يعرض الرئيس الأميركي جو بايدن الحرب في أوكرانيا على أنها معركة تدور رحاها بين الاستبداد والديمقراطية. وهو تصور يختزل ما هو على المحك حقًا في الحرب. وتشمل المتغيرات التي تخضع للاختبار الآن لبنة أساسية في بناء نظام عالمي جديد في القرن 21: طبيعة الدولة.
يمثل غزو روسيا لأوكرانيا النهاية الحادة لصعود كتلة حرجة من قادة العالم الذين يفكرون بمفهوم حضاراتي أكثر منه قوميًا. ويتخيل هؤلاء القادة الحدود الفكرية و/أو المادية لبلدانهم كما يحددها التاريخ، والعرق، والثقافة و/أو الدين بدلاً من القانون الدولي.
غالبًا ما ينطوي هذا التأكيد على إنكار وجود الحُكم الآخر، الاستبدادي أو السلطوي. ونتيجة لذلك، يجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه ضمن صحبة جيدة عندما يبرر غزوه لأوكرانيا من خلال التأكيد أن الروس والأوكرانيين هم شعب واحد؛ بعبارة أخرى، أن الأوكرانيين كأمة غير موجودين.
وكذلك هو أيضاً حال الحقوق التايوانية أو البحرية للدول الساحلية الأخرى في بحر الصين الجنوبي في ذهن الرئيس الصيني شي جين بينغ؛ أو الفلسطينيين وفق رؤية شركاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الائتلاف. ويشكل التفوق والاستثنائية مبدآن توجيهيان لرجال مثل رجب طيب أردوغان في تركيا، وناريندرا مودي في الهند، وفيكتور أوربان في المجر، ونتنياهو في إسرائيل/ فلسطين.
في العام 2018، اعتمد الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، قانونًا أساسيًا مثيرًا للجدل يعرّف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي. وكما قالت الصحفية كارولينا لاندسمان، فإنه “على النقيض من إعلان استقلال إسرائيل، نُظِر إلى قانون الدولة القومية على أنه يكرس التفوق اليهودي والدونية العربية، ويعزز الطابع اليهودي لإسرائيل على حساب طابعها الديمقراطي”.
وجادل الكاتب الصهيوني الديني الإسرائيلي إيهود نيور بأن “إسرائيل ليست دولة قومية بالمصطلحات الغربية. إنها تحقيق لنبوءة الكتاب المقدس بأن الشعب اليهودي من المفترض أن يكون دائمًا في الأرض المقدسة وأن يتبع تعاليم التوراة المقدسة، ليكون بفعله ذلك نورًا للعالم. ثمة مهمة عالمية لليهودية”.
وعلى نحو مماثل، يصف أردوغان تركيا بأنها “ضمير العالم”، وهي الفكرة التي تؤطر توقعاته للتعاون الدولي والمساعدة الإنمائية. وكما قال الباحثان سيباستيان هوغ وسوبريا رويشودري، فإنه “يتم تقديم تركيا على أنها بطريرك كريم يسير على خُطا (قراءة حميدة بشكل خاص) للإمبراطورية العثمانية، ويعتني بالمحتاجين -بمن فيهم، أهم من كل أحد آخر، أولئك الذين يُزعم أن الآخرين قد نسوهم. وفي تناقض واضح مع الممارسات الغربية التي توصف بأنها تخدم مصالحها الذاتية، يأتي الإيثار التركي مع الإطار الحضاري للمحبة والتضامن الإسلاميين اللذين يذكراننا بالعظمة العثمانية”.
في مقارنة أكاديمية، قارن هوغ ورويشودري مفهوم أردوغان عن الاستثنائية التركية بمفهوم مودي عن “فيشواغورو”. ويعتمد المفهوم الهندي على فلسفة الزعيم الهندوسي في القرن 19 سوامي فيفيكاناندا. ويقول الكاتبان: “إن تفسيره (مودي) للهندوسية، مثله مثل الفكر التوفيقي الهندوسي الغاندي، يتبنى ظاهريًا قيم التسامح والتعددية. ومع هذا التأطير وأمثاله، يمكّن تبني خطاب هندوسي توفيقي مستوحى من غاندي مودي من النأي بنفسه سياسيًا عن الخطاب الحضاري العلماني لـ(الزعيم القومي الهندي جواهر لال) نهرو”. وأضاف الباحثان: “في الوقت نفسه، بدأ خطاب مودي الحضاري، بإيمانه الذي لا جدال فيه بتفوق الهندوسية، في صبغ الخطاب الرسمي الهندي في المحافل الدولية”.
من جهته، وفي جهده لإعادة كتابة للتاريخ، صور بوتين، في مقال من خمسة آلاف كلمة نُشر قبل أقل من عام من غزو أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، الجمهورية السوفياتية السابقة (أوكرانيا) بأنها صنيعة معادية لروسيا أسست شرعيتها على محو “كل ما يوحدنا”، وأنها صوّرت “الفترة التي كانت فيها أوكرانيا جزءًا من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي على أنها احتلال”.
بقيامه بذلك، ابتكر بوتين المبرر الذي غالبًا ما يستخدمه القادة الحضاراتيون، إما لتوسيع أو استبدال مفهوم الدولة القومية التي تحددها الحدود الصلبة الراسخة في القانون الدولي، بمفهوم أكثر مرونة لدولة ذات حدود خارجية يرسمها التاريخ والعرق والثقافة و/أو الدين، والحدود الداخلية التي تميز حضارتها المتفوقة أو الاستثنائية عن الآخر.
تخدم النزعة الحضاراتية أغراضًا متعددة؛ حيث يساعد تأكيد الحقوق الحضارية المزعومة ودرء التهديدات الوجودية في تبرير الحكم الاستبدادي والسلطوي.
وقد أعاد شي، فيما أطلقت عليه ”غلوبال تايمز”، وهي صحيفة رئيسية للحزب الشيوعي الصيني، اسم “شيفيلايزيشن” Xivilisation (نحت من اسم شي والكلمة الإنجليزية “حضارة” civilization) تعريف الحضارة بحيث يدمج فيها الاستبداد. وكشف شي، في آذار (مارس)، النقاب عن مبادرته الحضارية العالمية في مؤتمر بكين الذي ضم 500 حزب سياسي من 150 دولة.
في انتقاد للتعزيز الغربي للديمقراطية وحقوق الإنسان، تشير المبادرة إلى أن الحضارات يمكن أن تعيش في وئام إذا امتنعت عن محاولة إسقاط قيمها الخاصة على العالم. “بعبارة أخرى”، كما قالت مجلة “الإيكونوميست” ساخرة، “يجب على الغرب أن يتعلم التعايش مع الشيوعية الصينية. ربما تكون قائمة على الماركسية، وهي نظرية غربية، لكنها أيضًا ثمرة ثقافة الصين القديمة”. وقد أطلق شي مبادرته قبل أيام من مشاركة بايدن في استضافة قمة افتراضية من أجل الديمقراطية.
يتناقض تأكيد كتلة حرجة وازنة من قادة العالم على مفاهيم الدولة الحضاراتية بشكل صارخ مع ترويج “نهضة العلماء”، أكبر حركة مجتمع مدني إسلامية وأكثرها اعتدالاً في إندونيسيا، للدولة القومية كبديل في الشريعة الإسلامية للمفهوم الحضاراتي للخلافة، دولة موحدة، للمجتمع الإسلامي العالمي.
باستخلاص الاستنتاجات من مقارنتهما بين تركيا أردوغان والهند في عهد مودي، خلص هوغ ورويشودري إلى أن الادعاءات الحضاراتية تخدم “مشروعين سياسيين متميزين، ولكنهما مترابطان: محاولات التغلب على التهميش الدولي، والجهود الرامية إلى تعزيز الحكم الاستبدادي محليًا”.
مثل بايدن، يقاتل شي وغيره من القادة الحضاراتيين من أجل احتلال الأرض المرتفعة في صراع لتشكيل النظام العالمي المستقبلي وفلسفته الأساسية التي يرتكز عليها. ويشكل نموذج بايدن عن “الاستبداد في مقابل الديمقراطية” جزءًا من هذا الصراع. ولكن، كذلك هو حال السؤال حول ما إذا كانت أنظمة الحكم سياسية بحتة أم حضاراتية. وقد يتبين أن معالجة هذه المسألة ستكون أكثر حسمًا بكثير بالنسبة للديمقراطيات نفسها.
الغد