برزت خلال العقد الأخير تدافعات هائلة لمشاريع متعددة إثر احتراق مشروع الشرق الأوسط الكبير في العراق الذي صنعته وحملت لواءه قوى اليمين الأميركي. أكثرها وضوحا مشروع الإسلام السياسي الذي سقط بسرعة خيالية حيث كشف عن هزاله في الخطّيْن الشيعي والسني، فقد سقط الإخوان المسلمون في كل من مصر وتونس، لأنهم انعزلوا عن الشعب، وحزب الدعوة في العراق دخل مرحلة التفكك والانهيار لولا دعم كل من أميركا وإيران وظهور داعش، فلو انفرطت هذه العقد الثلاث بهزيمة داعش، وتبدلت أولويات المصالح خصوصا لدى الأميركان لسقط حكم الدعوة في بغداد بسهولة سقوط الإخوان في مصر وتونس، لأنه ابتعد عن أحلام الشيعة العراقيين وآمالهم في الحياة الكريمة، وشوّه تاريخهم الوطني كقيادات وكفاءات ساهمت في بناء العراق ودولته العربية التي ذابت داخلها المذاهب لصالح المواطنة العراقية.
وقع هذا الحزب في خانة الطائفية السياسية التي عزلته عن باقي مكونات الشعب العراقي حسب توصيفات النظام السياسي الجديد وفي مقدمتها العرب السنة الذين بنيت الدولة العراقية لسبعين عاما على أكتفاهم بعلمانية واضحة. وقع الأميركان في خطأ استراتيجي وسياسي كبير بعد احتلالهم العراق عام 2003 حين صنعوا بديلا طائفيا لحكم العراق، وقايضوا ما بين إزالة حكم صدام حسين وتسليمهم حكم العراق للقوى الطائفية الشيعية، ووقعوا في خطأ الدفاع عن تلك السياسات التي جرّت البلاد إلى أتون حرب طائفية اشتعل فتيلها عام 2006 ولم ينطفئ، ودخلت القوى المتطرفة (القاعدة ثم داعش) لتشكل قطب الصراع أمام التطرف الشيعي المتمثل في الميليشيات، والتي تتوهم أنها كسبت رهانها خلال السنة ونصف السنة الأخيرة بسبب ما وفرته الحملة العالمية ضد الإرهاب من تغاض عن ممارساتها في التغيير الديمغرافي للمناطق المحررة من داعش.
يبدو أن الأميركان وقادتهم، ابتداء من باراك أوباما مرورا بالقادة الكبار، أخذتهم أخيرا صحوة الاعتراف بالإثم وراحوا يعبرون عن ندمهم بتصريحات كثيرة، أكثرها جرأة اعترافهم بخطأ القضاء على النظام السابق، وتسليمهم الحكم للأحزاب الشيعية. في لقاء أوباما مع الصحفي الأميركي توماس فريدمان بتاريخ 12 أغسطس 2014 اعترف بقوله “لم نكن نحتاج إلى وجود قوات أميركية في العراق لو لم تقم الأغلبية الشيعية هناك بإهدار فرصة تقاسم السلطة مع السنة والأكراد، ولم يقوموا بتمرير تشريعات مثل اجتثاث البعث”. وقال أوباما في تصريح آخر “قتل عدو إيران صدام حسين كان خطأ فادحا”، كما صرح مايكل فلين قائد المخابرات العسكرية الأميركية بتاريخ 29 سبتمبر 2015 لمجلة ديرشبيغل “غزو العراق وقتل صدام كانا خطأين فادحين سيحاسبنا التاريخ عليهما”.
حاولت إدارة أوباما تعديل سياستها في العراق بعد قناعتها بأن القضاء على داعش، لا يتم عبر الوسائل العسكرية، فلجأت إلى حلول سياسية تخفف من الاحتقان الطائفي منذ أواسط عام 2014 عن طريق إزاحة نوري المالكي برضى إيراني، ووضعت على البديل الجديد حيدر العبادي حزمة من الحلول السياسية المتعلقة بعلاقة “الحكم الشيعي بالعرب السنة والأكراد”، لكن هذه المهمة فشلت لأن نوري المالكي لم تكن سياساته فردية، بل خاضعة لإستراتيجية إيرانية مدعومة من ولي الفقيه خامئني خصوصا في تأجيج الحرب ضد العرب السنة والقضاء على وجودهم السياسي والاجتماعي، وتحويلهم إلى متسولين للحصول على لقمة العيش تحت رحمة سلطة الأحزاب الشيعية، وكان طبيعيا أن تكون ردود فعلهم في فترة ما مهادنة لداعش، ولم يتمكن العبادي من تعديل تلك السياسات حتى وإن امتلك النيات الطيبة.
ولهذا فشلت الخطة الأميركية الجديدة في إحلال نظام سياسي يفتح الآمال في إعادة التوازن إلى الحياة السياسية وفي إزالة الظلم عن العرب السنة، ومنحهم فرصة القضاء على داعش بسهولة. لا شك أن تصعيد العمليات الحربية الجوية على داعش بعد واقعة باريس في 13 نوفمبر 2015 ودخول بريطانيا قد يضعفان التنظيم الإرهابي لكنهما لن ينهيا وجوده، الأميركان لديهم قناعة بأن العنصر البشري السني على الأرض مهم، ولهذا دعوا إلى تشكيل قوة برية قوامها مئة ألف مقاتل من السنة على أرض العراق وسوريا، لكن هذه الرغبة تصطدم برفض الميليشيات الشيعية في العراق التي هددت بمحاربة الأميركان، وكذلك التدخل الروسي المربك للمخططات الأميركية، وكذلك الهيمنة الإيرانية على الأرض العراقية.
في العراق ما زالت المشكلة معقدة الحل؛ تنامي قوى الميليشيات الشيعية واحتمال اختطافها للسلطة في بغداد، مقابل فشل الزعامات السنية أمام جمهورها وتخليها عن الدفاع عن حقوق الملايين من النازحين والمشردين عن ديارهم داخل العراق وخارجه، وعدم رغبة الأميركان الجدية في دعم وإسناد قيادات سنية وطنية بديلة لا طائفية، وغير ملطخة أياديهم بالفساد، ولم يتورطوا في العملية السياسية وهم كثر، وكذلك قيادات شيعية عروبية محبة للعراق. إيران تمنع تنامي كتلة نهوض سياسي واعدة في العراق ما لم تكن شخصياته تحت رعايتها في ظل الحرص على بقاء تاج نفوذها، العراق، وتراجعها واحتمال خسارتها في سوريا، والتسريبات حول مشاريع أقاليم برعاية أميركية (شيعستان وسنستان وكردستان) صعبة التحقق. وحتى لو تحقق مثل هذا المشروع فسيكون “الإقليم السني” الأضعف في وجود الزعامات الغارقة بالفساد والفوضى، ونفس الحال في الإقليم الشيعي.
الأميركان يعتقدون بأنه من دون العرب السنة في سوريا والعراق لا يمكن إلحاق هزيمة بتنظيم داعش، لكن ذلك يظل مجرد تمنيات لأن اللعبة توسعت أطرافها بالدخول الروسي المباغت، الذي يعتبر أن “التحالف الإيراني الروسي لدعم نظام بشار” هو البديل، وهو أمر يصطدم بالرفض السعودي التركي.
إذن لا ينتظر حل قريب ما دام الوضع العراقي سائرا إلى التفكك، وعدم وجود إرادة أميركية لتغيير الوضع السياسي العراقي وكذلك السوري قي ظل وضع فوضوي قائم على التفكك والحروب الطائفية. الحل السوري مرتبط بالحل العراقي، وكلاهما يخضعان لمساومات معقدة لأطراف الصراع: السعودية وتركيا ودول الخليج من جهة، وروسيا وإيران وحلفائهما من جهة أخرى. قد تنتهي ولاية أوباما ولا يحصل تغيير في العراق وسوريا.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية