بعد 20 عاما على غزو واحتلال العراق، تبنى مجلس الشيوخ الأمريكي بالأغلبية نصا تشريعيا، يُلغي التفويض الذي مُنح آنذاك للرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، بشن الحرب على العراق عام 1991. كما ألغى الإذن الذي مُنح للرئيس الأسبق جورج بوش الابن، باستخدام القوة العسكرية ضد العراق عام 2003. وحاز النص على دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي معا، وقد صرّح زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر قائلا (لقد تغيرت الولايات المتحدة والعراق والعالم بأسره منذ عام 2002، وقد حان الوقت لتواكب النصوص القانونية تلك التغيرات). كما أوضح السناتور الأمريكي بوب مينينديز، أن وراء هذا الإلغاء رغبة من أعضاء الكونغرس، في استعادة الدور الدستوري لهذه المؤسسة في تقرير، كيف ومتى تذهب الأمة الامريكية إلى الحرب، وأيضا متى يجب أن تُنهي الحرب، ولكي يصبح النص تشريعا نافذا فإن ذلك يتطلب تمريره من قبل مجلس النواب الأمريكي، ثم توقيعه من قبل الرئيس جو بايدن، الذي تعهّد بفعل ذلك. فما الأسباب الكامنة وراء الإلغاء؟ وما تبعات ذلك على حركة القوات الأمريكية في العراق؟
العراق الذي كان القوة العسكرية الأولى والوحيدة في المنطقة العربية، لم يعد ذا أهمية استراتيجية في الجانب العسكري في نظر الساسة الإسرائيليين
يبدو أن وراء إلغاء التفويضين، آنفي الذكر، عناصر فنية، فتفويض شن الحرب على العراق عام 1991، مضى عليه اليوم حوالي 32 عاما، وتفويض شن الحرب في عام 2003 مضى عليه أكثر من 20 عاما، وبالتالي فإن هذا التقادم في الزمن يتطلب إعادة النظر، حسب رأي الجهة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الحقيقة ليس هذا فقط هو السبب الرئيسي، الذي دعى إلى إلغاء التفويضين. فالمُلاحظ أن النص التشريعي لم يذهب إلى إلغاء الإذن الممنوح للرئيس باستخدام القوة العسكرية في غزو أفغانستان عام 2001، رغم أنه أقدم من التفويض الذي يخص العراق، كما أن النص لم يذهب إلى إلغاء الإذن باستخدام القوة العسكرية في الصومال واليمن وسوريا وبعض المناطق في افريقيا، وبذلك يصبح العنصر الأكثر حسما في إقرار نص الإلغاء، هو تغيير الوضع على الساحة العراقية، وليس عامل الزمن، فالعراق الذي كان القوة العسكرية الأولى والوحيدة في المنطقة العربية، التي تعتبرها إسرائيل مهددة لها، خرج تماما من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، ولم يعد ذا أهمية استراتيجية في الجانب العسكري في نظر الساسة الإسرائيليين، كما ينظرون إليه على أنه أرضية منقسمة من تلقاء ذاتها عموديا وأفقيا. كذلك لم تعد بغداد قادرة على إنتاج قرارات سياسية واقتصادية تقود فيها العمل العربي المشترك، أو تقف كابحا لتوجهات سياسية عربية مخالفة لإرادة الأمة، سواء في الموقف من التطبيع مع الكيان الصهيوني، أو بالضد من السياسات الأمريكية، بل الأكثر من ذلك كله هو تحول العراق من خانة العداء مع الولايات المتحدة إلى حليف، يرتبط معها بمعاهدات واتفاقيات سرية وعلنية وعسكرية ومدنية، وأن عملية صنع القرار في بغداد لا يمكن أن تتم من دون استشارة واشنطن. لكن المُلاحظ أنه رغم أن التفويضين باستعمال القوة العسكرية، قد ارتبطا بالزعم أن النظام السياسي القائم في بغداد قبل عام 2003 شكّل تهديدا على الأمن الدولي، نجد أن العمليات العسكرية استمرت بعد الحرب، حتى مع تغيير النظام ووقوع العراق تحت السيطرة الأمريكية، بل إلى وقت قريب استخدمت واشنطن التفويض بشن غارات في العراق، استهدفت فيها ميليشيات وعناصر وثيقة الصلة بإيران، فهل يعني ذلك أن حاجة الولايات المتحدة للقيام بعمليات عسكرية في العراق قد انتفت تماما بعد اليوم؟ نجد الإجابة على هذا السؤال في المناقشات التي جرت في مجلس الشيوخ الأمريكي، وتلتها في أروقة السياسة الأمريكية الأخرى، التي كانت تُركّز على ضرورة إيجاد البديل بعد الإلغاء، فليس هنالك من ثقة بالنظام السياسي القائم اليوم في العراق. هم يقولون بأن القوات الأمريكية في العراق ما زالت تواجه تهديدات من الميليشيات التي تدعمها إيران، بل إن زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، كان واضحا بالقول (أعداؤنا في إيران الذين أمضوا عقدين من الزمن في استهداف وقتل الأمريكيين في الشرق الأوسط، سيكونون سعداء لرؤية أمريكا تقلص وجودنا العسكري وسلطاتنا وأنشطتنا في العراق، لماذا يجب أن يجعل الكونغرس ذلك أسهل؟) لكن البعض كان يحاجج بالقول إن هذه القوات قادرة على الدفاع عن نفسها، من دون الحاجة إلى هذه القوانين والتفويضات التي أُلغيت، ويمكن العمل على استصدار قانون جديد يفوّض الجيش الامريكي بالتحديد، باستعمال القوة ضد هذه الميليشيات، كما يتيح لصانع القرار الأمريكي حرية التصرف في العمليات الهجومية لأغراض استباقية، على غرار واقعة مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق، ويقولون لا أحد يتوقع أن هذا الإلغاء سوف يؤثر في الحماية المقدمة للقوات الأمريكية.
من ناحية أخرى هنالك أصوات داخل الكونغرس الأمريكي، برر أصحابها تصويتهم على إلغاء التفويض باستعمال القوة العسكرية بالقول، إنهم لا يريدون حرب العراق أن تتكرر مرة أخرى في مكان آخر، لذلك لا يرغبون بإعطاء تفويض لأي رئيس أمريكي قادم بأن يرسل القوات، كما حصل في تفويض العراق عام 2002، من دون أن تكون هنالك موافقة صريحة أكثر وواضحة أكثر من الكونغرس. وهنا يبدو أنهم يفكرون في إيران، بعد أن وصلت المفاوضات في الملف النووي إلى طريق شبه مسدود، على الأقل في الوقت الراهن، وتصريحات بعض الساسة الأمريكيين بأن جميع الخيارات للتعامل معها على الطاولة. لذلك لا يريدون إعطاء فرصة بأن يشن الرئيس حربا على إيران، من دون تفويض واضح من الكونغرس، وهم يؤكدون على أن الرئيس قد يقول بأن هنالك حالة دفاع عن النفس تتطلب التحرك، لكن هؤلاء الأعضاء يقولون بضرورة قيام الكونغرس بالسعي إلى ضبط هذه المسألة قبل التصرف. ومع كل ذلك فإنه لا بد من القول، بأن الفترة الممتدة ما بين إلغاء التفويض باستعمال القوة العسكرية في العراق واستصدار قرارات جديدة بديلا عنه، ستترتب عليها أوضاع أمنية جديدة لا يمكن أن تتركها واشنطن سائبة، فكيف ستتصرف الولايات المتحدة في ضوء الحالة الراهنة؟
دائما ما تحافظ واشنطن على مبدأ عدم تقييد حركتها، والتصرف بمرونة في الأوقات التي تراها تصب في مصلحتها، لذلك لا يظن أحد بأنها سوف تحرص على الدخول في محادثات مع أي طرف لترتيب الوضع الجديد، حتى لو كان هذا الطرف حليفا لها، لذلك وجدنا في اام 2010 كيف أرسلت الولايات المتحدة قوات خاصة إلى باكستان، لتصفية زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ولم يخبروا الباكستانيين رغم أنهم حلفاؤها .
القدس العربي