العراق يحل أزمة الكهرباء بأموال الغير، فأين تذهب أمواله

العراق يحل أزمة الكهرباء بأموال الغير، فأين تذهب أمواله

يمتلك العراق احتياطات مالية كبيرة ورغم ذلك اختارت الحكومة حل أزمة الكهرباء بأموال الغير، عبر عقود مع شركات خاصة تمكنها من إعادة بناء القطاع وبيع الكهرباء للمواطنين في حين تواصل شبكات الفساد طرقها في نهب أموال العراق وموارده.

بغداد – ترتبط أزمة الكهرباء في العراق ارتباطا وثيقا بحكومات ما بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، حتى أصبحت رمزا وعنوانا للفساد في النظام الجديد الذي أقامه الغزاة وخضع لسيطرة إيران على امتداد عقدين من الزمن.

وحيث أن الكهرباء سلعة حيوية لا غنى عنها، فإن أعمال الفساد فيها وفّرت سبلا سريعة للإثراء وتمويل الجماعات السياسية. ولكن اكتشاف طرق جديدة لأعمال نهب الموارد، يتيح الآن فرصا لحل مشكلة الكهرباء.

وتعتمد الطرق الجديدة على تجارة العملات وتهريب الأموال عن طريق العروض اليومية التي ينظمها المصرف المركزي لشراء مئات الملايين من الدولارات يوميا. وهي طريقة سريعة ومضمونة أكثر من طرق التعاقدات المعقدة، والمثيرة للشبهات التي ترتبط بشراء الغاز من إيران أو تجهيزات محطات التوليد بالمكائن وعقود الصيانة.

تكمن أهمية هذه الطرق في كونها لا تسمح فقط بالتخلص من مشكلة الكهرباء، وإنما لكي يتم تمويل الطرق الجديدة بسبيل غير مباشر. فباستثناء تعاقدات خدمات الصيانة والتشغيل، لمحطات التوليد القائمة، فإن محطات إنتاج الطاقة التي يحتاجها العراق بشدة يجري تمويلها بـ”استثمارات” خارجية، أي أن العراق سيحتفظ بأمواله (لمواصلة تجارة التحويلات النقدية) بينما تقوم الشركات الأجنبية بتمويل إنشاء المحطات الجديدة واستيفاء عائدات من استثماراتها لعقود قادمة من الزمن. وهو ما يشبه صناعة مصدر للطاقة، يدفع المواطنون ثمنه، بينما لا تساهم الدولة إلا بجزء بسيط من المسؤولية لأغراض تغطية تكاليف الخدمات، وليس تكاليف الأصول، ما يجعلها غير معنية بالعائدات التي تجنيها الشركات التي تمتلك تلك الأصول.

لقد ابتدعت الجماعات المهيمنة على النظام السياسي طرائق مختلفة من أجل النهب من خلال تعاقدات الدولة في مجالات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية الأخرى، إلا أن هذه الطريقة توفر لها سبيلا لجعل إيرادات النفط هي المصدر الأساسي لنهب الموارد.

الكهرباء سلعة حيوية لا غنى عنها وأعمال الفساد فيها وفرت سبلا سريعة للإثراء وتمويل الجماعات السياسية في العراق

وبلغت إيرادات العراق النفطية في العشرين عاما الماضية أكثر من 1124 مليار دولار. ومن الغريب أن كل هذه الأموال أنفقت من دون أن يتم حل أزمة حيوية واحدة مثل مشكلة الكهرباء.

ويعمد كل المسؤولين الحاليين والسابقين في الحكومات العراقية على انتقاد الفساد والدعوة إلى مكافحته، إنما على سبيل التورية ولتبرئة النفس. وهو أمر بات مألوفا للغاية، حتى بالنسبة إلى وزراء ورؤساء وزراء تم نهب مئات المليارات من الأموال خلال وجودهم في السلطة. ولا تتوفر سبل لملاحقتهم لأنهم يعتمدون في أعمالهم على “قطع الطرق على التحقيقات” التي يمكن أن تطالهم.

وتمهيدا لعقود استثمار أكبر، وقعت الحكومة على ثلاثة عقود مع شركة “سيمنز” الألمانية لتأهيل ثلاث محطات للطاقة الكهربائية. وتشمل على “أعمال التأهيل” لمحطات كركوك، ومحطتين أخريين في بغداد، هما الرشيد والصدر، وتستمر خدمة المحطات لمدة خمس سنوات، وهي محطات تنتج ما يصل إلى 1400 ميغاواط.

وتفاخر حكومة محمد شياع السوداني بأنها خفضت كلفة العقود بنسبة 30 في المئة. إلا أن هذه العقود التي لا تغطي سوى جزء محدود من الطاقة الإنتاجية المطلوبة، إنما تمهد السبيل لاستثمارات أساسية أخرى تقدمها سيمنز وغيرها من الشركات الأجنبية مثل جنرال إلكتريك الأميركية، وشركات صينية تم التعاقد معها مؤخرا.

وتستهدف عقود الخدمة الحالية إصلاحات أولية للبنية التحتية. وهي تشكل مجرد ضمانات بأن تلتزم الحكومة العراقية بتوفير التمويلات لإصلاحات أخرى بحيث يصبح من المعقول للشركات الأجنبية أن تأتي باستثماراتها لإعادة بناء قطاع الكهرباء، بأموالها الخاصة.

الواقع الحالي شديد السوء ليس لأنه يعتمد على استيراد الغاز الإيراني بينما يحرق العراق الغاز المصاحب لإنتاجه النفطي، بل لأنه يعتمد على بنية تحتية متهالكة أيضا. وبناء على هذه البنية، فإن كل ما ينتجه العراق من طاقة كهربائية يبلغ نحو 24 ألف ميغاواط، أما الاحتياجات الحقيقة فإنها تبلغ 32 ألف ميغاواط فقط من أجل معالجة انقطاعات الكهرباء عن المساكن. أما الاحتياجات الصناعية، فإنها تزيد عن 24 ألف ميغاواط، ما يعني أن العراق لا يزال بحاجة إلى محطات توليد تكفي لإنتاج ما لا يقل عن 32 ألف ميغاواط أخرى، وهو ما يوفر لشركات الطاقة مجالات لتحقيق أرباح طائلة، كان يمكن للخزانة العراقية، أن تحولها لصالحها، حتى مع إمكانية التعاقد على شراء محطات توليد كاملة، أو بناء محطات طاقة نووية، بتكاليف تتراوح بين 15 و20 مليار دولار تكفي لسد احتياجات العراق وتحقق أرباحا.

ويقول مراقبون إن العراق الذي يمتلك احتياطات مالية تبلغ 115 مليار دولار، وينتج نحو 5 ملايين برميل من النفط يوميا، ليس بحاجة إلى تمويلات خارجية لتغطية تكاليف بناء محطات طاقة جديدة. إلا أن الحكومة الحالية، تريد أن تحتفظ بالأموال لأغراض أخرى، من دون أن تلاحظ أن الثمن سوف يدفعه مستهلكو الكهرباء الذي تنتجه تلك الشركات بما فيهم الحكومة نفسها.

الأمر يبدو في الظاهر وكأنه “إنجاز” إلا أنه يقصد في الحقيقة إتاحة الفرصة لمتابعة إنفاق الأموال بالطرق القائمة الآن والطرق القديمة أيضا، أي إنفاق الأموال على مشاريع وهمية أو لا يتم إنجازها. فبينما لا تتكلف الحكومة شيئا لبناء محطات إنتاج الطاقة، فإنها “تستفرد” بأموال الخزانة العامة للأغراض نفسها التي أدت إلى ضياع مئات المليارات من الدولارات من قبل.

وثمة سلسلة طويلة من الأمثلة على أوجه التبديد السابقة. فقد أورد وزير الكهرباء العراقي السابق قاسم الفهداوي في تصريحات أعقبت استقالته في العام 2018 أن “البعض يعتقد أن مشكلة الكهرباء حلها بيد الوزارة فقط، لكن الحقيقة أن المشكلة متداخلة تشترك فيها وزارتا النفط والمالية والأجهزة الأمنية في إطار صراعات رهنت استقرار تجهيز الطاقة الكهربائية بالشريان الإيراني”.

وأضاف أن “وزارة النفط منذ 2008 وعدت بتوفير الغاز في عام 2013 لكل المحطات، وعلى هذا الأساس ذهبت وزارة الكهرباء باتجاه التعاقد للحصول على محطات، وبعد وصول الأخيرة وجدت وزارة الكهرباء أن الغاز غير متوفر لتلك المحطات، ما اضطرها للتعاقد مع إيران لتوريد الغاز”.

أما وزير الكهرباء الذي سبقه عبدالجبار لعيبي فقد حاول استثمار الغاز في حقل نهران عمر، لكنه واجه عراقيل وضعتها الأحزاب الموالية لإيران لمنع الاستفادة من هذا الحقل الذي “كان بإمكانه توفير 75 في المئة من كمية الغاز القادم من إيران وبتكلفة بسيطة جدا”.

وبعد أن بلغت ديون العراق لصالح إيران نحو 11 مليار دولار، من صفقات الغاز غير الضرورية، فقد أصبح تخفيض استخدام الغاز الإيراني هدفا مقبولا، حتى لإيران نفسها، طالما أن أعمال تهريب الدولار إليها، عن طريق تسهيلات مصرفية، ستظل قائمة.

وكشف وزير كهرباء مستقيل آخر هو ماجد مهدي حنتوش عن صرف نحو 80 مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ 2003 حتى العام 2021 كموازنة تشغيلية واستثمارية إلا أن الإنتاج ظل محدودا بما لا يتجاوز 17 ألف ميغاواط.

الآن لم تعد هناك حاجة للاستمرار في تلك اللعبة المعقدة لشراء معدات وتخريبها لشراء غيرها، أو توقيع عقود وهمية لصيانتها. فقد أصبح بوسع الحكومة العراقية أن تعتمد على شركات أجنبية تأتي بالتمويلات لتنتج الكهرباء، بينما تتخذ الحكومة العراقية موقف المتفرج الذي يزعم أنه حقق “إنجازا”، وأنفق ما لديه من أموال على ما يظل ينفقه من قبل.

العراق الذي يحصل على ريع من صادرات الطاقة (النفط)، سوف يعود ليدفع الثمن من واردات الطاقة (الكهرباء) التي تنتجها الشركات الأجنبية، أي أن ما يأتي ليده اليمنى يتبدّد من يده اليسرى.

العرب