التواطؤ الداخلي وصمة عار متعاقبة في التاريخ السياسي الكردي

التواطؤ الداخلي وصمة عار متعاقبة في التاريخ السياسي الكردي

يعتبر الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) في أربيل أول حزب كردستاني يدشن رسميا نهج الاعتماد على أنظمة الدول المجاورة التي تضطهد الكُرد ونسج العلاقات غير المتكافئة معها وتنفيذ أجنداتها فيما يتعلق بمحاربة وتصفية المناضلين الكُرد من تلك الأجزاء والذين كانوا يلجؤون الى الأراضي المحررة في إقليم كردستان العراق هربا من بطش تلك الأنظمة، وتسليمهم أحياء أو أمواتا إلى أجهزة استخبارات تلك الدول. وكان نظام الشاه محمد رضا بهلوي ومن بعده الخميني في طهران أول من تعاملوا مع (حدك) العراق على هذا الأساس، وبالتالي كان لكردستان إيران ومناضليه النصيب الأعظم من جحيم الغدر والخيانة الذين ذاقوا مرارته من قبل الأشقاء المفترضين.

يقول الدكتور أيوب بارزاني في نفس الكتاب (الحركة التحررية الكردية وصراع القوى الإقليمية والدولية 1958 – 1975) “وفيما يتعلق بالحركة الكردية في كردستان إيران، كان قد أضعفها كثيرا (ويقصد الشاه) باستخدام قيادة (حدك) العراق ضد (حدك) إيران”.

◙ (حدك) عمد الى خلق وترسيخ سياسة إيجاد الأتباع والمريدين وأشباه السياسيين والمثقفين في كردستان سوريا الذين لا يجيدون سوى التطبيل والتزمير وتزوير وفبركة التاريخ

وفي هذا السياق يقول شلومو نكديمون المستشار الإسرائيلي في كتابه “الموساد في العراق ودول الجوار” عن حركة بارزاني “كان لدى الشاه مخاوف أن يتعاطف بارزاني مع هذه الحركات وينقلب ضده”، ويقصد الحركات الكردية الإيرانية المعارضة للشاه، ثم يستمر شلومو قائلا “إن مسؤولًا إسرائيليًّا رفيع المستوى قد قال: جهدت جهدًا كبيرًا كي أقنع الشاه بأن بارزاني لن يقف مع هذه الحركات ضد نظامه وأنه هو وحده (أي بارزاني) بإمكانه أن يضمن المصالح الإيرانية مع العراق”.

ويقول السياسي الكردي محمود عثمان “لقصر نظر قيادة بارزاني السياسية ومصالحها الخاصة وعدم ثقتها بالروح الوطنية وبإمكانات الشعب الكردي الذاتية، أقدمت على تسليم عدد من وطنيي ومناضلي شرق كردستان إلى السلطات الإيرانية والقسم الآخر استشهد على يد هذه القيادة، ومن بينهم سكرتير الحزب الديمقراطي الكردستاني – إيران سليمان معيني”.

وبخصوص ردة فعل مصطفى بارزاني على اتفاقية الجزائر لعام 1975 بين إيران والعراق، يقول محمود عثمان الذي كان متواجدا في الاجتماع الذي جمع بين الشاه وبارزاني أن الأخير قال للشاه حرفيا “نحن شعبك وما دمت راضيا عن اتفاقية الجزائر وتؤمّن مصالح ايران التي هي وطننا الأم لا يوجد لدينا أيضا شيء ضدها ونحن رهن أوامرك إذا قلت موتوا نمت أو عيشوا نعش. لقد كنا مخلصين لك ولا نزال وسوف نبقى هكذا في المستقبل أيضا”. ويعلق الدكتور أيوب بارزاني في كتابه المشار إليه آنفا على هذا الموقف المتخاذل قائلا “إن طريقة تعامل ملا مصطفى مع شاه إيران تعيد بقوة إلى الأذهان طريقة تعامله مع الضباط السياسيين البريطانيين في الأربعينات من القرن الماضي. لم يتغير أسلوب سياسته مع الأقوياء طيلة حياته، فكان يُفرّط في الخضوع أمام القوى”.

وفي عهد الخميني، مارس الأبناء إدريس ومسعود، نفس دور الأب ملا مصطفى، عندما قدموا صكوك الطاعة والولاء غير المشروطة للنظام الرجعي الذي خلف الشاه ومحاربة الثوار الكُرد في كردستان إيران. في هذا السياق، يقول خضر مرسنة وهو قيادي في (حدك) إيران “وبعد سقوط الشاه عام 1979 خرجت المناطق الكردية في شرق كردستان من تحت سيطرة الدولة الإيرانية… الخميني من جانبه فكر مليًّا بهذه المعضلة وكيفية الخروج منها، وبعد عقد عدة لقاءات لإنهاء هذا التمرد، توصل إلى قرار بأن السبيل الوحيد هو تكليف العائلة البارزانية بإنجاز هذه المهمة… مقابل بعض الهبات والمبالغ المادية”.

ويتابع مرسنة قائلا “في اللقاء الأول بين الخميني والعائلة البارزانية، قال الخميني: أنتم هنا لستم ضيوفًا، إيران هي وطنكم، الإسلام يوحدنا، لا يوجد تمييز بين الفرس والكرد، حاولنا كثيرًا مع إخواننا الكرد (الحزب الديمقراطي الكردستاني –إيران وحزب كومله) أن نتوصل إلى حل، لكن كلا الحزبين يتلقيان المساعدة من صدام حسين ويهاجماننا، وهما السبب في برودة علاقاتنا معكم”.

ويُكمل مرسنة “وبعدما منح الخميني الهبات للأخوة إدريس ومسعود بارزاني والتي كانت عبارة عن مبالغ مالية، الأمر الذي جعل الأخوين يسرعان ليقبّلا يد الخميني (كما كان ملا مصطفى يقبّل أيادي الشاه)، والخميني بدوره أخذ بيده على رأسيهما قائلاً لهما: أنتما أصبحتما من أبنائي، وسأدعو لكما بالإحسان”.

ولم يسلم الكُرد في كردستان تركيا أيضا من غدر (حدك) بقيادة البارزانيين، حيث أمر ملا مصطفى بارزاني سنة 1971 بقتل قيادات بارزة في الحزب الديمقراطي الكردستاني – تركيا، ومن أهمهم سعيد ألجي وسعيد قرمزي توبراق الملقب بالكتور شفان. هذا ما عدا محاربة قوات “ب ك ك” في الإقليم بالتنسيق مع تركيا وتسليم بعضهم الى أنقرة. وفي كردستان سوريا لم يكف (حدك) عن التدخل السلبي في شؤون كُرد سوريا ولعب دور الوصي والشقيق الأكبر الواجب طاعته دون جدال بهدف التفرد والاستحكام بمصير القضية الكردية في سوريا بما يخدم أجندات (حدك) فقط دون اكتراث لحقوق الكُرد في سوريا او للمظالم التي كانوا يتعرضون إليها.

وكل ذلك بالتنسيق مع نظام حافظ الأسد الذي كان يستضيف (حدك) ويغدق عليه بالمقرات والامتيازات بالتنسيق مع نظام طهران. ومن أبرز تجليات تدخل (حدك) في شؤون كُرد سوريا عزل أحد أبرز مؤسسي الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا الراحل أوصمان صبري في ستينات القرن الماضي لرفضه تقديم صكوك الطاعة والولاء غير المشروطين لملا مصطفى وذلك بواسطة بعض المدفوعين من قبل (حدك) الذين ابتدعوا فيما بعد المصطلح الوهمي “بارزانيزم” لقاء بعض الامتيازات والهبات المالية.

عمد (حدك) إلى خلق وترسيخ سياسة إيجاد الأتباع والمريدين وأشباه السياسيين والمثقفين في كردستان سوريا الذين لا يجيدون سوى التطبيل والتزمير وتزوير وفبركة التاريخ. وكل ذلك بواسطة المال السياسي واللعب غير المباشر على وتر المناطقية والماكنة الإعلامية المضللة الهائلة التي يمتلكها والتي قامت وتقوم بغسل أدمغة الكُرد وتزوير التاريخ وتشويه الحقائق على غرار كافة المستبدين.

وفي أعقاب اندلاع الأزمة السورية في 2011 عمد (حدك) إلى لملمة أتباعه ومريديه في كردستان سوريا وجمعهم تحت مظلة (المجلس الوطني الكردي في سوريا) والذي يهيمن عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا والذي يعتبر فرع (حدك) في سوريا ويؤتمر بأوامر أربيل ويسترزق من العائلة البارزانية الحاكمة. ومن ثم انضم ذلك المجلس وبإيعاز من (حدك) إلى الائتلاف السوري المعارض الموالي لتركيا والذي يعتبر من أشد المعادين للحقوق الكردية في سوريا، وكافة فصائله المسلحة ارتكبت الفظائع والمحرمات بحق الكُرد في كافة المناطق الكردية المحتلة من قبل تركيا في شمال وشمال شرق سوريا. وكل ذلك لكي يقوم (حدك) بإرضاء تركيا أردوغان ونكاية بحزب الاتحاد الديمقراطي الموالي للعمال الكردستاني والذي يعتبر العدو المشترك لأنقرة وأربيل.

من المفترض أن تكون الغاية من قراءة ودراسة التاريخ هو المساعدة على حل ألغاز الحاضر وفك طلاسمه ولاسيما إذا كان هذا الحاضر كئيباً ومتخما بالعاهات والأوبئة واكتشاف وتشخيص الأخطاء بغية إصلاحها وتصويبها بما يضمن الإتيان بحاضر مقبول ومستقبل أكثر قبولا إن لم يكن مشرقا. ودون هذه المطامح من وراء التسليط على التاريخ سيبقى اطّلاعنا عليه بلا جدوى وسيكون عبثا في عبث، خاصة إذا عمدنا إلى الانتقائية في القراءة وغض الطرف المتعمد والممنهج عن الفضائح بسبب الخجل، وانتهاج تزوير وتحريف التاريخ واختلاق وفبركة وتضخيم الأحداث بهدف تعبئة صفحاته وحقبه الفارغة بالأوهام والأساطير وبدافع الغيرة الحضارية أو التاريخية أو تقليدا لقطعان الشعبويين والعصبويين من الأقوام الأخرى الذين لا همَّ لهم سوى تبرئة أسلافهم وذواتهم من وزر ما يكابدونه وإلقاء اللوم دائما وأبدا على الآخرين الغرباء استنادا إلى نظرية المؤامرة التي يعتاشون منها وبها.

ولم أجد ما أختم به هذا المقال المطول أفضل مما قاله الكاتب الأميركي هنري ميلر “جميع الأشياء التي نغمض أعيننا عنها حتى لا نراها، وكل الأمور التي نتهرّب منها، ننفيها ونقلل من أهميتها أو نحتقرها تلحق بنا الهزيمة في النهاية. والأشياء التي تبدو مقرفة ومؤلمة ومسيئة، يمكن أن تصبح مصدرا للجمال والسعادة والقوة إن واجهناها بعقلية منفتحة”.

العرب