خالف الجيش الأوكراني في حربه ضد روسيا وتصديه لها التوقعات. ويرد محللون كثيرون نجاحه إلى المساعدات التي تلقاها من الولايات المتحدة. ولكن المساعدات وحدها ليست ضمانة أكيدة لإنجاز نتيجة إيجابية عملية. فالولايات المتحدة في نهاية المطاف، تقدم مساعدات أمنية لدول كثيرة، وتبدو نتائج ذلك متفاوتة ومتباينة. فمليارات الدولارات التي أُنفقت في إطار الدعم والمساعدات، وعقود سنوات من التدريب والاستشارة وبناء المؤسسات، لم تمنع جيشي أفغانستان والعراق من الانهيار. وبذلت جهوداً أقل في أمكنة مختلفة من العالم أنتجت ما يسمى بـ جيوش “البيضة الثمينة”، وهي تشكيلات عسكرية ينفق على بنائها الكثير، لكنها تتهشم بسهولة.
وأحد الأسباب البارزة لنجاح المساعدات الأمنية في دعم جهود أوكرانيا الحربية، علماً بأن نمط المساعدات المذكور فشل في أماكن أخرى من العالم، يتصل بطبيعة وحماسة واندفاع القيادة الأوكرانية نفسها. فلو لم يكن القادة جاهزين لإعطاء الأولوية للإصلاحات المؤسسية التي تقوي جيوشهم، لم يأت الدعم الخارجي سوى بنتائج ضئيلة. وتجربة أوكرانيا في هذا السياق تفصح عن أمور كثيرة. فبين سنة 2014 ومطلع 2022، رحب المسؤولون في أوكرانيا بتلقي مساعدات من الولايات المتحدة، واتبعوا النصيحة الأميركية بإجراء تغييرات ضرورية حسنت من فاعلية القوى المسلحة الأوكرانية. لكنهم لم يجروا إصلاحات مؤسسية تهدد المصالح السياسية والخاصة لأوساط نافذة (في البلاد). إلا أن ذلك تغير في فبراير (شباط) 2022، عندما بدأت روسيا اجتياحها الشامل. فالهجوم الروسي حفز القيادة الأوكرانية على التخلي عن المصالح الضيقة، ودعاها إلى تنفيذ سلسلة من الإصلاحات والتجديدات التي تتعلق بالميدان، وتساعد على رفع مستوى أداء أوكرانيا في الحرب. وأدت حماسة القادة الأوكرانيين اللامعة، في الوقت عينه، إلى اختزال مهمة مد البلاد بالمساعدات العسكرية والأمنية. ولم يبق ثمة حاجة لإقناع المستشارين الأميركيين القادة الأوكرانيين بما يحسن فعله. فهؤلاء يتمتعون بالحماسة والقناعة الذاتية الكافية للقيام بالإصلاحات وتنفيذها. وما تحتاجه أوكرانيا من الولايات المتحدة الآن لأجل إنزال الهزيمة بالاجتياح الروسي هو الأسلحة والذخيرة. وقد عملت الولايات المتحدة على تأمين تلك المتطلبات التي كان لها فعالية استثنائية على أرض المعركة.
يمكن قيادة الحصان إلى الماء
وفي مارس (آذار) 2014، قامت روسيا بضم القرم، وأطلقت عمليات توغل في شرق أوكرانيا. وفي رد على ذلك زادت الحكومات الغربية من دعمها الأمني لـ كييف، فخصصت الولايات المتحدة، بين عامي 2014 و2022، قرابة ملياري دولار للتدريب العسكري (للقوى المسلحة الأوكرانية) وإصلاح قطاع الأمن. وفي السياق هذا، أظهر القادة الأوكرانيون، في وجه العدوان الروسي، حماسة كافية حملتهم على تبني بعض التوصيات الأميركية، وذلك في مجال تدريب الوحدات القتالية وإعدادها وتسليحها. وتلك ناحية رأت فيها كييف فرصة للتطوير. إلا أن الجهود الأميركية الرامية إلى تشجيع الإصلاحات في مؤسسات الدفاع الأوكرانية لم تثمر تماماً، ومست ببعض مصالح داخل المؤسسة الدفاعية. فمثلاً، قام المستشارون العسكريون الأميركيون بتدريب قوات العمليات الخاصة الأوكرانية الجديدة على عمليات سرية وتخريبية خلف خطوط العدو، وعلى أساليب الحرب المعلوماتية – النفسية. وفي مركز التدريب بـ يافوريف، قام المستشارون العسكريون الأميركيون والغربيون بتدريب الجنود الأوكرانيين على التكتيكات القتالية، وعلى الطب العسكري، وتفكيك العبوات المتفجرة المرتجلة الصنع. وبتشجيع من الولايات المتحدة أجرت أوكرانيا إصلاحات في قطاع الضباط غير المتفرغين. فطورت مناهج إدارة شؤون الأفراد. ورحب القادة الأوكرانيون بتلك الجهود لأنها عززت الفاعلية القتالية الأوكرانية من دون المس بهيكلية المصالح داخل المؤسسات. ولكن عندما أوصى المستشارون الأميركيون بمزيد من الإصلاحات الجدية في قطاع الأمن، لم يقم الأوكرانيون سوى ببعض التغييرات الشكلية. ورأت كييف في إصلاح المؤسسات السياسية، وتفعيل الإصلاحات في القطاع الأمني، عبئاً إضافياً، وشأناً أقل إلحاحاً من مهمة تطوير مستوى التكتيكات (القتالية). وتلكأ المسؤولون الأوكرانيون عن تنفيذ الإصلاحات التي اقترحها الأميركيون لأجل زيادة التحكم المدني في القوى العسكرية، وتوسيع مجال التعليم العسكري الاحترافي، والتخلص من الفساد المستشري في نظام التجهيز العسكري (نظام مشتريات الأسلحة والتجهيزات). وعلى رغم النجاحات المبكرة في تعزيز الإشراف المدني بوزارة الدفاع، قام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بتعيين ضابط كبير من الجيش، هو الجنرال آندري تاران، وزيراً للدفاع، فسارع تاران إلى إنهاء تلك المبادرات (الساعية إلى تعزيز الإشراف المدني على القطاع العسكري). وإلى هذا، تدخلت وزارة الدفاع، التي يتولاها تاران، ووزارة الصناعات الاستراتيجية، في عمليات إصلاح قطاع المشتريات العسكرية، وفشلتا في إجراء طلبات جديدة لأنواع أسلحة بالغة الأهمية. وينتج قطاع التصنيع العسكري الأوكراني أسلحة ممتازة مضادة للدبابات، هي الـ “ستوهنا – بي” (Stuhna-P)، بيد أن وزارة الدفاع الأوكرانية لم توصِ بتصنيع كميات كافية منها في سنة 2021. وعندما بدأت روسيا اجتياحها في فبراير (شباط) 2022، اضطرت أوكرانيا إلى استهلاك كميات الـ “ستوهنا – بي” التي صنعتها لزبائن من الشرق الأوسط. وقاتل الأوكرانيون في مواجهة الجيش الروسي بأسلحة أوكرانية مجهزة بوسائط بينية باللغة العربية. ولو قطعت الإصلاحات الفعالة شوطاً أكبر في تعزيز التحكم المدني في الجيش، وفي قطاع التجهيز العسكري، لتمتعت كييف بجهوزية لخوض حرب بهذا الحجم أفضل من حالها الفعلية.
مضاعفة الاستعداد
في فبراير 2022، أطلقت روسيا حرباً شاملة على أوكرانيا. وأمام الخطر الداهم، المباشر والوجودي، ركزت كييف على أولوية وحيدة: زيادة فاعلية قواتها التي تقاتل روسيا إلى أقصى حد ممكن. واقتضى ذلك إجراء إصلاحات في المؤسسات الدفاعية وزيادة التعاون الأمني مع الغرب. وكانت كييف في حاجة ماسة للذخائر والأسلحة الغربية، وتولت الولايات المتحدة تأمينها لها. والأسلحة وعمليات التدريب التي قدمتها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى أدت دوراً حاسماً في ترجمة عزيمة أوكرانيا القتالية إلى نجاحات على أرض المعركة. وقدمت الولايات المتحدة التجهيزات التي تمس الحاجة إليها، مثل الأسلحة المضادة للدبابات، ومدافع الـ”هاوتزر”، وأنظمة إطلاق الصواريخ السريعة الحركة (هيمارس HIMARS)، والصواريخ المضادة للسفن، وأسلحة الدفاع الجوي، وعربات القتال البري والدبابات. والقوى المسلحة الأوكرانية، من جهتها، تعلمت سريعاً استخدام أنظمة سلاح جديدة، وحررت آلاف المدنيين الأوكرانيين من الاحتلال الروسي في مناطق وأقاليم كييف وخاركيف وخيرسون.
التبرع بالمال للقوات المسلحة الأوكرانية بات روتيناً يومياً لآلاف الأوكرانيين.
الخطر الوجودي الذي مثلته روسيا فعل ما لم تستطع أن تفعله الدعاوى والنصائح الأميركية وحدها – فحفز كييف على مواجهة الفساد في قطاع التجهيز العسكري. وفي يناير (كانون الثاني) 2023، زعم الإعلام الأوكراني أن وزارة الدفاع على وشك تسديد مبالغ زائدة (على الحد المقبول) لمزودي وموردي أطعمة الجنود الأوكرانيين. وأدت الفضيحة إلى جلسات استماع ومساءلة في البرلمان الأوكراني، وإلى تحقيقات ورفع جزئي للسرية عن ميزانية شراء التجهيزات الدفاعية – ويعتبر هذا خطوة جريئة نحو الشفافية. وتبدو هذه مثيرة للدهشة في ظل الحرب المستعرة. وإلى ذلك، أقالت وزارة الدفاع رئيس دائرة مشتريات الأسلحة، وتقدم نائب الوزير (وزير الدفاع) باستقالته طوعاً. وفي قضية أخرى منفصلة، قام جهاز الأمن الأوكراني باعتقال رئيس إحدى الشركات الأساسية لتصنيع التجهيزات الدفاعية بتهمة فساد مفترضة. ويمكن القول إن السلطات والشعب في أوكرانيا غدوا، أمام الخطر الوجودي المحدق بهم، أقل تسامحاً مع الفساد المستشري الذي ابتليت به البلاد منذ استقلالها سنة 1991.
وكانت أوكرانيا نفذت إصلاحات ليس لها أي علاقة بالمساعدة الأمنية الأميركية. فمنذ سنة 2014، طورت الحكومة الأوكرانية قاعدة قانونية وقدرات مؤسسية جديدة لتحريك فيالقها الاحتياطية وتدريبها ونشرها– وهذا يعد ثمرة جهد كبير قام به المجتمع المدني الأوكراني والحكومة والجيش. وعلى المثال هذا، اضطلع المجتمع المدني الأوكراني بدور جبار في تأمين المعدات الضرورية والخدمات إلى جبهات القتال. فمثلاً، قامت مؤسسة “عودوا على قيد الحياة” (Come Back Alive)، المنظمة غير الربحية الهادفة إلى تجهيز القوات المسلحة الأوكرانية، بتحسين وتطوير عملية شراء الأسلحة والمعدات العسكرية – وتجاوزت بيروقراطية وزارة الدفاع – من طريق تمويل جماهيري لمشتريات أجهزة الاتصال، والكومبيوترات المحمولة، والمولدات الكهربائية، والمناظير الليلية، والطائرات المسيرة المتطورة، للاستخدام في العمليات القتالية والاستطلاعية. وكذلك قام “المستشفائيون” (Hospitallers)، وهم جمعية من المسعفين المتطوعين، بتدريب مئات المسعفين للعمل على جبهات القتال، وإخلاء آلاف المقاتلين والمدنيين الجرحى منذ سنة 2014. وغدا دعم القوى المسلحة الأوكرانية بالتبرعات روتيناً يومياً لآلاف المواطنين والشركات في أوكرانيا. ومنذ فبراير (شباط) 2022، تلقت منظمة “عودوا على قيد الحياة” ما يقارب 163.5 مليون دولار، 80 في المئة منها مصدره تبرعات أفراد لا يزيد تبرع الواحد منها على 27 دولاراً. وعلى رغم تماشي هذه الإنجازات مع أهداف المساعدة الأمنية الأميركية، تبقى على حدة من التأثير الغربي ومستقلة عنه، فلا يجوز إدراجها في سياقه.
المكسب الكبير
والدعم الأمني الأميركي يؤتي ثماره على أحسن وجه عندما يكون قادة الدول التي تتلقى الدعم والمساعدة، مصممين ومصرين على تقوية جيوشهم وتعزيزها. والحرب المحتدمة في شرق أوكرانيا بين العامين 2014 ومطلع 2022 لم تكن كافية لحمل القيادة الأوكرانية على إجراء تغييرات حاسمة في القطاع الأمني. واقتضى إقناع كييف بتبني الإصلاحات، واستيعاب الحد الأقصى من المساعدات الأميركية، اندلاع حرب هي الأعظم على الأرض الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. ويبقى الأوكرانيون وحدهم مسؤولين عن تطبيق كثير من الإصلاحات والتجديدات منذ اجتياح عام 2022. ولكن الأسلحة والذخائر التي قدمتها الدول الغربية مكنت أوكرانيا من الصمود والقتال في وجه روسيا على نحو جوهري. ونجاح أوكرانيا هذا لا يدل على أن المساعدة الأمنية الأميركية سحرية الأثر، بل على أن المساعدة مثمرة جداً عندما يتلقاها من هم على استعداد لاجتراح المستحيل في سبيل تعزيز قواتهم المسلحة.
اندبندت عربي