أخذت السياسة الأمريكية أنماطا عديدة في كيفية التعامل مع منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي حسب مصالحها العليا والتطورات السياسية التي شهدتها الأحداث العالمية وكان لها الأثر البالغ على طبيعة السياسية الأمريكية في العالم ومنها المنطقة العربية لأهميتها وعمق العلاقات التي تربطها بالإدارة الأمريكية ووجود الحلفاء والشركاء السياسين الذين يتمتعون بعلاقات وثيقة تمتد لعقود من الزمن مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا فقد اتسمت سياسية البيت الابيض باتباع طرق ووسائل عديدة في الحفاظ على روح وامتداد هذه العلاقات وعدم التضحية بها ولكن للظروف الدولية التي أحاطت بالعالم وتصاعد حدة الأزمات والمشاكل وتطلع الدول الكبرى لإيجاد منافذ وآفاق لتوسيع علاقتها مع دول العالم وتنفيذ مشاريعها السياسية الإستراتيجية ورؤيتها الجادة لاقتحام مناطق النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وتحديدا لدى الاقطار العربية ومنها الخليجية بالتحديد، بدأت أمريكا تدرك أهمية هذا التوجه وأنها أمام قوى دولية متعددة ذات إمكانيات اقتصادية هائلة ونفوذ مالي وسياسي بدأ يؤثر على طبيعة العلاقات الدولية ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية وكان عليها أن تتحرك باتجاه بقائها في منطقة الشرق الأوسط وتأكيد ثبات سياستها وأنها لا تزال ملتزمة بحماية المنطقة وأنها تسعى لتعميق أوجه هذه العلاقات بما يحقق انسيابية واضحة في استمرار الدور الأمريكي في المنطقة.
ولهذا اعتمدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إستراتيجية جديدة للامن القومي الأمريكي في نهاية عام 2022 والتي تأخر الاعلان عنها بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وجائحة كورونا التي اجتاحت العالم بأسره، وجاءت الوثيقة التي أعدتها الدوائر الاستخبارية ومستشارية الأمن القومي الأمريكي لتكون انعكاس واضح لرؤية الإدارة الأمريكية لكيفية تحقيق مصالحها في بيئة دولية متغيرة وغير مستقرة واخذت أبعاد واسعة حددت فيها مبدأ المثالية والواقعية والتي استشعرت بها التطورات السياسي العالمية وضرورة الانفتاح والتعامل مع المتغيرات القائمة واعتماد الواقعية في تعاملها مع الأحداث الجارية في العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي والقبول ببعض السياسات التي تم اعتمادها من قبل بعض الدول الحليفة ومنها دول الخليج العربي فيما يتعلق بموضوع النفط وكيفية تحديد كميات إنتاجه ومراعاة حال السوق العالمية ومتطلبات عمليات العرض والطلب للحفاظ على المصالح المشتركة للدول الحليفة والولايات المتحدة، كما سعت الوثيقة لتأكيد مبدأ الريادة العالمية لواشنطن وهيمنتها على العالم وتعزيز دورها الرئيسي في التعامل مع السياسية الروسية وتمددها في المنطقة والنمو الاقتصادي والنفوذ المالي الذي يمثل التوجه الصيني في تنفيذ عملية الحزم والطريق والتعامل معها بشكل جدي كونها تسعى إلى تواجد ونفوذ اقتصادي وتوجه استثماري مالي في العديد من بلدان العالم.
وعندما تحدد الوثيقة مبدأ إرسال رسائل للخصوم ووضع تصورات للسياسات الدولية وتكيفها مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها فهي تعني بالدرجة الأولى الأوربيين ثم حلفائها من العرب والخصوم هما روسيا والصين ، ويأتي الرئيس جو بايدن يصف الدور الروسي (بأنه يشمل تهديد للسلم العالمي والنظام الإقليمي الأوربي ومصدر الاضطراب وعدم الاستقرار على مستوى العالم ) خاصة بعد النزاع الروسي _الأوكراني ليؤكد الرؤية الأستراتيجية للأمن القومي الأمريكي وتعزيز هذا المفهوم السياسي عندما يشير الرئيس الأمريكي إلى أن(الصين هي المنافس الأكبر للولايات المتحدة ) إنما هو انعكاس حقيقي لما تقوم به السياسة الصينية وتمددها في المنطقة العربية وتوجتها بولوج الحلقة الرئيسية التي كانت حكرا للأمريكان والبريطانيين بإعلانها عن دور الوسيط في الاتفاق السعودي الايراني.
من هنا يمكن أن ننظرللخيارات الأمريكية التي تتسم بالغموض والتردد فيما تعلن عنه وتتصرف به ميدانيا وهذه السياسة احدثت فراغ في المنطقة لدى إلى حدوث أزمات سياسية عديدة ودخول لأطراف دولية لمعالجة الأزمات والتعامل مع الأحداث حسب مصالحها ، ومنها عدم ثبات سياستها ووضوح تعاملها مع البرنامج النووي الإيراني بعد تسع جولات من المحادثات في العاصمة النمساوية فيينا في عهد الرئيس جو بايدن ولكنها لم تحقق أي نتائج إيجابية او تساهم في ردع النظام الإيراني ودفعه لتوقيع الاتفاق حسب التوجهات الأوربية الأمريكية، وهي التي لا ترغب في مواجهة ميدانية معه أو الدعوة لإسقاطه بل تعتمد مبدأ الدبلوماسية وخفض التصعيد بانتظار ما تسفر عنه المبادرات الأوربية والحوارات غير المباشرة التي تقوم بها أوساط عربية وإقليمية وانتظار فعالية النتائج التي توصل إليها رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية في زيارته لإيران في الرابع من اذار 2023 وقبول الإيراني بعمليات التفتيش والمراقبة ونصب الكاميرات والرصد الميداني والزيارات المفاجئة لمواقع نووية ايرانية وتقديم معلومات عن الأماكن الثلاث التي يشتبه بوجود عمليات تخصيب لليورانيوم فيها والتي تقع في محيط مدينة طهران وسبق للنظام الإيراني وان امتنع عن تقديم أي معلومات أو القيام بعمليات تحقيق وتفتيش من قبل محافظي الوكالة الدولية .
تبقى الحالة قائمة مع فصول السياسة الدولية وتمددها في منطقة الشرق الأوسط وسعي الدول الكبرى للتموضع في أماكن ومساحات تحسب للجانب الأمريكي وهذا ما بدأ يقلق أصحاب القرار السياسي والمؤثرين دعاة المصالح الأمريكية في المنطقة العربية بالعودة إلى الثوابت الأساسية للسياسة الأمريكية والالتزام بمبدأ كارتر في حماية المنطقة وتأمين الطاقة للولايات المتحدة الأمريكية واثبات حسن النوايا ومستوى التزام واشنطن بأمن المنطقة العربية وحماية شركائها ومنع حالة الفراغ السياسي والأمني الذي بدأ يستثمر من قبل العديد من الدول الكبرى التي تتعارض مصالحها وأهداف واشنطن في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
وجاء تصريح وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن ليؤكد على حتمية التزام الولايات المتحدة بامن الشرق الأوسط واصفا اياه بأنه(التزام قوي ومؤكد ) وهذا ما يمكن أن يعيد مصداقية الإدارة الأمريكية لدى حلفائها وتحقيق حالة التوازن بين مصالحها في المنطقة ومصالحها في أوروبا وآسيا.
ثم جاء تصريح منسق الأمن القومي الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا بريت ماكغورك في العشرين من شهر تشرين ثاني 2022 بحوار المنامة العالمي ليشير إلى أن( الولايات المتحدة لن تذهب الى أي مكان آخر وان منطقة الشرق الأوسط هي مهمة للغاية ومتشابكة مع المصالح الأمريكية بحيث لا يمكن التفكير بطريقة أخرى ) .
تأتي الوثيقة الإستراتيجية للأمن القومي الأمريكي منسجمة وتطلعات الإدارة الأمريكية التي تتوافق ومديات الأهداف الأمنية الاستخبارية والتوجهات السياسية والثوابت الاقتصادية لوزارتي الدفاع والخارجية والمخابرات الأمريكية التي تعتبر الدوائر الرئيسية في تحديد سياسة الولايات المتحدة في العالم .
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية