما الذي ستدفعه تلك البلدان مقابل بيانات القياس عن بعد لعملية إسقاط، ناهيك عن الأجهزة الفعلية للهندسة العكسية والبرمجة ضدها؟

لا شك في أن هناك وكالات استخبارات روسية وصينية وإيرانية وغيرها على الأرض في أوكرانيا تحمل حقائب مليئة بالمال في محاولة لشراء كل ما تستطيع شراءه. وهذه تكلفة أخرى للحرب.‏

من الصعب أيضا أن نرى نهاية اللعبة على أنها زوال بوتين. فهذا يعني أن الاستراتيجية ليست القتال حتى آخر أفغاني/ أوكراني، وإنما القتال حتى آخر روسي. الخطة هي أن تنكسر تلك القشة الأخيرة، ذلك الموت الروسي الأخير، لجلب نوع من الإطاحة ببوتين.

ولكن على يد من؟ يبدو أن مقايضة بوتين بحكومة يقودها الجيش الروسي هي مكسب صغير. انظروا إلى ما حدث في المرة الأخيرة التي مرت فيها روسيا بتغيير جذري في الحكومة -لقد حصلنا على بوتين. وفي أفغانستان، كانت طالبان 2.‏

يشير التاريخ إلى أن الولايات المتحدة ستخسر بطرق متنوعة في أوكرانيا، مع سؤال إضافي ممتع في حالة “النجاح”: من سيأتي في أعقاب بوتين، ولماذا نعتقد أن هذا الشخص سيكون أكثر قبولاً لدى الولايات المتحدة؟ كما قال أحد ‏‏النقاد‏‏، الأمر أشبه بمشاهدة أحد يمارس ألعابًا خطِرة وهو في حالة سُكر.‏
‏الغد