يستمر الريال الإيراني في الانخفاض، لكن لا ينبغي لصناع السياسة في الغرب أن يفترضوا أن ذلك سيحفز طهران على تقليص مطالبها التفاوضية النووية.
منذ بداية العام، فقدت العملة الإيرانية أكثر من 17 في المائة من قيمتها مقابل الدولار في السوق المفتوحة. وبدأ الانخفاض الحالي في آب/أغسطس الماضي وتجاوز 600 ألف ريال للدولار في أواخر شباط/فبراير، مسجلاً رقماً قياسياً جديداً. وعلى الرغم من استعادة الريال بعض هذه الخسائر في الأيام القليلة الماضية، إلا أن حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي تتعرض لضغوط شديدة من أجل تأمين استقرار الوضع بشكل عام، بينما يتصارع الإيرانيون مع مزيج سام من التضخم المرتفع والنمو الفاتر. وسيزداد التحدي مع اقتراب عيد “النوروز” في وقت لاحق من هذا الشهر، لأن الطلب على العملة يزداد عادةً في فترة الأعياد حين يسافر الناس ويشترون الهدايا.
ومع ذلك، ينبغي ألا يَفترض واضعو السياسات الغربيون أن هذا الاضطراب سيرغم طهران على التصرف على الصعيد الدبلوماسي. فبدلاً من طلب المساعدة الدولية، تحاول الحكومة تهدئة اضطراب العملة باستخدام أدواتها الخاصة، وقد تكون قادرة على تيسير الظروف على المدى القريب – حتى لو لم يساعد ذلك الكثير على إصلاح مشاكل الاقتصاد الهيكلية طويلة المدى.
العوامل المحركة للانحدار الحالي
كما ذُكر أعلاه، من بين الأسباب الرئيسية لهبوط الريال هو التضخم المرتفع. فقد ارتفع متوسط أسعار المستهلكين في إيران في شباط/فبراير بنسبة تفوق 53 في المائة مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي، بينما ازدادت أسعار المواد الغذائية والمشروبات والتبغ بنسبة تفوق 70 في المائة. ويتتبع معدل التضخم الإجمالي تراجُع قيمة الريال خلال العام الماضي، وقد تَسببَ بارتفاعه عددٌ من العوامل، من بينها العجز الكبير والمستمر في الموازنة الذي تموّله الحكومة جزئياً عبر الاقتراض غير المباشر من “البنك المركزي” الإيراني.
ويتأثر الريال أيضاً بشكل خاص بالتطورات السياسية والمشاعر المحلية الإجمالية. فنظراً إلى الاحتجاجات الواسعة النطاق المناهضة للنظام على مدى الأشهر القليلة الماضية، والدعم العسكري الذي تقدّمه طهران لروسيا، وانهيار المفاوضات النووية، لا شك في أن المشاعر العامة بشأن المستقبل كانت سلبية. وعلى الأغلب، يعكس جزئياً انخفاض قيمة الريال منذ تَعثُّر المحادثات النووية في الخريف الماضي تقبّل المشاركين في السوق احتمال بقاء معظم العقوبات الثانوية الأمريكية سارية إلى أجل غير مسمى – مقابل تأثير أي عقوبات محددة فرضتها واشنطن مؤخراً. وما يُظهر الدور الكبير الذي يؤديه العامل النفسي هو تَحسُّن قيمة الريال بعض الشيء في الأيام القليلة الماضية، بعد زيارة مدير عام “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” رافايل غروسي لطهران، مما أثار بعض المشاعر الإيجابية.
وتتضمن المسببات المحتملة الأخرى للتحديات على صعيد العملة فرض المزيد من القيود مؤخراً على تدفق الأوراق النقدية بالدولار إلى العراق المجاور. ففي تشرين الثاني/نوفمبر، عزز بنك “الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي” شروط الامتثال التي يفرضها على الكيانات التي تسعى للوصول إلى إيرادات النفط العراقي، بهدف مكافحة غسل الأموال لصالح إيران، من بين نُظم قانونية أخرى. وسرعان ما أدت هذه الخطوة إلى انخفاض حاد في بيع الدولار في المزاد اليومي للعراق، مما أثّر على ما يبدو في توفر الدولار عبر الحدود.
ونظرياً، يمكن أن يكون ضعف الريال مفيداً للاقتصاد الإيراني من بعض النواحي – مثل جعل الواردات أكثر تكلفة والصادرات أكثر جاذبية، أو مساعدة الحكومة على كسب المزيد من الإيرادات بالريال من صادرات النفط، وبالتالي تقليل عجز الميزانية. وتفسر هذه العوامل لماذا يوصي “صندوق النقد الدولي” في كثير من الأحيان بأن تخفّض الحكومات من قيمة العملات استجابة للأزمات الاقتصادية.
إلا أن عامة الناس والنخبة في إيران يفسرون عادة تراجُع قيمة العملة كعلامة على ضعف الحكومة وعدم كفاءتها. ويربط الكثير من المواطنين أيضاً هذه الانخفاضات بارتفاع التضخم، إذ تستطيع الشركات المحلية استخدام القيمة الأدنى للريال كذريعة لرفع الأسعار حتى على السلع المنتَجة داخلياً. وبالتالي، واجه رئيسي انتقادات عامة وبرلمانية متزايدة بينما تكافح حكومته للحد من الانزلاق.
شبكة معقدة من أسعار الصرف
ظلت الحكومة تتخبط منذ سنوات لإدارة سعر الصرف. فكانت تُدرج بشكل دوري أسعاراً جديدة مصممة في البداية لتأدية وظيفة محدودة لكن عادة ما تصبح هذه الأسعار أكثر أهمية لاحقاً، بينما تُستخدَم الأسعار الأقدم والأدنى قيمة لعدد أقل من الأهداف. وغالباً ما أدى التلاعب بهذه الأنظمة المعقدة إلى فساد ملحوظ يستفيد منه الذين تجمعهم علاقات بشخصيات نافذة سياسياً. وقد ظهرت هذه الاتجاهات بوضوح تام في الأشهر الأخيرة.
قبل عام، كان من الممكن تداول الريال بثلاثة أسعار هي: (1) سعر رخيص جداً للواردات من السلع الأساسية والأدوية، سُمي السعر الرسمي؛ (2) والسعر الذي يستخدمه المستوردون والمصدرون في نظامٍ يُدعى “نيما”؛ (3) وسعر السوق المفتوحة. ووسط ارتفاع التضخم، يستخدم الكثير من الإيرانيين الدولارات التي يتم شراؤها من السوق المفتوحة لتخزين الثروة. إلا أن السوق المفتوحة ليست كبيرة بشكل خاص مقارنةً بسوق “نيما” – في الواقع، إنها صغيرة بما يكفي بحيث يمكن أن يكون لضخ “البنك المركزي” مبلغ صغير إلى حد ما من الدولارات تأثير واضح. لكن “المصرف المركزي” يملك مبالغ محدودة من الدولارات، وقد لا يكون مستعداً على الدوام لإنفاقها تحقيقاً لتلك الغاية.
وخلال العام الماضي، ألغت الحكومة السعر الأول وأضافت سعراً جديداً: “سعر متفق عليه” يسمح للمواطنين بشراء مبلغ ثابت من العملات الأجنبية من المصدّرين. كما تدخّلت بقوة أكبر في سوق “نيما” لإبقاء السعر قريباً من 285 ألف ريال. وكاستجابة للأزمة الأخيرة، عمدتْ إلى إنشاء “مركز صرف العملات والذهب“، حيث يستطيع المواطنون شراء العملات لأغراض غير تجارية. وإذا نُفّذ هذا النظام الجديد بنجاح، فقد يساعد في تهدئة السوق المفتوحة على المدى القريب.
وعلى وجه التحديد، يسمح “مركز صرف العملات والذهب” للمواطنين بشراء العملات الأجنبية التي تقاضتها الحكومة من صادرات السلع الأساسية. ويتعين على المشترين المحتملين إثبات أنهم بحاجة إلى العملة لهدف ما من أصل ثلاثةٍ وستين هدفاً محدداً، مثل دفع الرسوم الدراسية للطلاب، أو حاجة المرضى إلى تلقي رعاية طبية في الخارج، أو قيام المسافرين برحلات جوية إلى الخارج (على سبيل المثال، يُسمح للمسافرين بسحب ما يصل إلى 500 يورو). ويتولى “البنك المركزي” تنظيم هذه السوق عن كثب. وقد بلغ سعر الدولار أثناء كتابة هذا المقال، 436,700 ريال في سوق “مركز صرف العملات والذهب” مقابل 493,500 ريال في السوق المفتوحة.
كما أن إنشاء “مركز صرف العملات والذهب” يسلط الضوء على هدف طهران المتمثل في إعادة توجيه أكبر عدد ممكن من الإيرانيين من السوق المفتوحة إلى سوقٍ تستطيع الدولة السيطرة عليها. وتُصرّ الحكومة على أنها تملك ما يكفي من النقد الأجنبي لتغطية الطلب في السوق المنظمة، وقد حرصت على أن تفوق الدولارات المعروضة للبيع في هذه السوق تلك المطلوبة يومياً. وطالما تستمر هذه الديناميكية ويعمل برنامج “مركز صرف العملات والذهب” كما هو متوقع، ربما سيجتذب ذلك بعض الطلب من السوق المفتوحة، ويضبط سعر الصرف. وستجعل الحكومة على الأرجح هذا الثواب مقروناً بالعقاب المعتاد، مثل إرسال الشرطة الاقتصادية للقبض على المضاربين، وربما حتى محاولة حظر التداولات في السوق الحرة (على الرغم من أن النهج الأخير سيكون مصيره الفشل).
التداعيات السياسية
كما أُشير سابقاً، يجب ألا يفترض واضعو السياسات الغربيون أن هذا الاضطراب على مستوى العملة يشير إلى أي ضعف محتمل في الموقف النووي للنظام على المدى القريب، ناهيك عن تمسكه بالسلطة. فبدلاً من أن تسعى طهران بجهد إلى تخفيف العقوبات، تبدو عازمة على تعزيز الريال باستخدام الأدوات المحلية، وقد تُطَمْئن المؤشرات الأخرى قادتها بأنه يمكن السيطرة على الأزمة. والجدير بالذكر أن واشنطن لم تكن راغبة في شن حملة لكبح صادرات النفط الإيرانية، التي ارتفعت بشكل كبير ومنحت النظام المزيد من الموارد لدعم الريال.
لكن على المدى الأطول، يثير المسار الاقتصادي في إيران القلق، إذ يتباطأ النمو وينضب الاستثمار ويستمر التضخم في إضعاف مستوى المعيشة. وستُولّد هذه الاتجاهات محفزات كبيرة تؤدي إلى تجدد الاحتجاجات في المستقبل، لذا على العواصم الغربية تحسين مجموعة استجاباتها استعداداً لذلك.
هنري روم
معهد واشنطن