على الرغم من الإنجازات البارزة التي حققتها “حكومة إقليم كردستان” خلال فترة دامت ثلاثين عاماً، إلا أن سعيها اللامتناهي من أجل الاستقلال الاقتصادي لم يؤدي سوى إلى ترسيخ انقساماتها الداخلية ونظام حكمها المستفحل بالفساد بينما حوّلت اعتمادها – من العراق إلى تركيا، ومن المساعدات الخارجية إلى عائدات النفط.
إذا كانت “حرب الخليج” عام 1991 قد أسفرت عن قيام “حكومة إقليم كردستان”، فإن الغزو الأمريكي عام 2003 قد دفعها إلى المستقبل. ففي بداية الغزو، كانت “كردستان العراق” بمثابة الجبهة الشمالية للحرب، مما رفع من مكانة “حكومة الإقليم”. وأدى القضاء على النظام البعثي في العراق برئاسة صدام حسين إلى تعزيز حقوق الأكراد وتمكين قوتهم السياسية والاقتصادية من النمو. ومقارنةً بالعنف والفتنة الطائفية التي عصفت ببقية أنحاء البلاد في ظل الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة، اعتبرت طبقة النقاد الأمريكيين “إقليم كردستان العراق” “ملاذاً آمناً” و”واحة لياقة” – وهي رواية شجعتها “حكومة الإقليم” من خلال حملة علاقات عامة تصف كردستان بـ “العراق الآخر”.
لقد جلب عام 2003 معه وحدة الهدف بين الأحزاب الكردية في العراق. فقد استفادت من علاقاتها القائمة منذ زمن بعيد مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما الجهتان الرئيسيتان اللتان فرضتا منطقة حظر الطيران في أعقاب “حرب الخليج” الأولى وأكبر مناصرتين لتغيير النظام في عام 2003. وعلى الرغم من استمرار الخلافات، أجرت الأحزاب الكردية محادثاتها بانسجام تام في بغداد، خاصة في السنوات الأولى التي أعقبت الغزو. فقد عملت على تكريس سلطاتها وحقوقها الجديدة في دستور العراق لعام 2005، الذي اعترف بكردستان كإقليم رسمي ومنح “حكومة إقليم كردستان” سلطة الحكم بشكل مستقل إلى حد كبير عن بغداد. كما دعمت الأحزاب الكردية بالكامل الانتخابات النيابية لعام 2005، ونتيجة لهذه الجهود، اكتسبت نفوذاً كبيراً داخل الدولة العراقية. ويشكل الأعضاء الأكراد في مجلس النواب كتلة مهمة غالباً ما تؤدي إلى قيام الحكومات أو إسقاطها وسن التشريعات أو إبطالها. وفي نظام المحاصصة – الممارسة غير الرسمية بل المستمرة للتقسيم العرقي والطائفي للمناصب العليا – لم يحظَ العراق برؤساء أكراد إلا اعتباراً من عام 2006، وشغل الأكراد في بعض الأحيان مناصب نواب رئيس مجلس النواب وتولّوا حقائب وزارية رئيسية مثل المالية والشؤون الخارجية.
لكن العمل داخل جهاز الدولة أربك الدور الكردي في بغداد. فمن ناحية، سعت “حكومة إقليم كردستان” إلى الحصول على أكبر حصة ممكنة من سلطات الدولة وعائداتها. ومن ناحية أخرى، ونظراً للمخاوف الكردية التاريخية من حكومة مركزية قوية، استثمر الأكراد أيضاً في قدرتهم على الانفصال، كما اتضح من الاستفتاء على الاستقلال في عام 2017. واليوم، تواجه “كردستان العراق” تحديات خارجية، أبرزها ضغوط قانونية ومالية من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد وتهديدات بهجمات إيرانية وتركية. ولكن التهديد الفعلي الذي تتعرض له “حكومة إقليم كردستان”ليس خارجياً. فبعد ثلاثين عاماً من تأسيسها و 20 عاماً من الغزو الأمريكي، تفتقر “حكومة الإقليم” إلى رؤية واضحة لمستقبلها – كما لو أنها تمر بأزمة منتصف العمر. وفي ظل خطر فقدان دورها المهم، تواجه احتمال حدوث انفجار داخلي بسبب عدم اليقين الاقتصادي والانقسامات الداخلية المزمنة والمؤسسات الضعيفة.
البحث عن الثروة
لطالما كان أساس كفاح الأكراد في العراق في نضالهم من أجل الحكم الذاتي قائماً على مظالمهم كأقلية عرقية مضطهدة. فقد اكتسب الحكام الأكراد الشرعية من خلال الدفاع عن حقوق الأكراد. ولكن بعد “حرب الخليج” الأولى وانتخابات عام 1992، حلت الشرعية الديمقراطية محل هذه السمعة الثوروية. فقد أسفرت الانتخابات عن قيام “حكومة إقليم كردستان” وأوصلت حزبين، هما «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني»، إلى السلطة السياسية الرسمية. ومنذ ذلك الحين، ارتبط كل من هذين الحزبين الكرديين الرئيسيين ارتباطاً وثيقاً بعائلة محددة – عائلة الطالباني التي تقود «الاتحاد الوطني الكردستاني»، وعائلة بارزاني التي تتزعم «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، حيث يتربع حالياً جيليهما الثاني والثالث، على التوالي، على رأس السلطة في الإقليم.
وأسفرت الحرب الأهلية في “كردستان العراق” بين عامي 1994 و 1998 عن زعزعة مصداقية كلا الحزبين، مما أدى إلى تقسيم الإقليمإلى إقطاعين يتألف كل منهما من حزب واحد ولا يزالان قائمين حتى اليوم. وفي غضون ذلك، وعلى مدى العقدين الماضيين، تولى جيل جديد من كل أسرة حاكمة دور القيادة، فافتقرت شرعية “كردستان العراق” إلى المكانة الثورية والديمقراطية على حد سواء، وظهرت التنمية الاقتصادية كبديل.
وفي الواقع، ترجمت “حكومة إقليم كردستان” فرص ما بعد الغزو بين عامي 2004 و 2014 إلى ازدهار اقتصادي. فقد أدت فورة البناء في تلك الفترة إلى زيادة مساحة العاصمة أربيل إلى أكثر من الضعف. وتقول “حكومة الإقليم” أنها أعادت بناء 65 في المائة من المناطق الريفية في كردستان التي دُمرت خلال حملة الأنفال للتطهير العرقي في عام 1988. ويقع مقر اثنتين من شركات الهاتف الخلوي الوطنية العراقية الثلاث في كردستان، كما يضم الإقليم عدداً كبيراً من الفنادق والمجتمعات المسوَرة والمدارس الخاصة، بما في ذلك جامعتان على الطراز الأمريكي.
وبحلول عام 2005، كانت “حكومة إقليم كردستان” قد شيدت مطارين دوليين، في السليمانية وأربيل، مما أدى إلى فك قيود الإقليم غير الساحلي. ويمكن للزوار الأجانب الحصول على تأشيرات عند وصولهم، وهي سياسة لم تتبناها الحكومة العراقية إلا في عام 2021. وأدت العمليات الجماعية للتوظيف العام إلى خفض البطالة، على الرغم من أن العمال الأجانب ملأوا جزءاً كبيراً من فجوة المهارات. فضلاً عن ذلك، أسفر قانون الاستثمار لعام 2006، الذي قدم امتيازات للمستثمرين مثل ملكية الأراضي والإعفاءات الضريبية وإعادة الأرباح إلى الوطن، إلى مساعدة “حكومة الإقليم” على جذب رؤوس أموال محلية وأجنبية كبيرة. واليوم، يفوق عدد الشركات الأجنبية المسجلة في الإقليم 3000 شركة. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تستضيف “حكومة الإقليم” 42 قنصلية ولديها 14 مكتباً تمثيلياً في جميع أنحاء العالم.
واستفادت “كردستان العراق” لأقصى درجة من موقعها الجغرافي وأمنها، وأصبحت طريقاً ووجهة تجارية إقليمية مهمة. فتركيا، التي تمر حدودها البرية الوحيدة مع العراق عبر “إقليم كردستان”، هي الشريك التجاري الأكبر لـ “حكومة الإقليم”. وفي عام 2017، بلغ حجم التجارة بين تركيا و”كردستان العراق” 2.5 مليار دولار، مما يمثل ما يقرب من ثلث إجمالي تجارة أنقرة مع العراق. وبالمثل، يصل ثلث واردات العراق من إيران – التي تقدر بنحو 2.4 مليار دولار في السنة – إلى “كردستان العراق”. وعلاوةً على ذلك، تمر 50 في المائة من صادرات إيران إلى العراق عبر المعابر الحدودية الخاضعة لسيطرة “حكومة إقليم كردستان”.
من المساعدات الخارجية إلى الاتحادية النفطية
منح نظام الحكم الاتحادي المقترح في دستور عام 2005 “حكومة إقليم كردستان” دوراً هاماً في إدارة موارد النفط والغاز في الإقليم. وكانت هذه البنود بمثابة ضمانة: ففي حالة فشل العراق الجديد، سيكون من الممكن لكردستان المستقلة اقتصادياً اتخاذ الخطوة التالية نحو إقامة الدولة، وهو حلمها القومي ما قبل الأخير.
وتوخى الدستور نظاماً اتحادياً بترولياً تتشارك فيه الحكومة العراقية الاتحادية و”حكومة إقليم كردستان” المسؤولية عن سياسة النفط والعائدات. ولكن في السنوات التي أعقبت المصادقة على الدستور، فشل مجلس النواب العراقي باستمرار في إقرار قانون وطني للنفط والغاز من شأنه تنظيم قطاع الطاقة وتحديد هذه الأدوار المشتركة.
وفي خطوة استباقية، أقر مجلس النواب الكردي قانون الموارد الطبيعية الخاص به في عام 2007 وبدأ في إبرام حوالي 55 عقداً مع شركات نفط دولية. وبينما أكدت الحكومة الاتحادية أن هذا القانون غير دستوري وأن عقود النفط غير قانونية، إلّا أن “حكومة الإقليم” مضت قدماً (في سياستها). فقد اعتمدت عقود مشاركة الإنتاج، المفضلة في هذا المجال، زالتي منحت شركات النفط الدولية حصة من الأصول البترولية في الإقليم. وساعدت هذه المقاربة “الأصغر والأسرع والأخف”، وفقاً لنائب رئيس الوزراء قوباد طالباني في مقابلة مع كاتب هذا المقال في عام 2012، على تحفيز قطاع الطاقة الكردي. فقد احتلت الشركات الصغيرة أو المنقبون عن النفط الصدارة، ولكن سرعان ما تبعتهم شركات النفط الكبرى. وفي عامي 2011 و 2012، وقّعت كل من “إكسون موبيل” و”شيفرون” على عقود للاستكشاف مع “حكومة إقليم كردستان”، مما عزز المكانة القانونية لقطاع الطاقة في الإقليم على نحو بارز.
ولم تطلب “حكومة الإقليم” الإذن أو الإعفاء من بغداد، وهي مقاربة أتت بثمارها من نواحٍ عديدة. فبحلول منتصف عام 2022، كانت “حكومة إقليم كردستان” تنتج ما يقرب من 450 ألف برميل من النفط يومياً، تمتصدير معظمها عبر خط الأنابيب المستقل في الإقليم عن طريق تركيا. وفي الربع الثاني من عام 2022 وحده، حققت مبيعات النفط في “كردستان العراق” إيرادات إجمالية بقيمة 3.77 مليار دولار. وفي حين أنه لم يصل سوى 41 في المائة من هذه الإيرادات إلى خزائن “حكومة الإقليم” (كان الباقي مخصصاً لدفع تكاليف قطاع النفط بالإضافة إلى خدمة ديون الحكومة)، إلّان “حكومة الإقليم” جنت 1.57 مليار دولار. أما بالنسبة للغاز الطبيعي، فقد بلغ الإنتاج الذي سوّقته “حكومة إقليم كردستان” حوالي 5.3 مليار متر مكعب سنوياً في عام 2021.
ولكن كانت هناك مكاسب للتكلفة. فادعاء الحكومة الاتحادية ملكيتها للنفط الكردي أرغم “حكومة إقليم كردستان” على بيعه بأسعار منخفضة نظراً للمخاطر السياسية. بالإضافة إلى ذلك، تفاقمت الخلافات بين أربيل وبغداد حول عائدات النفط والجمارك في عام 2014، مما دفع بغداد إلى اقتطاع حصة “حكومة الإقليم” من الميزانية الوطنية. وفي عام 2022، قضت “المحكمة الاتحادية العليا” في العراق رسمياً بعدم دستورية قانون الموارد الطبيعية الخاص بـ “حكومة إقليم كردستان” وعدم قانونية عقودها وصادراتها النفطية. كما رفعت الحكومة العراقية دعوى قضائية ضد تركيا في محاكم التحكيم الدولية بشأن السماح لـ “حكومة الإقليم” باستخدام خط الأنابيب العراقي التركي دون موافقة بغداد. وأثناء كتابة هذا المقال، أيدت المحكمة موقف العراق، مما أرغم تركيا على وقف صادرات نفط”حكومة الإقليم”. ولا يزال مستقبل قطاع الطاقة المستقل في “حكومة إقليم كردستان” غير مؤكد.
وحيث أن “حكومة الإقليم” عازمة على الاستقلال بصورة أكثر عن بغداد، فقد أصبحت تعتمد على كيانات وعوامل أخرى خارجة عن سيطرتها، بما فيها أسعار النفط العالمية وسعر صرف الدولار مقابل الدينار، وعلى تركيا التي يمر عبرها خط الأنابيب. وبدأت نقاط ضعف هذه المجموعة تظهر في عام 2014، عندما تسبب توسُّع تنظيم “الدولة الإسلامية” في قيام شركات النفط الدولية بسحب مشاريعها المرتقبة أو تعليقها. وعوّضت “حكومة إقليم كردستان” الخسائر من خلال استيلائها على حقول نفط كركوك في أعقاب انسحاب الجيش العراقي، مما ضاعف صادرات “حكومة الإقليم” من النفط الخام إلى 550 ألف برميل في اليوم. ولكن هبوط أسعار النفط عرقل هذه المكاسب، إذ انخفض سعر البرميل الواحد من نسبة قصوى بلغت 115 دولاراً في حزيران/يونيو 2014 إلى 70 دولاراً في كانون الأول/ديسمبر (من ذلك العام) و35 دولاراً بحلول شباط/فبراير 2016. ووصف نائب رئيس الوزراء قوباد طالباني الوضع المالي المتردي لـ “حكومة إقليم كردستان” في ذلك الوقت بأنه “تسونامي اقتصادي“. ومن المظاهر الواضحة على فقدان الثقة في “حكومة الإقليم” قيام موجة جديدة من الهجرة إلى أوروبا. وبحلول عام 2021، ونتيجة لهذه العوامل، من بين أمور أخرى، واجهت “حكومة الإقليم” ديوناً بقيمة 31.6 مليار دولار.
الانقسامات الداخلية والضعف المؤسسي
في السنوات الأخيرة، ظهرت انقسامات بين العائلتين الحاكمتين في “كردستان العراق”، والتي برزت مع ضعف الأحزاب السياسية في الإقليم. فبعد وفاة مؤسس «الاتحاد الوطني الكردستاني» جلال طالباني في عام 2017، تولى نجله الأكبر وابن أخيه رئاسة الحزب بصورة مشتركة. وفي عام 2021، نشب نزاع بين أبناء العم بافل ولاهور طالباني، ونجح الأول بالإطاحة بالثاني. وفي غضون ذلك، يستعر صراع على السلطة في عائلة بارزاني بين اثنين من أبناء العمومة، والذي من شأنه الإخلال بتماسك «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وحكومة الإقليم بأكملها. وتعكس هذه الصراعات الداخلية نقاط ضعف مؤسساتية على نطاق واسع وتراجع الديمقراطية في “إقليم كردستان”.
على سبيل المثال، كانت مؤسسات “حكومة الإقليم” متضعضعة وغير مستعدة على الإطلاق لمواجهة “التسونامي الاقتصادي” الذي بدأ في عام 2014. وكانت المرّة الأخيرة التي أقرّ فيها مجلس نواب “إقليم كردستان”ميزانية هي في عام 2012. وشهد القطاع العام تضخماً خارجاً عن السيطرة، مما أدى إلى مزاحمة وظائف القطاع الخاص. وبحلول عام 2017، كانت “حكومة إقليم كردستان” أكبر القطاعات توفيراً للعمالة في كردستان، حيث كانت توظف نصف القوى العاملة، أي ما يقرب من 1.4 مليون شخص، بتكلفة 750 مليون دولار شهرياً. وقد أدّى الفساد وعدم الكفاءة إلى تشويه التوظيف في القطاع العام، مع وجود الآلاف من الموظفين الوهميين ومزدوجي الوظائف والمعاشات التقاعدية والمتقاعدين غير المستحقين، في حين يدين القطاع الخاص الناشئ بوجوده لشركات قابضة يملكها أو يسيطر عليها أفراد من العائلتين الحاكمتين في كردستان. ولتجنب قيام قطاع الطاقة في “حكومة الإقليم”، بكشف أوراقه لبغداد، أصبح غامضاً وغير خاضع للمساءلة على نحو متزايد.
وتتمتع قوات “البيشمركة” بنفوذ وهَيْبة واستمرت في حشد دعم شعبي وسياسي كبير، لا سيما خلال مشاركتها مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلا أن الصدع السياسي الهائل بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني» قلل من قيمة “إقليم كردستان” كشريك للولايات المتحدة وقلص النفوذ الكردي في بغداد. وليست هناك حسابات دقيقة متاحة عن عدد مقاتلي “البيشمركة”، إلّا أنه يقدَّر ما بين 160,000 مقاتل وضعف هذا العدد. وأقر رئيس الوزراء الإقليم مسرور بارزاني أن قوات “البيشمركة” تضم جنرالات في صفوفها أكثر من أولئك في صفوف الجيش الأمريكي أو الصيني. ومنذ بدء الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، قدمت الولايات المتحدة رواتب وتدريبات لوحدات “البيشمركة” مقابل الوعد بتوحيدها تحت قيادة “حكومة إقليم كردستان” بدلاً من الحزبين الحاكمين. ولكن «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني» يرفضان التنازل عن السيطرة على وحداتهما – وهو موقف أشارت إليه “قوات الحشد الشعبي” في ازدرائها للسلطة الوطنية.
وبشكل عام، تدهورت سمعة “حكومة إقليم كردستان” من ناحية تقدير الديمقراطية وحقوق الإنسان في السنوات منذ عام 2003. وبسبب الحرب الأهلية والانقسامات الداخلية في تسعينيات القرن الماضي، لم تُجرَ الانتخابات الثانية لمجلس النواب في الإقليم إلا بحلول عام 2005، أي بعد 13 عاماً من الانتخابات الأولى. ولم تُجرَ الانتخابات اللاحقة إلا بعد تأخيرات كبيرة. وأصبح الفوز الانتخابي والسلطة غير منسجمين بشكل متزايد في الإقليم. فعندما فاز حزب “كوران” المعارض غير المسلح بالمرتبة الثانية في انتخابات عام 2009، بحصوله على أصوات أكثر من تلك التي حصل عليها «الاتحاد الوطني الكردستاني»، لم يسمح الحزبان الحاكمان لحزب “كوران” بمشاركتهما السلطة. وعلى الرغم من انتهاء ولاية الرئيس مسعود بارزاني في عام 2015، إلا أنه لم يترك منصبه إلا في عام 2017، مما أدى فعلياً إلى إغلاق مجلس النواب الكردي لمدة عامين من أجل تمديد فترة ولايته. فلا عجب في أن نسبة المشاركة في الانتخابات الكردية تشهد تراجعاً مطرداً.
مستقبل “حكومة إقليم كردستان”
على الرغم من السردية المستمرة المتعلقة بمظالم الأكراد العراقيين وشعورهم بالضحية، إلّا أنهم مارسوا سلطة وحرية اختيار كبيرة خلال العقود الثلاثة الماضية. ويواصل قادة “حكومة الإقليم” السعي وراء الحصول على المزيد من السلطة والاستقلالية، ولكن لأي غاية؟ فعلى الرغم من الانتعاش الذي شهدته السياسات الكردية بعد الغزو في أعقاب عقود من الحرب والإبادة الجماعية والإهمال، إلا أنها لم تنجح في التخلص من الانقسامات الداخلية المزمنة. ويظل الاقتصاد وقوات “البيشمركة” المؤسسات الأكثر تطوراً في الإقليم والتي يمكنها أن تدعم كردستان المستقلة.
وفي حين استخدمت “حكومة إقليم كردستان” السياسة الاقتصادية للتحول نحو الاستقلال السياسي، إلا أنها لم تنتج بعد نموذجاً اقتصادياً قابلاً للتطبيق. وفي الواقع، على الرغم من سجل 30 عاماً من الإدارة الناجحة لاقتصاد إقليمي، إلّا أن السعي اللامتناهي للاستقلال الاقتصادي لم يؤدِ سوى إلى تحويل التبعية من العراق إلى تركيا أو من المساعدات الخارجية إلى عائدات النفط. وتُظهر السياسة الاقتصادية الخاصة التي ظهرت ببطء، مثل صورة بولارويد، على مدى العقدين الماضيين، سمات الاشتراكية والأسواق الحرة ونظام الحكم المستفحل بالفساد. وفي غضون ذلك، يبقى الوصول إلى السلطة والثروة مرتبطاً بالسياسة وليس بالنشاط الاقتصادي.
لقد اختبر استفتاء الاستقلال لعام 2017، الذي دعا إليه رئيس الإقليم آنذاك مسعود بارزاني، الأصول العسكرية والاقتصادية لـ “إقليم كردستان”. ولم يكن بإمكان المجتمع الدولي ولا جيران “إقليم كردستان” تحمّل إعادة رسم حدود الشرق الأوسط، ولم تكن “حكومة الإقليم”مستعدة لتحمل التكاليف الاقتصادية والسياسية لجهدها الرامي إلى الانفصال عن العراق. وكلّف الاستفتاء وعواقبه “حكومة الإقليم” المكاسب التي حققتها في أعقاب غزو تنظيم “الدولة الإسلامية” في عام 2014، والتي شملت كركوك وحقولها النفطية، التي استعادها الجيش العراقي و”قوات الحشد الشعبي” بعد مواجهة مسلحة مع “البيشمركة”. ومع ذلك، كان الأمر الأكثر ضرراً هو الإجابة الواضحة التي وفّرها الاستفتاء على سؤال كان غامضاً حتى الآن: هل بإمكان “حكومة إقليم كردستان” أن تصبح دولة مستقلة؟
ومع تعمق الانقسامات الكردية وتحسن الوضع الأمني في بقية أنحاء العراق، يتحوّل ميزان القوى الذي كان سابقاً لصالح “حكومة إقليم كردستان” لصالح بغداد. ومنذ الاستفتاء، اختلف قادة “حكومة الإقليم” على الرؤى المتعلقة بمركزهم داخل العراق وعلى خطط إنقاذ قطاع الطاقة المضطرب في الإقليم. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا، هل ينبغي أن يبقى الاقتصاد الكردي مرهوناً بالمساعدات الخارجية والنفط وتحويلات الميزانية من بغداد، أم يمكنه بناء اقتصاد قوي من خلال الإصلاح والتنويع؟ هذه الأسئلة هي من بين تلك التي أثيرت على مدى السنوات العشرين الماضية. إذا سيتم الإجابة عنها وكيف ستكون هذه الإجابة سيحددان مستقبل “إقليم كردستان”.
بلال وهاب
معهد واشنطن