تفكيك الأساطير المالية: سجلات مسربة تكشف ميزانية “داعش” في دير الزور السورية

تفكيك الأساطير المالية: سجلات مسربة تكشف ميزانية “داعش” في دير الزور السورية

4054

يمتلك تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الكثير من المال، لكننا لا نعرف على وجه اليقين مقدار هذا المال أو من أين يأتي، وهذا هو السبب وراء الاهتمام بتسريب نادر لسجلات داعش التي نشرتها في شهر اكتوبر 2015 مدونة Jihadologyالتابعة للباحث آرون زيلين، زميل ريتشارد بورو في معهد واشنطن، وهو أيضًا طالب مرشح لنيل شهادة الدكتوراه في “كلية كينغ في لندن” وزميل في “المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي” المرتبط بالكلية.

السجلات المالية الداعشية:
يشير الباحث أيمن جواد التميمي، الزميل في منتدى الشرق الأوسط في الولايات المتحدة والباحث في مركز “هيرتزيليا” الإسرائيلي،  والذي قام بنشر التسريبات إلى أن هذه السجلات قد جاءت من محافظة دير الزور في شرق سوريا التي تسيطر داعش بقوة على الجزء الأكبر من أراضيها منذ يوليو لعام 2014.

وحصل التميمي على هذه الوثائق من ديوان بيت المال في محافظة دير الزور (ولاية الخير) الواقعة في شرقي سوريا، وهي تلقى لأول مرة نظرة على ميزانية الدولة الإسلامية وحسابها الذي أعدته بنفسها عن شهر ربيع الأول 1436 هـ (الموافق 23 ديسمبر 2014 –22 يناير 2015).

ويدل وجود سجلات مالية لداعش أن التنظيم لديه قدرة على إقامة ما يشبه الحكومة، وهو ما جعل محافظة دير الزور تبدو من الناحية النظرية نموذجًا ممكنًا لطريقة حكم داعش على نطاق أوسع.

كانت (دير الزور) قد وقعت تحت سيطرة الدولة الإسلامية منذ يوليو 2014، في حين ما يزال للنظام الحاكم وجود محدود في أجزاء من المحافظة والمطار العسكري هناك، وإن كان داعش يحتكر موارد النفط والغاز في هذه المنطقة. ومن المعروف أن المحافظة تتمتع بأهمية كبيرة ومعروفة جيدًا بالنسبة لقطاعي النفط والغاز في الاقتصاد السوري.

ومن ثم يمكن القول إن أهمية هذه الوثائق ترجع إلى أن غالبية التحليلات التي تناولت الهيكل المالي للدولة الإسلامية قد تم إعدادها بناءاً على معلومات غير مؤكدة بسبب عدم وجود إحصاءات صادرة عن الدولة الإسلامية بشأن إيراداتها ومصروفاتها، وبالتالي فهناك دوما درجة من التكهنات في كل هذه الأعمال، وهو ما يدفع التميمي لوصف الوثائق المسربة بأنها “ربما تمثّل أفضل مصدر رئيسي متاح” حول طريقة تمويل داعش لنفسه كتنظيم، فضلًا عن أنه يساعد في تفسير بعض نقاط القوة والضعف الأساسية لداعش.

اقتصاديات الدولة الإسلامية:

تساعدنا الأرقام الواردة في هذه الوثيقة على قياس اقتصاديات الدولة الإسلامية قياسا كميا، فالإيرادات والمصروفات الخاصة بالولاية الأغنى بالوقود الأحفوري في الدولة الإسلامية واردة بملايين الدولارات بشكل شهري. وعلى الرغم من هذه الممتلكات الكبيرة من موارد النفط والغاز، فأنها لا تشكل إجمالي مصدر الدخل لداعش،  ويمكن من منظور إحصائي تقسيم تدفقات الإيرادات الخاصة بالولاية على النحو التالي باستخدام البيانات المستمدة من الوثائق:


كما نرى، فإن هناك جزءًا كبيرًا من الدخل يأتي في الواقع من مصادرة الممتلكات والأموال، وهو ما قد يحدث لأسباب عدة، منها مثلًا السكان الذين فروا من ديارهم، ومخالفة قوانين الدولة الإسلامية والتهريب غير المشروع للسلع، وخصوصا الأصناف المحرمة كالسجائر والكحوليات، ويضاف إلى هذا فرضهم لرسوم عبور نظير انتقالات السلع والأفراد عبر الحدود.

من ناحية أخرى، يذهب إنفاق الدولة الإسلامية بشكل أساسي إلى الصيانة العسكرية وذلك على هيئة إنفاق على القواعد العسكرية ودفع رواتب المقاتلين، والشيء الذي يلاحظ غيابه هنا من بند المصروفات هو الإنفاق على العمال القائمين على عملية التعليم. والسبب في هذا أن عملية تجديد نظام التعليم التي تعكف عليها الدولة الإسلامية وفقا لأيديولوجيتها اقتضت إغلاق الكثير من المدارس في هذه الفترة لإخضاع المعلمين والموظفين لـما أسمته دروس “التوبة” ودروس الشريعة، في حين واصل النظام الحاكم دفع الرواتب، لكن بموجب شروط صارمة بحيث يحضر المستلم شخصيًا إلى المكان المحدد الذي يشترطه النظام، ويوضح الجدول التالي تحليلًا للمصروفات بالنسبة المئوية:



تفكيك الأساطير المالية
:

يشير التميمي إلى وجود بعض النقاط الهامة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند مناقشة إيرادات الدولة الإسلامية، والتي من خلالها يمكن تبين نقاط الضعف والقوة في التنظيم، وتساعد على تحديد الإستراتيجية المثلي لهزيمة التنظيم، وتتمثل فيما يلي:

1-التقديرات غير الواقعية: فالمفاهيم الشائعة عن دخل الدولة الإسلامية بحاجة إلى تبني منظور أكثر واقعية فيما يخص إيرادات النفط والغاز، فالإيرادات اليومية المحققة من آبار النفط هنا (المجموع مقسوما على 30) تعطينا 66433 دولارًا في المتوسط. فإذا كان هذا هو متوسط الإيراد من أفضل حقول النفط التي تملكها الدولة الإسلامية في سوريا، فبالاستنباط يتبين أن إيرادات الدولة الإسلامية لا تقترب بأي حال من المبلغ الذي تروج له وسائل الإعلام وهو 3 ملايين دولار يومياً.

بالإضافة إلى أن هذه الأرقام المتداولة في وسائل الإعلام تعود للفترة قبل قيام التحالف الدولي بشن ضربات على آبار النفط، وهو ما يؤكد أنها لا يمكن أن تكون واقعية بأي حال من الأحوال، ويري الباحث أن الرقم الأصلي لإيرادات داعش ربما يمثل من 5% إلى 10% من إجمالي الرقم المتدوال.

2-الروايات غير الرسمية: ينبغي أن ينبذ المرء الروايات التي تصور مؤسسي الدولة الإسلامية على أنهم حققوا ثراء مفاجئًا من حقول النفط والآثار الواقعة في شرق سوريا بداية من أواخر 2013، وذلك استنادا إلى شائعات تتحدث عن العثور على “فلاشات” كمبيوتر تكشف عن ماليات الدولة الإسلامية، كذلك فإن هذه الروايات تنشر معلومات غير صحيحة فيما يخص ديناميات السيطرة على نفط شرق سوريا ومدى تأثيره على الحرب الأهلية السورية.

3- تجارة الآثار: لم تذكر هذه الحسابات صراحةً بيع الآثار الواقع تحت سلطة قسم الآثار التابع لديوان الركاز، لكن هذا البند مشمول على الأرجح في بند الجباية في إطار هيكل الدولة الإسلامية الدواويني. وتُظهر الوثائق التي تم الاستيلاء عليها خلال الغارة التي نفذتها القوات الأمريكية وأسفرت عن مقتل أبوسياف،على ما يبدو، ضريبة بنسبة 20% مستحقة الدفع على الآثار المباعة في محافظة دير الزور، وهناك اثنتان من المعاملات الفردية المقدمة من ديسمبر 2014 تبين مدفوعات ضريبية تزيد على 10 آلاف دولار بينما هناك ثالثة تمثل ما يزيد قليلًا على 1000 دولار.

4- ولاية الفرات: على الرغم من دعاية الدولة الإسلامية بخصوص “إزالة الحدود” وإنشاء “ولاية الفرات”، فإن تضمين البوكمال في البيانات المالية لمحافظة دير الزور مثال يبيّن أن الدولة الإسلامية ما زالت تتعامل مع الحدود الإدارية السابقة. ولنقارن هذا بوثيقة سابقة تعود إلى يوليو 2015 نشرتها وتخص ديوان الخدمات بولاية الخير وتأمر بدفع مبلغ 100 ألف دولار لشخص يسمى أبو دجانة الليبي من أجل مشروع طريق بين البوكمال والقائم.
وهناك وثائق إدارية أخرى تخص “ولاية الفرات” تشير إلى أن إدارة الدولة الإسلامية نادرًا ما يبدو عليها التعامل مع الإقليم ككيان موحد، بل بشقيه السوري والعراقي. وهذا هو الحال على الرغم من سهول التنقل نسبيًّا داخل “ولاية الفرات”.

5-الأرباح المحلية: يتوقف أهم مصدر من مصادر إيراد الدولة الإسلامية على استمرار وجود الهيكل الدواويني داخل الأراضي التي تسيطر عليها، وليس هناك إلا القليل مما يمكن للمرء فعله لتعطيل ذلك الهيكل، ناهيك عن تدميره بالطرق العسكرية. كما أن الإستراتيجية المقترحة الشبيهة بالحصار والتي تهدف إلى إحداث انهيار من الداخل يستحل تنفيذها في الظروف الحالية؛ برأي التميمي، إذ لا يستطيع المرء عزل إقليم الدولة الإسلامية بالكامل عن التفاعلات مع العالم الخارجي، وبالتالي فسوف تستمر التدفقات النقدية.

إجمالاً يمكن القول أن  تنظيم داعش سوف يتراجع بفعل العوامل الذاتية لديه، فإنفاقه على التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية ضئيل للغاية في مقابل إنفاق متزايد على الأجهزة الأمنية، وهو ما يؤكده مراسلي صحيفة “دي تسايت” الألمانية بعد تحقيق منفصل مدته أسبوع حول مصادر تمويل داعش: “إن السرقة هي المصدر الذي تملأ به داعش خزائنها، وليس أي نمط اقتصادي آخر. ولا يمكن أن تستمر الخلافة القائمة على هذا النموذج”.

عرض: طارق راشد عليان

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية