يقارن الكاتب الإسرائيلي أفراييم غانور بين أوضاع إسرائيل الآن وتلك التي عاشتها قبيل اندلاع حرب عام 1967 ليقترح حرباً وقائية مهمتها هذه المرة ليست احتلال مزيد من الأراضي العربية، وإنما توجيه ضربة ماحقة لإيران ولما تعتبره الدولة العبرية أذرعها في المنطقة.
ويشبه الكاتب في مقالة نشرتها صحيفة “معاريف” واقع إسرائيل اليوم بواقعها مطلع عام 1967، إذ كانت تعاني انكماشاً اقتصادياً منذ فترة تسبب بموجة من الاضطرابات والصرف من العمل وتصاعد الهجرة المضادة، ووصل الأمر إلى حد رفع لافتة على مدخل مطار اللد كتب فيها “على آخر المغادرين إطفاء الضوء”.
كان الرئيس جمال عبدالناصر الخارج من اليمن يقود الحملة ضد إسرائيل والجيش السوري يقصف سهل الحولة من مواقعه المحصنة في الجولان ويحمي مشروع تحويل مياه الأردن التي تعتبرها إسرائيل مسألة حياة أو موت، ووجدت إسرائيل المعزولة كلياً في محيطها نفسها محاصرة ومهددة بعد عقدين على قيامها، ولم يكن وضعها الدولي أقل سوءاً، فالعلاقات مع فرنسا الديغولية ليست في أفضل أحوالها وأميركا الراعي اللاحق كانت في خضم الغرق في وحول فيتنام.
كان مخرج إسرائيل حرباً استباقية أسفرت عن هزيمة عربية لا مثيل لها واحتلال الجولان والضفة وقطاع غزة وسيناء قبل أن تعود هذه البقعة الأخيرة لمصر بمقتضى معاهدة سلام بعد أكثر من عقد من الزمان.
واليوم تشعر إسرائيل بأخطار شبيهة بتلك التي داهمتها قبل 56 عاماً على رغم تحسن وضعها الإقليمي والدولي، والسبب الأساس في ذلك هو إمعانها في سياسة الاحتلال والاستيطان والقمع ورفض بذل أي جهد للإسهام في إيجاد حل للقضية الفلسطينية على قاعدة القرارات الدولية القائلة بالانسحاب من الأراضي المحتلة، أول الانخراط الفعلي في حل الدولتين الذي أجمعت الدول العربية والعالم على دعمه.
سارت إسرائيل عشية الذكرى الـ 75 على قيامها عكس المصالح الوطنية الفلسطينية والعربية، وأكملت نهجها العدواني واستخفافها بالسلطة الوطنية الفلسطينية فعززت الاستيطان والقمع في الضفة وجعلت منهما سياسة يومية تقود بشكل طبيعي إلى تصاعد المقاومة بكل أشكالها، وسط تعاطف واسع يستدعي دخول عوامل ومؤثرات خارجية في ظروف الصراع الدولي المحتدم.
كان الإصرار على يهودية الدولة وضرب مقومات السلطة الوطنية الفلسطينية لمصلحة الاستيطان اليهودي ثم معركة تطويع القضاء على يد الحكومة الراهنة خريطة طريق للصراع المقبل، وتراجع المنطق الوطني إزاء تصاعد الخطاب الديني في الوسط الفلسطيني، ولم تعد حركة التحرير الوطني (فتح) أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما تتصدر واجهة العمل الوطني الفلسطيني، وباتت المقاومة “الإسلامية” بصيغة “حماس” أو “الجهاد” ومعهما من الخارج “حزب الله” وغيره من التنظيمات تتصدر تلك الواجهة، في تحويل واضح للصراع من قضية وطنية عربية إلى صراع ديني مذهبي.
ولم يكن ذلك ليحصل لولا حسابات خفية لضرب المشروع الوطني الفلسطيني بمشروع طائفي يحل محله، وهي سياسة اتهمت بها إسرائيل منذ الثمانينيات، واتهمت بها دول غربية حرصت على دعم تنظيمات إسلامية منذ ثلاثينيات القرن الماضي لمواجهة موجات الاستقلال والنهضة القومية العربية، فيما دعمت إيران المقاومة الإسلامية الجديدة لإزالة “الكيان الصهيوني” في مهمة إيرانية خالصة.
ومع ذلك فمن غير الثابت ما تريده السياسة الإيرانية من إسرائيل تحديداً، فصحيح أن شعارها “الموت لإسرائيل” يتردد في ساحاتها منذ 40 عاماً، لكن هذا لم يمنعها من الاستعانة بهذا العدو لجلب السلاح ضد العراق في ما عرف بصفقة “إيران كونترا”، وفي كل تاريخها الثوري لم يسجل لها أي هجوم مباشر على إسرائيل، حتى إن تنظيم “القاعدة” الذي كشف عن إقامة قادته في إيران لم يسع يوماً إلى إزعاج إسرائيل، فيما كان يمعن في تخريب أمن بلدان عربية أخرى.
إيران جعلت من خطابها الفلسطيني منصة لتعزيز حضورها في بلاد الشام القديمة تحت لافتات مذهبية قومية، وكانت كل المنظمات التي أسستها ترفع شعارات فلسطين فيما هي تمعن في قضم البلدان التي تعمل فيها، وذلك أتاح لها ذلك في السابق وسيتيح لها في المرحلة اللاحقة تعزيز حضورها من بغداد إلى بيروت سعياً إلى ذلك الهدف النبيل: تحرير فلسطين.
في شهر رمضان الماضي وعشيته، وتحت عنوان القدس والمسجد الأقصى، طرحت القيادة الإيرانية وحدة الساحات المقاومة، لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، وأقامت لها غرفة عمليات مشتركة كان أبرز أعمالها إطلاق 34 صاروخاً من لبنان باتجاه إسرائيل فيما كانت صراعات المسجد الأقصى تبلغ ذروتها، وكان الهدف الإيراني القول إن تحسن العلاقات الإقليمية سيقود إلى مزيد من التركيز على القضية الجامعة عربياً وإسلامياً، وأن طهران هي التي تتولى قيادة العمل العربي والإسلامي في وجه “الكيان”.
الحماسة التي واكبت إنجاز وحدة الساحات وغرفة العمليات دفعت قائد الحرس الثوري حسين سلامي إلى مزيد من البوح، وقال في ما يشبه تبنياً كاملاً للمواجهات والهجمات إن “إسرائيل تتعرض اليوم لهجمات بالصواريخ من سوريا ولبنان وغزة، ونيران الغضب تتصاعد في الضفة”. وكشف خلال مناسبة يوم الجيش الإيراني في الـ 18 من أبريل (نيسان) الجاري أن “أيدي الغيب سلحت الضفة الغربية، وتسبب الصهاينة في استشهاد اثنين من قواتنا في سوريا، لكن سبعة منهم قتلوا بأيدي الغيب في الضفة”.
كان قائد الحرس فخوراً وصريحاً ولم يبق له سوى أن يعلن حضور إيران المباشر وحرسها من “أيدي الغيب” في فلسطين المحتلة لمقارعة إسرائيل، وسرعان ما تلقفت إسرائيل الرسالة الإيرانية، فاعتبر وزير الدفاع يوآف غالانت “أننا في نهاية عصر المواجهات المحدودة وأمام حقبة أمنية جديدة فيها تهديد حقيقي لإسرائيل على جميع الساحات في الوقت نفسه”.
واتهم غالانت إيران بأنها “القوة الدافعة عبر توفير الموارد والأيديولوجيا والمعرفة والتدريب لوكلائها”، وقال إن “إيران أقرب من أي وقت مضى إلى القدرة النووية العسكرية، وفي مواجهة هذا التهديد يجب التصرف بإحدى طريقتين، عمل عسكري أو تهديد عسكري موثوق”.
كان الكاتب الإسرائيلي غانور قبل سنوات معارضاً للتهديد الإسرائيلي بمهاجمة المشروع النووي الإسرائيلي، وتحليلاته استحقت اهتماماً ونقاشاً في قناة “العالم” التلفزيونية الإيرانية الموجهة إلى العالم العربي، واليوم هو ككثير من المحللين والسياسيين الإسرائيليين يرفعون النبرة تجاه إيران، وإيران لا تبخل عليهم بالمادة الملائمة مستندة إلى مواصلة الحكومات الإسرائيلية تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وإلى حال الانشقاق في المجتمع الإسرائيلي وتوتر علاقات بنيامين نتنياهو مع الإدارة الأميركية.
المادة الملائمة تتيح تطوير نظرية وحدة الساحات وصواريخها العابرة للحدود والأوطان الهشة، وتسمح بتكرار المرشد علي خامنئي توقعاته بزوال إسرائيل بعد 25 عاماً، وبتهديد الرئيس إبراهيم رئيسي بتدمير حيفا وتل أبيب، وقول قادة آخرين إن كل ذلك لن يستغرق سبع دقائق.
الخطاب الإسرائيلي في شأن إيران يكرر التهديدات الإيرانية بصورة معاكسة، فالطرفان يواصلان تهديد بعضهما بعضاً ويحاولان إلحاق أضرار محدودة بأصولهما في الزمان والمكان من دون الولوج إلى صدام كبير، لكن هذه المرة قد لا تستمر الأمور على ما كانت عليه، فالحرب بين الطرفين تبدو أقرب. أين وكيف؟ فلنقرأ غانور قائلاً “في هذا الوقت الذي تضاء فيه كل أضواء التحذير بقوة على خريطة إسرائيل لا مجال للتردد، ويجب على دولة إسرائيل الآن وفوراً شن حرب وقائية ذكية ومفاجئة لضرب منظومة آلاف الصواريخ لدى حزب الله في لبنان وتوجيه ضربة قاضية إلى رأس الأفعى الإيرانية، وكذلك توجيه ضربة إلى ’حماس‘ و’الجهاد الإسلامي‘”.
المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية تعدت حدود الخطابات، فهل باتت الحرب الشاملة على جدول الأعمال؟ وهل لا مفر من الانفجار؟ أم أن عوامل أخرى إقليمية ودولية ستتدخل لمنعه؟
اندبندت عربي