كانت الثورة السورية، وما أعقبها من حرب أهلية وحرب عامة حدثاً كلياً، أوسع بكثير مما حصل في أي من البلدان العربية التي شهدت ثورات، بما فيها تلك التي تحقق فيها نجاح جزئي ظهر مؤقتاً في نهاية الأمر (تونس، مصر، وبطريقة مختلفة ليبيا واليمن). تبدو سوريا البلد الذي تعرضت ثورته وتطلعات التغيير السياسي فيه لأشد التحطيم من طرف نظام أشد توحشاً من البلدان العربية الأخرى، كما من داخل طيف الثورة في شكل قوى انقسام وطغيان فئوي أخرى. لقد ظهرت سوريا مثالاً لما يجب اجتنابه، إن من حيث قسوة الصراع وكلفته البشرية والمادية، أو من حيث تماديه فوق 12 عاماً، أو من حيث بقاء النظام الذي قتل محكوميه بالغازات السامة والبراميل المتفجرة وقصفهم بالطائرات الحربية ودفنهم في قبور جماعية معلومة وغير معلومة. وإلى ذلك تضاف واقعتان مستمرتان لا يبعد أن تكونا طويلتا الأمد كذلك: الانقسام الفعلي للبلد إلى أربع مناطق (إن وضعنا جانباً مرتفعات الجولان المحتلة منذ 56 عاماً)، ثم اللجوء الواسع النطاق لما يقارب 30% من السكان، فوق سبعة ملايين نسمة، إلى بلدان قريبة وبعيدة، فيما يمكن تسميته „سوريا الخارجة“ (إن سمينا السوريات الأربع التي تمخض عنها انقسام الجغرافيا السورية بـ»سوريا الداخلة“).
بعض سوريا الخارجة هذه تعيش في بؤس مادي وتتعرض للتمييز العنصري في لبنان وتركيا، وللعزل في الأردن، وتحرم من أن تنتظم أو تبنى مؤسسات تخصها، فتبقى رهينة محبس اللجوء المديد، ومعاملتها كمجرد حالات إنسانية تستمر في عيش نكد بفضل مساعدات الأمم المتحدة. لكن ظهر في بعض سوريا الخارجة هذه، في أوروبا خاصة، وكذلك في تركيا، عدد كبير من الأفراد، نساء ورجالا، ممن حققن وحققوا ثورات في الحياة الشخصية وامتلاك المصير، وهو ما كان متعذراً على أكثرهم في „سوريا الأسد»، ولا فرص لمثله في سوريا الداخلة عموماً. إلا أنهم في الوقت نفسه يواجهون كل ضروب الصعوبات الخاصة بالحياة في مناف قلما تكون كريمة، من تأمين عمل ودخل وسكن، ومن أوراق ثبوتية (جواز سفر، إقامة دائمة أو مديدة، حماية مؤقتة مضمونة…)، فضلاً عن الارتباط الاجتماعي ونيل الاعتراف. هناك عدد أكبر من سوريات وسوريين يتكلمون لغات أجنبية ويتعلمون في الجامعات الغربية، ووراء عدد غير قليل منهم تجارب مشاركة مباشرة في الثورة أو معايشة مكثفة للصراع خلال السنوات الإثنتي عشرة المنقضية.
يحمل الصراع السوري طاقة كامنة على إعادة نظر واسعة في بنانا وممارساتنا الفكرية والسياسية والأخلاقية والدينية، من شأنها إن تحققت أن تكون هي الثورة التي أخفقت في رهانها الأولي، تغيير النظام السياسي
إلى جانب هذا الظهور الفردي الواسع النطاق، ظهرت في نطاق سوريا الخارجة، في تركيا وأوروبا خاصة، مجلات ومراكز أبحاث ومؤسسات وأجسام سياسية ومجموعات متنوعة، استقطبت أعداداً معقولة من السوريات والسوريين، وإن كانت تعتمد في أنشطتها على دعم مادي غير ذاتي، قطري بقدر لافت، ثم أوروبي متنوع في المقام الثاني. تنتج هذه المراكز والمؤسسات معارف غنية عن سوريا، غير مسبوقة كماً ونوعاً، لكنها لا تتحكم بإعادة إنتاج نفسها بالنظر إلى اعتمادها إلى تمويل غير ذاتي، ثم كذلك وقوعها تحت رحمة شروط سياسية متقلبة، لا يسهل التخطيط في ظلها أو وضع استراتيجيات عمل أطول أمداً.
النظر في واقع سوريا الخارجة هذا من وجوهه الإيجابية والسلبية قد يكون أكثر ما يعطي فكرة عن سوريا لو سقط النظام عام 2012 أو 2013. سوريا الخارجة هذه هي „سوريا الحرة“ بكل مشكلاتها وانقساماتها، بتبعيات سوريين لجهات متنوعة، على نحو يذكر بتاريخ „الصراع على سوريا“ بين الاستقلال والحكم البعثي. لكن كذلك بإبداعية أعداد كبيرة من السوريين والسوريات، بغنى سوريا المهدور، بطاقاتها الفنية والفكرية المبددة.
عند النظر إلى سوريا مقابل البلدان العربية الأخرى التي شهدت ثورات تتلامح مفارقة مثيرة. سوريا تبدو البلد الأكثر كارثية وإخفاقاً في ثورته، لكنها كذلك البلد الذي تغير مجتمعه وتحرر عدد كبير من أناسه، ربما أكثر من البلدان العربية الأخرى. هذا مؤكد بالمقاييس النسبية، أي حين نقارن بين أوضاعنا الفكرية والبحثية والثقافية قبل الثورة واليوم، ولعله كذلك بمقاييس مطلقة من حيث حجم الإنتاج وسوية غير قليل منه. ومن وجه آخر، عرضت سوريا على الصعيد الاجتماعي تقابلاً بين نزعة محافظة مشتطة ومقاتلة، متطرفة ورجعية بالفعل، وبين تحرر وامتلاك للمصير غير مسبوق، خاصة من قبل نساء.
وفي جذر ذلك ما تقدم ذكره من أن تجربة الثورة والحرب بعدها هي تجربة أعمق بكثير مما في البلدان العربية الأخرى، تجربة شكلت قطيعة عميقة في حياة عدد لا يحصى منا، رجّتنا بعمق، وتحدتنا تحدياً جذرياً، لعلنا لم نستجب له إلى اليوم بقدر ما ينبغي. يحمل الصراع السوري طاقة كامنة على إعادة نظر واسعة في بنانا وممارساتنا الفكرية والسياسية والأخلاقية والدينية، من شأنها إن تحققت أن تكون هي الثورة التي أخفقت في رهانها الأولي، تغيير النظام السياسي.
على أنه لا ينبغي لذلك أن يحول دون تبين هشاشات خارجية وداخلية تواكب هذا التحول المحتمل وتهدد وعوده. أهم الهشاشات الخارجية هي أننا لا نتحكم بشروط إعادة إنتاج ما طورنا من مؤسسات وروابط. فنحن جماعات لاجئة منكشفة، لا يقع مصيرها بين أيديها. يقع بقدر كبير في أيدي قوى يصعب التوقع الرشيد لمسالكها، على ما تذكر انعطافة التطبيع العربي العجولة مع النظام في الأسابيع الأخيرة.
اما الهشاشات الداخلية فتتصل بتشكلاتنا النفسية والاجتماعية التقليدية، إذ قلما نتميز بالثقة والدأب، ونتراوح بين الاكتفاء بما لدينا على علاته، وبين الذمية واستعدادات التبعية والاستزلام، فضلاً عن نزعة انقسام نشطة.
الثورة السورية نسيج من المفارقات، سبق للكاتب أن تناول إحدى هذه المفارقات، المتمثلة في الجمع بين تغييرية سياسية ومحافظة اجتماعية، مما يفسره وقوع استمرار الثورة على عاتق البيئات السنية المحافظة في البلدات المتدهورة والأرياف (مفارقة الثورة السورية: في التسنين وجذوره، القدس العربي، 28 ديسمبر 2022). المفارقة التي عملت هذه المقالة على إبرازها تتصل بفشل الثورة السياسي وضرب من تحقق اجتماعي وثقافي جزئي لها، بخاصة في „سوريا الخارجة“.
وفي أساس نسيج المفارقات أن سوريا ذاتها بلد متناقض، غني بشرياً، ذو استعداد انقسامي قوي، لم يطور حلولاً فاعلة لانقساماته وقابليتها للتبعية. الحل الأسدي الذي اختبر تاريخياً هو إلغاء الغنى والتنوع السوري لتجنب الانقسام. لكن هذا الحل كان أساساً لحكم سلالي حرس الانقسام من أجل تبعية الجميع له، وهذا قبل أن يعيد زج البلد في مركب من الانقسامات والتبعيات الإقليمية والدولية من أجل بقائه الخاص، ومع الاستمرار في هدر الغنى والتنوع.
انقسام البلد الحالي هو استمرار للبنية الأسدية، وليس عارضاً أصابها ولا هو في قطيعة معها. والتبعية الأمنية لروسيا وإيران ليست شيئاً عارضاً أو قطيعة مع عوائد الأسدية، إنها وليدة مطلب الأبد الأسدي. واللجوء السوري الواسع هو بالمثل استمرار لأجنبية السوريين في «سوريا الأسد»، وليس عارضاً أصابها وأصابهم، ولا هو بدوره في قطيعة مع هذه الدولة المخصخصة. وإنما لذلك لن يجدي التطبيع العربي (والتركي) في حل مشكلات الانقسام واللجوء لأنها لم تنشأ عن الثورة والحرب، بل عن تلك البنية غير الطبيعية دون غيرها. وإنما لذلك أيضاً لا مكان لغنى سوريا البشري والثقافي في هذه البنية، إنه غنى مغترب، لاجئ.
القدس العربي