في مناخ يشعر فيه العديد من رجال الدين في إيران بعدم الرضا عن وضعهم وبعضهم يفقد الثقة في الجمهورية الإسلامية، يُظهر المحضر المزعوم لاجتماع عقده النظام مؤخراً كيف يمكن أن تتطور المشكلة مع استمرار الاضطرابات الداخلية.
عندما تم نشر وثيقة يُزعم أنها محضر اجتماع 3 كانون الثاني (يناير) بين المرشد الأعلى علي خامنئي وشخصيات بارزة من “الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني الأسبوع الماضي، برزت مخاوف بشأن رجال الدين في نص الوثيقة. وعلى وجه الخصوص، زُعم أن الحاضرين في الاجتماع كان لديهم الكثير ليقولوه حول رد فعل رجال الدين على الاحتجاجات الأخيرة في إيران والقمع اللاحق من قبل النظام. (للاطلاع على مناقشة مصدر الوثيقة وآثارها على السياسة، انظر الجزء الأول من هذا المرصد السياسي).
على سبيل المثال، نُقل عن محمود محمدي شهرودي، القائد السابق لقوات “الباسيج” التابعة لرجال الدين، وهي الفرع الديني للميليشيا التابعة للحرس الثوري الإيراني، قوله إنه لم يسبق له قط أن واجه المشاكل التي يواجهها حالياً، بما فيها انخراط أعداد غير مسبوقة من رجال الدين في مواجهة إيديولوجية عميقة مع بعضهم بعضا، أو “التخلي عن الزي المقدس لرجال الدين” كلياً (وفقاً لإحصائياته، ترك ما يصل إلى 5.000 فرد من “الباسيج” وحداتهم في الأشهر الأخيرة). وقد تحولت بعض فصول الحوزة إلى ساحات معارك بين الطلاب والمعلمين بسبب التبرير الديني (أو عدمه) لسلوك النظام تجاه المتظاهرين. وزُعم أنه في الكثير من الحالات، يلقي الأكاديميون باللوم على القضاء وينتقدون خامنئي نفسه بشدة. ثم حذر شهرودي جمهوره، وفقاً لما ورد، من أن “خطر فقدان الثقة بالنظام والمرشد الأعلى يمكن أن يهدد النظام بأكمله”.
وفيما يتعلق بوحدات “الباسيج” التابعة لرجال الدين، اعتبر شهرودي كما زُعم، أن التنظيم يواجه “مشاكل إيديولوجية ومالية ومحلية”. على سبيل المثال، لم يعد العديد من رجال الدين يشعرون بالأمان بسبب الاحتجاجات، مما جعل من الصعب عليهم السير في الأماكن العامة من دون التعرض للمضايقات اللفظية أو الجسدية. كما قيل إنه اشتكى من الدخل المنخفض لرجال الدين، الذي أرغم الكثيرين منهم على مزاولة أعمال خارجية. ولكنه اعتبر أن “المشكلة الأكثر جوهرية” هي الأزمة الأيديولوجية بين رجال الدين، والتي وصلت إلى حد التشكيك في شرعية المرشد الأعلى. وقيل إن مسؤولين رئيسيين آخرين ورد ذكرهم في الوثيقة أعربوا عن مخاوف مماثلة بشأن تفاقم المشاكل الإيديولوجية في صفوف رجال الدين والجيش بسبب الاحتجاجات.
ولا يعد تخلي رجال الدين عن زيهم الديني ظاهرة فريدة في تاريخ إيران الحديث -فقد اتخذ العديد من طلاب الحوزة الشباب هذا القرار عندما واجهوا أزمات لا يجدون لها مبرراً دينياً أو عقلانياً مُرضياً، بينما اضطر آخرون إلى ترك (الحوزة) بدوافع مالية أو اجتماعية أو سياسية. وما يؤدي إلى بروز تصريحات شهرودي المزعومة هو ادعاؤه بأن المشكلة قد تفاقمت بشكل كبير منذ اندلاع الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد العام الماضي.
وعلى الصعيد المالي، لطالما كانت الصعوبات الاقتصادية مشكلة لطلاب الحوزة بما أن دخلهم يقتصر على راتب شهري، يمكن أن يختلف اختلافاً كبيراً اعتماداً على كيفية (ومدى) قيام السلطات الدينية العليا (المرجعية) بتوزيع الأموال. وقد غيرت ثورة العام 1979 بشكل جذري طريقة تحصيل رجال الدين للأموال. فبينما كانت تقتصر في السابق على تحصيل الضرائب الدينية، سمح لهم إنشاء الجمهورية الإسلامية بالاستفادة من موارد أخرى لا تحصى في ميزانية الدولة والقطاع الخاص. ومع ذلك، لم يتم قط توزيع هذه الثروة المكتشفة حديثاً بشكل منصف بين رجال الدين الأفراد، والمؤسسة الدينية ليست ملتزمة عموماً بضمان معاملتهم معاملة عادلة، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية. ونتيجة لذلك، فإن عدداً كبيراً من رجال الدين -خاصة أولئك الذين يركزون على الدراسة في الحوزات وليس لديهم منصب إداري في المؤسسة الدينية أو الحكومة- يجدون أنفسهم الآن في أدنى الطبقات الاجتماعية في إيران. أما بالنسبة لأولئك الأفراد الذين دخلوا الحوزة من باب التوقعات المالية الناجمة عن استيلاء رجال الدين على السلطة السياسية، فإن الكثيرين منهم يشعرون الآن بخيبة أمل بشأن آفاقهم المستقبلية، وبالتالي ليس هناك سبب يدفعهم للبقاء كرجال دين.
أما بالنسبة لأولئك الذين يتخلون عن مناصبهم الدينية لأسباب إيديولوجية، فإن ما تغير ليس ظاهرة اعتراض رجال الدين الأفراد على آراء المؤسسة وتنحيهم عنها، بل بالأحرى طبيعة النظام الذي يعترضون عليه. في الماضي، كانت العناصر المتشددة في المؤسسة الدينية تميل إلى معارضة أي إصلاح جوهري، لكن هذه المعارضة غالباً ما كانت تستند إلى عوامل دينية -أي عدم تسامح أفرادها تجاه أي طريقة غير تقليدية في تفكيرهم أو أدائهم كرجال دين.
ولكن في العقود الأخيرة، نظراً للطبيعة المتطوّرة للجمهورية الإسلامية في عهد خامنئي، اتخذت الروحية الدينية التقليدية لرجال الدين (والتي تشمل خلافاتها الداخلية) طابعاً أكثر سياسية وإيديولوجية وشموليّة. فقد تحولت المؤسسة الدينية من مؤسسة تقليدية بسيطة إلى بيروقراطية واسعة ومعقدة، مع وضع جميع رجال الدين تحت المراقبة الإيديولوجية المستمرة ومعاقبتهم بشكل دوري إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء التي حددها المرشد الأعلى. وفي ظل هذا النظام، وفي غياب أي أمل في الإصلاح، يترك العديد من طلاب الحوزة الشباب المؤسسة الدينية بعد سنوات قليلة فقط، كما انخفض عدد الطلاب الجدد الذين يدخلون الحوزات إلى مستويات متدنية جديدة.
وهكذا، تم تقسيم المؤسسة إلى طبقتين أوليين: رجال الدين المستفيدون مباشرةً اقتصادياً وسياسياً من الجمهورية الإسلامية، وأولئك الذين يعرّفون أنفسهم على أنهم “رجال دين تقليديون” ويتجنبون الارتباط بالحكومة. ويمثل العدد الكبير من رجال الدين الذين يشغلون مناصب سياسية أو يستفيدون من الدعم المالي الحكومي المجموعة الأولى؛ وتنتمي آيات الله العظمى مثل علي السيستاني أو حسين وحيد الخراساني إلى المجموعة الثانية.
ويشعر معظم أعضاء “المؤسسة الدينية التقليدية” بقلق عميق بشأن مستقبل المؤسسة الشيعية على خلفية صورتها السائدة كطبقة حاكمة في إيران. فعلى الرغم من عدم تأييدهم الإيديولوجيا السياسية للنظام، أو عقيدته المتمثلة بولاية الفقيه (التي تمنح المرشد الأعلى السلطة المطلقة)، أو سياساته وسلوكياته المختلفة في الداخل، إلا أنهم ما يزالون يترددون في التعبير بوضوح عن وجهات نظر مختلفة أو الوقوف إلى جانب ضحايا قمع النظام وانتهاكات حقوق الإنسان. وتنبع هذه السلبية النسبية من سببين رئيسيين: (1) لا يشعرون بأنهم محصنون ضد القمع الحكومي المحتمل نظراً لمدى عدائية تعامل النظام مع النقاد الدينيين البارزين في الماضي (على سبيل المثال، الراحل كاظم شريعتمداري وحسين علي منتظري)، و(2) يقلقون مما يمكن أن يحدث إذا تحولت الجمهورية الإسلامية إلى نوع من البديل العلماني (سواء كان تحولاً عسكرياً أو ديمقراطياً)، بما أن رجال الدين سيخسرون مكانتهم المميزة تاريخياً في هذا النظام ويعامَلون أسوةً بالمواطنين الآخرين.
بعبارة أخرى، حتى عندما ينتقد أعضاء “المؤسسة الدينية التقليدية” النظام على خلفية تصويره الشخصيات الدينية على أنها الطبقة الحاكمة في البلاد ومصدر الشرعية، فإنهم غير قادرين أيضاً على قبول شكل حكم علماني لن تعود فيه المؤسسات الدينية تتمتع بامتيازات. وقد أصبحت العواقب العملية لهذه المعضلة واضحة بصورة مؤلمة منذ الخريف الماضي، إذ إن رجال الدين التقليديين عاجزون سياسياً، وليس لديهم الإرادة أو الوسائل للنأي بأنفسهم عن الحكومة ومناصرة مطالب الشعب الديمقراطية.
في المرحلة المقبلة، تشير تعليقات شهرودي المزعومة إلى تغييرات وشيكة في نسيج رجال الدين، لا سيما طلاب الحوزة العاطلين عن العمل الذين يجدون أنفسهم مستثنين من مزايا النظام. كما أن إضفاء المزيد من الطابع الأمني على المؤسسة الدينية هو أيضاً احتمال، من شأنه أن يغلق أي أبواب متبقية لإصلاح وقمع الأصوات الناقدة التي قد تقدم حلولاً مؤقتة للأزمة المتنامية.
*مهدي خلجي
معهد واشنطن