لم تنجح إيران في السيطرة على عشرات الآلاف من مواطنيها اندفعوا عبر الحدود العراقية في منفذ زرباطية بين البلدين يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فحطموا المنفذ واعتدوا على العراقيين فيه، وتجاوزوا تأشيرات الدخول في طريقهم لأداء زيارة الأربعين في كربلاء، التي وصلوها من دون الحاجة إلى تأشيرة وجواز سفر، ومن دون الخضوع لتفتيش، أو حتى أن يتم سؤالهم: «ماذا إذا كان إرهابيون قد اندسوا بينكم»؟
السلطات الإيرانية التي تعد أنفاس أكثر من 80 مليون إيراني، وتحكمهم بقبضة من حديد من الشرطة والجيش إلى الحرس الثوري والباسيج، وجدت نفسها فجأة عاجزة عن السيطرة على الإيرانيين في جانبها من الحدود، فهتف ضابط حرس الحدود الإيراني للجموع كأنه يعيرنا: «لا بأس… هؤلاء مؤمنون يرومون زيارة العتبات المقدسة، ماذا في ذلك؟ ماذا عن آلاف من مقاتلي «داعش» العرب والأجانب الذين يقتحمون الحدود يومياً بهدف قتل العراقيين؟». قبل أيام من هذا الحدث، أرسلت بلدية طهران موظفيها وآلياتها لتنظيف وتأهيل شوارع كربلاء، التي دفعت لحمايتها من «داعش» قاسم سليماني مصحوباً بعناصر حرس الثورة.
كربلاء شأن إيراني داخلي قبل أن يكون عراقياً! هذا ما يحاول الإيرانيون قوله منذ سنوات بطرق مختلفة، ونتائج واحدة، وهذا ما لا يريد العراقيون فهمه، عندما يتحدثون عن «جوار تاريخي» و «علاقات ثقافية ودينية».
يبالغ العراق عندما يصف نفسه جاراً، فإيران من حقها الحديث يومياً عن كل شأن عراقي، تعترض على سياسة حكومته، وتدير لعبة المصالح والمال والسياسة فيه، وتتدخل في قوانين البرلمان، وفي صفقات التسلح، وفي بلديات المدن.
من حق رئيس الأركان الإيراني، حسن فيروز آبادي، إهانة الملايين من العراقيين المتظاهرين والمتعاطفين مع مطالب احتجاجات تجرى داخل حدود العراق وتسعى إلى الإصلاح السياسي، ومكافحة الفساد، وإيقاف استخدام الدين كمادة للمتاجرة السياسية، بوصمهم بأنهم يتبعون فئات غير مسلمة وأجندات خارجية، لكن لن يحق لضابط حرس الحدود العراقي اعتراض طريق سيول بشرية تقتحم حدود بلاده بتواطؤ وربما بـ «تخطيط» نظرائه الإيرانيين.
يبالغ العراقيون كثيراً، عندما ينظرون إلى حادثة زرباطية باعتبارها تهديداً واعتداءً، أو طعناً في السيادة. فمقال كاتب ينتقد فيه السياسة الإيرانية في بلاده يمكن أن يجلب له تهديدات مباشرة من رجال إيران العراقيين مُتهماً بالمساس بسيادة دولة صديقة لم تتوان عن دعم العراق والدفاع عنه، أما اقتحام عشرات الآلاف من الغرباء الحدود العراقية فلا يعدو أن يكون «خطأ إدارياً».
أين كانت الملايين الإيرانية العابرة للحدود خلال السنوات السابقة؟ لماذا لم يحدث «الخلل الإداري» إلا في هذا الموسم؟ الإجابة في الواقع كوميدية قليلاً. فالحكومة العراقية التي تتحمل تكلفة مالية هائلة لإحياء المناسبات الدينية، ارتأت وسط الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها العراق تحديد مبلغ يعادل 40 دولاراً اميركياً، كتأشيرة لدخول الزوار الأجانب يتقدمهم الإيرانيون! إنها الحكومة العراقية إذاً؟ حكومة حيدر العبادي نفسها التي تقاوم منذ شهور ضغوطاً إيرانية غير مسبوقة للسماح رسمياً لروسيا بتنفيذ ضربات جوية داخل العراق وإخراج التحالف الدولي من معادلات الحرب.
لم يُقنع قرار العراق السماح بعبور الصواريخ والطائرات الروسية أجواءه باتجاه سورية الإيرانيين ولا الروس ولا بشار الأسد، على رغم أن هذا القرار يكلّف إقليم كردستان، على الأقل، ثمناً باهظاً بسبب مضايقة تلك الصواريخ لحركة الطيران المدني، وإعلان عدد كبير من شركات الطيران إيقاف رحلاتها تحسباً لكارثة جوية قد تحدث في أية لحظة.
كان حديث بعض المسؤولين العراقيين عن ضرورة فرض التأشيرات على صعيد استثمار المناسبات الدينية لتمكين المدن التي تضم المراقد المقدسة من مواجهة الخسائر المالية الكبيرة والأضرار الفادحة التي تلحق ببناها التحتية كل عام، بالإضافة إلى المساعدة في توفير الأمن والخدمات الغذائية والسكنية والصحية لملايين الزائرين، أشبه بخيالات الظهيرة. فمبلغ 40 دولاراً للزائر الأجنبي كتأشيرة دخول لا تسد أساساً عُشر تكلفة المناسبة، ومع هذا فهي مرفوضة إيرانياً على المستوى الرسمي والشعبي أيضاً.
زيارة المراقد المقدسة حق تكفله الحكومة العراقية للمسلمين من كل طوائفهم، وهذا واجب عليها، لكن هذا الحق لا يعني «الاجتياح» على طريقة زرباطية ولا تحويل تلك المناسبات على يد مجموعات إيرانية إلى فرصة لتوتير البلد المتوتر أساساً، عبر نشر السلوكيات والممارسات الممنوعة قانوناً حتى داخل إيران نفسها، مثل النيل من الرموز الدينية للطوائف الأخرى، أو التوسع في نشر مشاهد الدم والتطبير. تمتلك الحكومة العراقية في المقابل حقها في تنظيم المناسبات الدينية ومنع الفوضى، وتوفير الحماية المطلوبة لها في بلد يعاني نكسات أمنية متتالية، ومحاولات محمومة للتنظيمات الإرهابية في ضرب تلك المناسبات، وتكريس ثقافة التكفير والكراهية داخل المجتمع.
أقامت الحكومة الإيرانية الدنيا ولم تقعدها خلال أحداث تدافع منى في موسم الحج الأخير، ووصل الأمر إلى المطالبة بتدويل عملية إدارة مناسك الحج، ولن تتوانى عن مطالبة بغداد مستقبلاً بإشراف مباشر على المناسبات الشيعية، لكن إيران بدورها تقدم زرباطية كنموذج حي لمشاركتها في إدارة المناسبات الدينية، ولفلسفتها الخاصة عن الحدود التي تنهار أمام الشعارات الدينية.
كيف تعاملت الحكومة العراقية مع الحدث؟ وهل كان بإمكانها اعتبار مقتحمي الحدود متسللين غير شرعيين؟ هل كان بإمكانها اعتقالهم وإعادتهم إلى بلادهم، كسلوك أكثر هدوءاً من محاكمتهم؟ لن تلام بغداد على ذلك لو فعلت، لكنها ستدفع ثمنــاً أكبـر بكثيـر من إزالة أقـدام الإيرانيين آثار علاماتها الحدودية، بمناسبة اليوم ومن دون مناسبة غداً، لذلك صمتت، بل سارعت إلى إصدار أمر بإعـفاء قرابة نصف مليون من مقــتحمي الحدود من إجراءات التأشيـــرة، مع أنها لم تتمكن من إعفاء عراقيين نازحين جار عليهم الزمن و «داعش» من شروط الكفيل لدخول بغداد.
لنصمت إذاً… فنحن مطالبون بالصمت في كل مرة. حدود العراق في النهاية، لم تعمدها دماء مئات الآلاف من شبابه، فهي مرسومة بأقلام الرصاص ليس إلا، وكل جارٍ يحملُ مِمحاته!
مشرق عباس
صحيفة الحياة اللندنية