مصر أمام لحظة الحقيقة المرتبطة بتوظيف مقوماتها الداخلية

مصر أمام لحظة الحقيقة المرتبطة بتوظيف مقوماتها الداخلية

المؤشرات على تغيير شامل في مصر على شاكلة 2013 غير موجودة وغير ممكنة في ظل تغيرات الداخل والخارج، كما أنه لا توجد مشكلة أمنية حاليا، لكن الأزمة الاقتصادية الحادة يمكن أن تفجرها مرة أخرى. ولأجل ذلك فإن الأولوية للنظام الحالي هي السعي لحلحلة هذه الأزمة.

يدرك المتابعون لما يدور في مصر أن هناك أزمة اقتصادية حادة يمكن أن تصطحب معها تداعيات سياسية متفرقة، ويعمل النظام الحاكم حثيثا على تجاوزها بطرق مختلفة، منها ما هو عملي ويمكن أن يحد من تفاقمها بفتح آفاق واعدة للاستثمار، ومنها ما هو عاطفي ويتعلق بانتظار مساعدات محدودة من أشقاء وأصدقاء وحلفاء وكل من لديهم مصلحة في الحفاظ على أمن الدولة الكبيرة في المنطقة واستقرارها.

تبدو الأوضاع العامة المثقلة بالكثير من الهموم والمشكلات قد تجاوزت النقطة التي يمكن لأي نظام سياسي أن يأتي بحلول كاملة لها في فترة وجيزة، ولذلك فوضع الكرة في ملعب النظام المصري الحاكم ليس منصفا، لأنه ورث تركة كبيرة مليئة بالأزمات من أنظمة سابقة بدأت تتكشف ملامحها تباعا، ومن الظلم تحميله وحده الحالة القاتمة.

وبالتالي ففكرة التغيير السياسي الشامل التي يلمح إليها البعض من حين إلى آخر لن تكون منتجة في المدى المنظور أو حلا لما يعتمل في مصر من مشكلات متراكمة، والتي لا تتعلق فقط بسياسات أو تصورات أو مشروعات خاطئة تبناها النظام الحاكم، بل أيضا لأنه مال كثيرا إلى عدم رهن مصير الدولة المصرية بقوة دولية معينة أو الانحياز إلى قوة إقليمية بلا حسابات دقيقة.

◙ فكرة التغيير السياسي الشامل التي يلمح إليها البعض لن تكون حلا في المدى المنظور لما يعتمل في مصر من مشكلات متراكمة

ربما كان هذا التوجه أحد أبرز المحددات التي ضاعفت من المشاكل الحالية، وأدى إلى تقويض المساعدات والمنح من قبل بعض الدول التي لم تجد ما يناسبها من فوائد تتواءم مع تطلعاتها، فجزء معتبر منها جرى توجيهه بغرض الاستفادة من الدعم المصري في بعض الأزمات والصراعات الإقليمية.

وفي غالبية الاختبارات التي كان فيها هذا المحدد عنصرا مهما لم تظهر القاهرة انحيازا واضحا لأحد، وحاولت الحفاظ على قدر كبير من استقلال قرارها السياسي والعسكري، وهو ما يجب عليها أن تتحمل عواقبه عند سعيها لسد الفجوة الاقتصادية التي تمر بها، وتحتاج فيها إلى ما هو أكبر من الخطابات التقليدية للخروج من المأزق.

سيناريو عام 2013 الذي أدى إلى سقوط حكم الإخوان لن يتكرر مرة أخرى بأي اتجاه، أي مع نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي أو ضده، فالإجماع الذي حدث في ذلك الوقت داخليا وعربيا لم يعد موجودا الآن، فقد جرت مياه كثيرة في الأنهار المصرية والعربية والدولية جعلت إعادة إنتاجه بأي صورة عملية غاية في الصعوبة، فقد تغيرت التصورات على مستويات مختلفة، وتبدلت التقديرات على أصعدة متباينة.

أدى تغير التصورات وتبدل التقديرات إلى وضع القاهرة أمام لحظة الحقيقة لأول مرة، والتي ترتبط بضرورة الاعتماد على المقومات الداخلية الأساسية، وليس بما يمكن أن يقدم لأسباب عاطفية عبر مهاجرين وعاملين في الخارج، أو من دول أبدت رفضها سابقا لانهيار الدولة المصرية خوفا مما يترتب على ذلك من ارتدادات خطيرة عليها، أو انطلاقا مما تمثله هذه الحالة من نتائج على أمن واستقرار إقليم قد تؤثر صراعاته المترامية على جزء مهم من العالم.

ورغم المشاكل التي تحفل بها دول عديدة في المنطقة، فإن الأبصار تظل مصوّبة نحو مصر وما يجري فيها من تطورات اقتصادية وسياسية، وينتظر كثيرون معرفة اتجاهاتها وهي رؤية مختلفة عما كان سائدا من قبل، حيث لم يكن هناك انتظار لمعرفة ما يمكن أن تفضي إليه الأوضاع، وكانت عمليتا النجدة والإنقاذ تتمّان سريعا وتأتيان من جهات عدة، اعتقادا في أن الوصول إلى حافة الانهيار يمثل خطرا على دول المنطقة.

تغيرت هذه النظرة كثيرا ودخلت عليها تعديلات لافتة، ولم يعد الأصدقاء والأشقاء والحلفاء معنيين كثيرا بالنجدة والإنقاذ إلا في الحدود التي تخدم مصالحهم بشكل مباشر، فالعواطف القومية والروابط السياسية التي كانت تراهن عليها القاهرة تكاد تختفي حاليا، وفكرة عدم القدرة على تحمل حدوث زلزال في مصر تلاشت منذ توابع ثورة يونيو 2013، حيث لم تتردد بعض القوى الكبرى في تغذية تيارات متطرفة تعلم أن نتيجتها يمكن أن تؤدي إلى صراع حاد في مصر.

طويت هذه الصفحة بسبب وجود دول عربية وقوى دولية قدمت مساعدات سخية ومتنوعة حالت دون حدوث انهيار كبير في مصر، وكان التحدي الكبير وقتها أمنيا، والذي تم القضاء على رموزه إلى حد بعيد، وتمكنت أجهزة الدولة من السيطرة على المفاصل الأمنية وتفريغها من جميع أو غالبية الجيوب التي تمثل تهديدا لمصر.

◙ لا توجد مشكلة أمنية في مصر حاليا لكن الأزمة الاقتصادية الحادة يمكن أن تفجرها مرة أخرى إذا لم يجد النظام الحاكم الآليات لتخفيفها

لا توجد مشكلة أمنية في مصر حاليا، لكن الأزمة الاقتصادية الحادة يمكن أن تفجرها مرة أخرى إذا لم يجد النظام الحاكم الآليات الفاعلة النابعة من داخله لتخفيفها، لأن الرهان على أي جهة خارجية غير مفيد، وقد يتحول إلى استجداء أو استنزاف أو رضوخ، وما لم يتجه النظام المصري إلى ترتيب الأولويات والقيام باستدارة حقيقية للبحث عن حلول ناجحة وعملية للأزمة الاقتصادية وتعظيم المقومات الداخلية سوف يزداد الأمر صعوبة، لأن السماء لم تعد تمطر ذهبا أو فضة أو نفطا، ولا أحد سوف يقدم مساعدات مجانية.

يملك النظام المصري مجموعة من الثوابت المهمة التي تساعده على القيام بثورة تصحيح، أبرزها أن الأزمة الاقتصادية لم تنخر في العظم أو تصل إلى مستوى الانفجار الذي يهدده سياسيا، فهناك قدرة عالية على التحمل لدى شريحة كبيرة من المواطنين، وهم على استعداد للمزيد من التحمل إذا كانت هناك وعود عملية للإصلاح، وكل الغاضبين من الحالة الاقتصادية لا يملكون رفاهية الاحتجاج لأن البديل أكثر جحيما.

كما أن الاستقرار الأمني الذي جاء عقب سنوات من العناء والتضحيات سلاح مهم يمكّن القاهرة من السيطرة على مقاليد الأمور ويسد مساحات أمام الراغبين في الفوضى والساعين إليها في الداخل والخارج، وهذا يسهم في العمل على توسيع نطاق الإصلاحات وما تفرزه من نتائج سريعة لحل مشاكل الطبقات الفقيرة، وليس توظيفها للمزيد من التضييق والثقة بأن الأوضاع كلها تحت السيطرة مهما كانت التصرفات.

تفرض لحظة الحقيقة في مصر عدم التغول أو الاستهانة بضعف المعارضة، واليقين بأن عدم وجود بدائل سياسية يمنح النظام الحاكم حرية عالية في الممارسات الإيجابية الكفيلة بأن تقدم حلولا عملية خلال فترة وجيزة بعد أن حرمت القاهرة تقريبا من المزايا النوعية التي كانت تقدم لها في مثل هذه الظروف الصعبة.

يعدّ التشبث بالحلول الذاتية النابعة من الداخل لا بديل عنه حاليا، والذي يفرض تعظيم الاستفادة من عملية جذب الاستثمار إلى أقصى درجة ممكنة وتوفير البيئة المناسبة لجني ثمار مادية منه، فقد أصبح من أهم الأوراق اللازمة لتحجيم الأزمة الاقتصادية.

العرب