كان مدهشاً حد الصدمة أن يستيقظ العالم عموماً والإقليم على وجه الخصوص في العاشر من مارس (آذار) 2023 على وقع نبأ توقيع اتفاق يمهد لعودة العلاقات بين السعودية وإيران. وقد رحب به كثيرون باعتباره تمهيداً لتوافقات ستنعكس إيجاباً في حال تحققها، على الأوضاع الداخلية في عدد من العواصم العربية، وفي الوقت نفسه فإنه أزعج الذين كان يتمنون استمرار الخلاف بين السعودية وإيران، إذ يرون في أي تقارب بين البلدين فرصة لطهران لمزيد من النفوذ لها ولحلفائها في بلدانهم، غير مدركين أن الرياض قادرة على حماية مصالحها دونما حاجة إلى نصائح من أحد، ولا هي آبهة بالتحذيرات التي تنتقص من صلابة الدولة السعودية ومؤسساتها.
إن المقاربة لفهم اتفاق بكين الذي وقعه مستشارا الأمن الوطني السعودي والأمن القومي الإيراني تدل على أنه لم يكن نتيجة لضغوط مورست على العاصمتين، لكنه جاء محصلة لمفاوضات تواصلت لأشهر عدة برعاية عمانية وعراقية. ومن الملاحظ أن عواصم عربية عدة تترقب عن كثب وتسعى إلى معرفة انعكاسات هذا الاتفاق على أوضاعها الداخلية، فعلى سبيل المثال يتساءل اللبنانيون عن إمكانية حدوث تفاهمات تسمح بالتعجيل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والسوريون يتمنون أن يؤدي الاتفاق إلى وقف الحرب المستعرة منذ أكثر من عشر سنوات، والعراقيون يودون أن ينتج منه استقرار الأوضاع الداخلية ووقف التناحر بين الطوائف والمناطق، وأيضاً فإن كثيراً من اليمنيين يرون أنه سيدفع نحو تمديد الهدنة لمدة طويلة تعطي فرصة للبحث في السير نحو المشاورات سياسية بين الحكومة وجماعة “أنصار الله” الحوثية، تسمح بوقف نهائي للحرب وربما إحلال السلام.
ما يجب أن يكون مفهوماً أن القراءة المتأنية للاتفاق تستدعي أن تأخذ في الاعتبار أن كلاً من الرياض وطهران تفهمان الدور الإقليمي الأساسي الذي يتحملان مسؤولية استقرار أوضاعه، ويدركان أن الجغرافية لا يمكن تغيير معادلاتها ولا استبعاد تأثيراتها في التاريخ والعلاقات السياسية بين الدول، وهكذا فإنهما قررتا بداية أن المبدأ الأساسي لأية علاقة سوية بينهما يرتكز على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، بحسب ما جاء في الإعلان.
من الطبيعي أن العبء الأكبر يقع على الحكومة الإيرانية لاتخاذ الخطوات العاجلة لاستعادة الثقة في إرادتها تغيير نهجها تجاه جيرانها، فليس خافياً أن تدخلاتها في غير بلد عربي تسببت في الإخلال بمبدأ حسن الجوار الذي يعود بالنفع عليها وعلى بلدان المنطقة. وفي هذا السياق، فإن محمد السلمي المتخصص في الشؤون الإيرانية، وضع سؤالاً مهماً للغاية حول ما إذا كانت إيران ستلتزم ببنود الاتفاق، ورد هو نفسه على ذلك بالقول إن “كل ما صدر في الإعلام الإيراني منذ الجمعة مرحب جداً بالاتفاق، لأنه بتأييد خامئني شخصياً وبتوجيه منه شخصياً إلى المؤسسات الإعلامية”، وأضاف أنه “في هيكل صناعة السياسات الفعلية في إيران، فإن مجلس الأمن القومي أعلى من رئاسة الجمهورية وأقرب إلى المرشد”.
لقد كانت التدخلات الإيرانية في عموم المنطقة سلبية في مجملها، وإذا كان بعضهم يجادل بأنها قد اكتسبت نفوذاً كبيراً في مقابل استثماراتها في حلفائها، فمما لا شك فيه أن ذلك انعكس سلباً على علاقاتها بالجوار وجعلها موضع الشك في كل تصرفاتها وأفعال الكيانات التي تدعمها سياسياً وإعلامياً وتسليحاً. وسيظل الجميع منتظراً لمعرفة الجواب إذا ما كانت طهران ستلتزم بما وقعت عليه؟ وهل ستساهم بجدية وحسن نية في التعاون الصادق مع الرياض لفكفكة الأزمات المتشابكة في بعض العواصم؟
ستبقى كل هذه الأسئلة من دون جواب إذ لا يكفي التوقيع على اتفاق لتجاوز أية أزمة ثم العودة إلى مربع الخصومة والعداء، ولربما تكون الساحة اليمنية هي الأقرب لتبيان التحول في صفحة الخصومة، فتعمل إيران مع السعودية لوقف نزف الدم في اليمن واستخدام نفوذها لدى جماعة “أنصار الله” الحوثية لدفعها إلى القبول بالتعامل الإيجابي مع مساعي الأمم المتحدة في تمديد الهدنة، ثم وقف إطلاق النار الشامل والذهاب إلى مشاورات سياسية من دون شروط مسبقة من أي طرف كان.
وفي هذا السياق، فمن الحكمة أن تستغل الحكومة اليمنية هذه الفرصة التاريخية، وأن تتفهم أهمية قيامها بالتواصل المباشر وبحث القضايا العالقة كافة مع الحكومة الإيرانية بدلاً من الانغماس في النشاط الإعلامي غير المؤثر، ولن يقلل هذا التحرك الضروري والعاجل من حقوقها ومصالحها، بل على العكس من ذلك، سيكون ملائماً مع التوجهات الجديدة في إغلاق الملفات المفتوحة الكثيرة في الإقليم، التي تسببت في خلق بؤر صراعات مؤذية ومدمرة، للانتقال من مربعات الحروب المسلحة والتراشق الإعلامي نحو البحث الجاد والمباشر حول كل القضايا. ومن المؤكد أن مثل هذا التحول شديد الإيجابية في مقاربة الأزمات الكبرى هو من دون شك أفضل من النشاط السلبي الذي يعمق من سوء الأوضاع ويفسح المجال للراغبين في الاستفادة منها.
بيان بكين هو بداية طريق طويل فيه من العوائق الكثير وسيواجه محاولات لنسف الجسور التي من خلالها يمكن خلق أجواء من الصداقة والتعاون المشترك. وتدرك العاصمتان أنهما بحاجة إلى التفرغ لقضايا التنمية والاستثمار بدلاً من الانشغال بالصراعات واستنزاف الموارد التي تمتلكانها في التسلح والمواجهات البينية. فالرياض تمر بطفرة اقتصادية ومالية مذهلة ستضعها في صدارة الدول الجاذبة، بينما طهران تريد الخروج من حال الاختناق المالي والمعيشي والخدماتي الذي تعانيه منذ عقود بسبب العقوبات وتدهور علاقاتها حد القطيعة مع أغلب جيرانها في الإقليم.
اختبار حاسم سيتابعه الجميع على أمل عودة الهدوء إلى المنطقة، واليمنيون كما اللبنانيون والعراقيون والسوريون يعولون على أن يجلب التعاون بين البلدين المهمين سلاماً واستقراراً وهدوءاً افتقده مواطنو هذه الدول، على أمل أن ينقذهم للخروج من حال الحرب والدمار ونزف الدماء.
اندبندت عربي