نشر موقع “أكسيوس” الأمريكي، في 3 إبريل 2023، تسريبات عن مباحثات جرت بين مسؤولين أمريكيين ونظرائهم في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسرائيل، بشأن اقتراح عقد اتفاق مرحلي لحلحلة النزاع حول الملف النووي الإيراني، وذلك في ضوء توقف جولات المباحثات في فيينا لإحياء العمل بالاتفاق النووي الإيراني في مارس 2022.
ولذلك، ظهرت فكرة العدول عن هذا الاتجاه والاكتفاء بدلاً منه باتفاق مرحلي، يتم وفقاً له تجميد العمل ببعض العقوبات المفروضة على إيران مقابل تجميد الأخيرة أجزاءً من برنامجها النووي، ووقف تخصيب اليورانيوم عند نسبة 60%. ولم يصدر بيان أو تصريح رسمي من أي دولة بشأن هذا الاقتراح، ولكن ما تردد من تصريحات رسمية أمريكية وإسرائيلية يشير إلى الانزعاج أو القلق من تقدم طهران في مجال تخصيب اليورانيوم، وأن واشنطن ملتزمة بالحيلولة دون امتلاك إيران لسلاح نووي، وأنها ما زالت تبحث عن حل دبلوماسي لتحقيق هذا الهدف، وأن إسرائيل تُهول من تصوير الخطر الذي تمثله إيران تجاه الشرق الأوسط والعالم كله.
الاتفاقات المرحلية:
قبل تحليل فكرة الاتفاق المرحلي ومدى صلاحيته للاستخدام في حالة النزاع بين إيران من جانب، والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول الغربية من جانب آخر، يكون من المهم تعريف مفهوم الاتفاقات المرحلية “Interim agreements”، وخبرات استخدامها في النزاعات الدولية.
ويشير مفهوم الاتفاقات المرحلية في القانون الدولي العام إلى اتفاق مُلزم بين طرفين أو أكثر يتم تنفيذه لفترة زمنية محددة لحين الوصول إلى حل نهائي للنزاع. وتُستخدم الاتفاقات المرحلية عادة لحل القضايا العاجلة أو الساخنة في النزاع كمدخل للحل الشامل. وتأخذ أشكالاً متنوعة مثل البروتوكول، ومذكرة التفاهم، وإعلان المبادئ، والاتفاقية. ومع أن الاتفاقات المرحلية مؤقتة بحكم تعريفها، فإنها قد تصبح دائمة بحكم الأمر الواقع، ومن أمثلة ذلك اتفاقيات الهدنة التي وقعتها الدول العربية مع إسرائيل في أعقاب مفاوضات رودس عام 1949.
وقد تم استخدام الاتفاقات المرحلية في مختلف النزاعات الدولية في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والخلافات بشأن البيئة، والنزاعات العسكرية، حيث تلجأ أطراف النزاع إلى أسلوب الاتفاقات المرحلية لمزاياها مثل أنها تضع نهاية لحرب قائمة، أو تقلل من حدة نزاع سياسي أو تجاري وتحول دون تصعيده، وتفتح الباب لحل تفاوضي، وتؤدي إلى بناء الثقة بين الدول أو الأطراف المتنازعة، وتخلق قنوات للتعاون بينها. ولكنها تبقى في كل الأحوال حلول مؤقتة لا يُمكن أن تكون بديلاً عن الحل النهائي للنزاع.
وهناك العديد من الاتفاقات المرحلية مثل اتفاقيتي فض الاشتباك في عامي 1974 و1975 بين مصر وإسرائيل في أعقاب حرب 1973، واتفاق جنيف في عام 1988 بشأن الحرب في أفغانستان والذي نظم انسحاب القوات الروسية من أفغانستان وعودة اللاجئين الأفغان إلى ديارهم وتعويضهم مالياً. وهناك أيضاً اتفاق أوسلو في عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل؛ والذي وضع الإطار المُنظم للمفاوضات بهدف الوصول إلى اتفاق نهائي للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، واتفاقية دايتون التي أنهت القتال في البوسنة والهرسك في ديسمبر 1995، والاتفاقات المرحلية لإنهاء الحرب الدائرة في كوسوفو عام 1999.
ويتوقف نجاح الاتفاقات المرحلية على عدة عوامل منها، رغبة أطراف النزاع في التفاوض بحُسن نية وجدية للوصول إلى حل يُنهي النزاع، وأن تكون لغة الاتفاق واضحة تحدد مهام كل طرف ومسؤولياته في المرحلة الانتقالية، وأن تكون هذه المهام مُمكنة، وأن يوجد نظام لمراقبة تنفيذ كل طرف لالتزاماته، وأن تُبدي أطراف النزاع درجة من المرونة والواقعية وتقديم التنازلات المتبادلة للوصول إلى الحل النهائي. ويُزيد من احتمالات نجاح الاتفاقات المرحلية، وجود دعم دولي لها قد يتمثل في دور للأمم المتحدة أو إحدى المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية أو الاتحاد الإفريقي، أو تدخل إحدى الدول من خلال الوساطة والمساعي الحميدة.
الحالة الإيرانية:
بناءً على ما سبق، هل يصلح نهج الاتفاقات المؤقتة أسلوباً لحل النزاع بين إيران والغرب بشأن الملف النووي؟ من الأرجح أن تكون الإجابة بالنفي، ومع أن الطرفين الإيراني والغربي قد استخدما أسلوب الاتفاق المرحلي من قبل، وتم توقيع اتفاق في عام 2013 كان مقدمة للاتفاق المُبرم في عام 2015؛ فقد تغيرت الظروف ولم يُعد ما كان ممكناً من قبل وارداً اليوم.
ونستطيع أن نفهم ذلك في ضوء تغير الظروف الدولية وتطور العلاقات بين الطرفين، فالنزاع بين طهران وواشنطن بشأن الملف النووي هو أحد جوانب صراع أكبر متعدد الجوانب يشمل موضوعات أخرى مثل، إدانة واشنطن لممارسات السلطات الإيرانية في التعامل مع المتظاهرين وإصدار أحكام بالإعدام عليهم، وإدانة ما تردد عن بيع إيران طائرات مُسيّرة لروسيا بهدف استخدامها في حربها ضد أوكرانيا. وهذا ما يُوجد سياقاً مختلفاً لملف البرنامج النووي الإيراني، فلم يعد وحده محل النزاع، ولم يعد أكثر القضايا سخونة لدول العالم ما عدا الولايات المتحدة وإسرائيل في المقام الأول. ويدل على ذلك أن الدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج، التي من المفترض أن تكون أول من يخشى التهديد النووي الإيراني، تلجأ إلى أسلوب الدبلوماسية والتعاون مع طهران سبيلاً لحل نزاعاتها معها، ومن ذلك الإعلان عن الاتفاق السعودي الإيراني في 10 مارس 2023 لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وثمة فجوة وعدم ثقة بين الولايات المتحدة وإيران، والتي كانت هاجساً دائماً عند الإيرانيين الذين شككوا في حسن نيات واشنطن وفي عدم التزامها بما توقع عليه من اتفاقات، وهي الشكوك التي ثبتت صحتها بعد انتقال موقع الرئاسة من الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، الذي وافق على اتفاقية عام 2015، إلى سلفه دونالد ترامب الذي أعلن انسحاب واشنطن من هذه الاتفاقية في مايو 2018. وفي هذا السياق، ربما ينظر بعض الإيرانيين إلى اقتراح الاتفاق المرحلي على أنه “فخ” تكسب به إدارة الرئيس جو بايدن نقطة جديدة تضيفها إلى سجلها في الحملة الانتخابية الرئاسية المقررة في عام 2024، ثم سرعان ما تتنصل من التزاماتها بعد ذلك.
وربما يشعر المسؤولون في طهران بأن واشنطن ليست في أحسن أوضاعها ولياقتها على المسرح العالمي، بسبب سياساتها تجاه روسيا والصين، فمنظومة العقوبات الاقتصادية الهائلة التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا عقاباً لها على تدخلها العسكري في أوكرانيا، لم تؤد حتى الآن إلى انخفاض قدرة الجيش الروسي على الاستمرار في القتال، ولم تؤد إلى خلخلة أركان الاقتصاد الروسي.
أضف إلى ذلك، تبلور التنافس الأمريكي الصيني في مختلف مناطق العالم، وازدياد مكانة الصين الدولية اقتصادياً وسياسياً، مما دفع وثائق الأمن القومي الأمريكي إلى اعتبار بكين العدو الرئيسي لها باعتبارها الدولة الوحيدة التي تملك كل عناصر القوة الشاملة لتحدي قيادة واشنطن للعالم. وهذا الاتجاه لا يحظى بتأييد أغلب حلفاء واشنطن وشركائها في العالم، ويدل على ذلك، عدم تجاوب القادة الأوروبيين مع السياسات العدائية للولايات المتحدة تجاه الصين، واتباعهم سياسة الحوار مع بكين، والتي تمثلت في زيارات القادة الأوروبيين لها والتي شملت في الشهور القليلة الماضية رئيس وزراء إسبانيا والرئيس الفرنسي ووزيرة خارجية ألمانيا. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى مقترح الاتفاق المرحلي مع إيران على أنه رد فعل لنجاح زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية واجتماعه بعدد من القادة العرب في الرياض في ديسمبر 2022، ونجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران في مارس 2023.
ختاماً، لابد أن يتوقف الباحث أمام نص التسريبات الغربية عن مقترح الاتفاق المرحلي مع إيران، فهي تسريبات مجهولة المصدر أشارت إلى عشرات الشخصيات التي يصفها بأنها تحدثت مع التعهد بعدم الإشارة إليها علناً، وهو ما يضع هذه التسريبات محل شك وتساؤل وأنها ربما تكون “بالونة اختبار” لمعرفة ردود فعل طهران عليها، وربما ترتبط بما تردد عن اجتماع كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري كني، مع دبلوماسيين من بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي في أسلو في شهر مارس 2023 لبحث سُبل إحياء الاتفاق النووي الإيراني.