في أيلول (سبتمبر) 2022، اندلعت أحدث حركة احتجاجية في إيران من دون أي زعيم أو حزب سياسي منظم، في أعقاب اعتقال مهسا (جينا) أميني ومقتلها فيما كانت بعهدة شرطة الآداب سيئة السمعة. وكان ما ميز هذه الاحتجاجات عن سابقاتها هو طبيعتها اللامركزية، بخلاف المظاهرات المركزية الضخمة التي تكون أكثر عرضة للقمع الوحشي من قبل القوات المسلحة. فقد تعرض المتظاهرون لحملة قمع واسعة في صيف 2009 بعد أن اعترض المرشح الإصلاحي موسوي على نتائج الانتخابات، ومرة أخرى في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 عندما اندلعت التظاهرات بسبب ارتفاع أسعار الوقود.
علاوة على أسلوب الاحتجاج اللامركزي، تتميز الحركة الأخيرة بغياب القيادة التنظيمية، ويمكن تصنيفها في خانة الاحتجاجات التي تتحدى الحداثة ومفاهيمها. ويعود استمرارها جزئيا إلى عجز الحكومة عن استهداف زعيم أو قائد لها، على الرغم من أن ازدياد أعداد الضحايا قد هدأ الاحتجاجات. ومع ذلك، يؤكد الكثيرون من أبناء الجالية الإيرانية -التي اتسمت هي نفسها بمعارضة منقسمة- أن الحركة في حاجة ماسة إلى زعيم يمكنه التفاوض مع المسؤولين الغربيين لمقاطعة النظام الإيراني وعزله على الساحة الدولية، وربما عرقلة أي إمكانية لإعادة إحياء “خطة العمل الشاملة المشتركة” المبرمة في 2015.
خلال الأشهر الأخيرة، دعا ولي العهد الإيراني السابق رضا بهلوي -الذي يعيش في المنفى منذ ثورة 1979- إلى تشكيل جبهة منسقة ضد النظام، قائلا إن الحركة تحتاج إلى استهلال مرحلة جديدة. وأشار في خطاب متلفز إلى ضرورة أن يقود الحركة شخصٌ يمكنه أن يدعي أمام المسؤولين الأجانب أنه يمثل الشعب الإيراني.
على ضوء خطاب بهلوي، أطلق الملكيون حملة في منتصف كانون الثاني (يناير) لتفويضه زعيما للحركة الإيرانية على نطاق دولي. ثم قدم بهلوي والناشطتان الإيرانيتان مسيح علي نجاد ونازانين بونيادي أنفسهم كجبهة معارضة موحدة خلال “مؤتمر ميونيخ للأمن” المنعقد في منتصف شباط (فبراير)، بعد منتدى في جورج تاون جمع شخصيات معارضة متباينة من الجالية الإيرانية.
ومن جانبه، أصر بهلوي على أنه لا يطالب بأي سلطة لنفسه، وأن تفويضه المقترح هو مجرد قناة للانتقال بالجمهورية الإسلامية إلى حكم علماني ديمقراطي، واعدا بتشكيل جمعية تأسيسية بعد انتصار الثورة. غير أن حملة التفويض لم تنجح كما توقع مؤيدوها على الأرجح. فحتى الآن، وقع أقل من نصف مليون شخص على العريضة عبر الإنترنت التي تمنح رضا بهلوي توكيلا رسميا لقيادة هذه الحركة، علما بأن عدد التوقيعات لا يمثل سوى أقل من واحد في المائة من الشعب الإيراني.
وفي داخل إيران، أصدر العديد من القادة الإصلاحيين تصريحات علنية خلال الأسابيع القليلة الماضية، مع رسائل تردد صدى رسائل المعارضة في الاغتراب. فقبل أيام قليلة من الذكرى السنوية للجمهورية الإسلامية في 11 شباط (فبراير)، صدرت تصريحات مماثلة عن كل من مير حسين موسوي -الذي ترشح للرئاسة في 2009 وأصبح زعيم “الحركة الخضراء” التي تشكلت بعد الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها- والرئيس الإيراني الإصلاحي السابق محمد خاتمي. وحذر كلاهما من عدم وجود ما يدل على رغبة النظام الحاكم في الإصلاح. غير أن تصريحَيهما اختلفا من حيث الحلول التي اقترحاها. فقد اقترح موسوي إجراء “استفتاء حر وسليم حول الحاجة إلى تغيير الدستور أو صياغة دستور جديد”، بينما طالب خاتمي بإجراء الإصلاحات بناء على الحدود المنصوص عليها في الدستور الحالي.
يشار إلى أن موسوي، الذي يبلغ اليوم من العمر 81 عاما، هو شخصية بارزة في السياسة الإيرانية. فقد شغل منصب رئيس الوزراء لمدة ثماني سنوات خلال ثمانينيات القرن العشرين. وقاد الجمهورية الإسلامية الجديدة ببرنامجه الاقتصادي اليساري الإسلامي إلى حرب مروعة مع العراق دامت ثماني سنوات، وكان من المقربين من الخميني. وفي عهد رئاسته للحكومة، كان سجل حقوق الإنسان في إيران مشينا، وعلى الأخص في صيف 1988 الدموي الذي شهد إعدام آلاف السجناء السياسيين بأمر مباشر من الخميني. وفي حين تم كشف الكثير عن تلك الأيام المظلمة، لم يتم حتى اليوم اكتشاف أي صلة بين موسوي وتلك الأحداث المروعة، لكن منصبه كرئيس للوزراء خلال هذه الفترة أدى إلى دعوات تطالب بإجراء تحقيق في دور موسوي خلال هذه الفترة.
وبعد عقود طويلة، عاد موسوي إلى الساحة السياسية خلال الانتخابات الرئاسية في العام 2009، عندما تنافس مع المرشح المتشدد أحمدي نجاد، المدعوم من المرشد الأعلى خامنئي. وقد وصف موسوي في حملته الرئاسية عهد الخميني بـ”العصر الذهبي”، لكنه لم يدعُ إلى الرجوع إلى تلك الفترة، بل قال إنه “يجب على النظام أن يحاول الإصلاح من الداخل لتحقيق أهداف ثورة 1979، أي العدالة والحرية والروحانية”. في العام 2009، دعا موسوي إلى الإصلاح ضمن حدود الدستور الحالي، وانحاز إلى صف المتظاهرين، وقاد “الحركة الخضراء”، وبالنتيجة وُضع قيد الإقامة الجبرية لأكثر من عقد. والواقع أن العقود التي سعى خلالها إلى العمل ضمن نظام الجمهورية الإسلامية توفر السياق الذي يؤكد منه الآن أن دستورها غير مستدام ويدعو إلى إقامة جمعية تأسيسية.
الجدير بالذكر أن العديد من الإصلاحيين داخل إيران، أمثال مصطفى تاج زاده وأبو الفضل قدياني، رحبوا بموقف موسوي الحالي. وفي المقابل، سعى بعض المطالبين بتفويض بهلوي إلى تذكير الناس بأن موسوي كان رئيس وزراء الخميني، واقترحوا مثوله أمام المحكمة في اليوم التالي لانتصار الثورة الجارية. وهذا موقف كررته الناشطة البارزة في مجال حقوق المرأة مسيح علي نجاد خلال منتدى جورج تاون، في حين أصر رضا بهلوي في بيان أكثر دبلوماسية على طبيعة إيران متعددة الأوجه وتجنب إثارة العداء الذي قد ينشأ عن اتخاذ موقف ضد موسوي.
لكن المشكلة تكمن اليوم في كيفية ردم الهوة بين الإيرانيين في الخارج وأولئك الموجودين في الداخل. وأحد العوامل الحاسمة في الإجابة عن هذا السؤال هو طريقة مقاربة قادة المعارضة الآخرين لموسوي. فمن الواضح أنه يجب محاكمة موسوي -وغيره من القادة الإيرانيين الذين نصبوا أنفسهم بنفسهم- محاكمة عادلة في محكمة مستقلة على أي اتهامات قائمة على أسس سليمة.
في الوقت نفسه، يتعين على النشطاء أن يتذكروا أن تحول موسوي التدريجي من معجب بالخميني إلى إصلاحي، والآن إلى ثوري، هو تجربة عاشها العديد من الإيرانيين. فكثيرون سعوا إلى تبني فكر الخميني عن ولاية الفقيه في حياتهم، وكثيرون حاولوا في البداية إصلاحها من الداخل قبل الابتعاد عنها كليا.
علاوة على ذلك، حتى النتائج الرسمية لانتخابات 2009 المزورة أظهرت أن موسوي حصل على حوالي 14 مليون صوت، ما يدل على أن رسالته كرجل إصلاحي حصدت قاعدة اجتماعية قوية. وإذا واصل موسوي رسالته الجديدة -في دلالة على وجود رؤية مشتركة مع شخصيات أخرى في المعارضة- ستواجه المعارضة مسألة كيفية الرد على الشخصيات التي حاولت العمل داخل النظام الإيراني.
صحيح أن العديد من الذين احتجوا في إيران خلال الحركة الأخيرة هم من أبناء “الجيل زد” أو أشخاص لم ينتموا يوما إلى الجمهورية الإسلامية، لكن طريقة مقاربة بقية حركة المعارضة لموسوي ستكون مؤشرا رئيسيا على مدى توسع هذه الحركة مع انتشار خيبة الأمل في صفوف الإيرانيين الذين دعموا ذات مرة رؤية الجمهورية الإسلامية. وتشير الطبيعة الراسخة للجمهورية الإسلامية أن النجاح في محاربتها سيتطلب التعاون بين فرقاء الطيف السياسي الإيراني كافة الذين يسعون إلى تغيير الدولة بشكل جذري -بمن فيهم أولئك الذين أشادوا ذات مرة بالخميني كإمام.
الغد