بعد انقشاع غبار تصريحات الحملات الانتخابية، وأداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القسم مدشناً ولايته الرئاسية الثالثة، ومن ثم إعلانه عن تشكيل حكومته التي ضمت أعضاء كرد منهم جودت يلماز نائب الرئيس، ومحمد شيمشك وزير الخزانة والمالية، وهاكان فيدان وزير الخارجية؛ وهو الأمر الذي فسره بعضهم بأنه إشارة إلى رغبة في العودة إلى العملية السياسية بغية الوصول إلى حل سلمي للقضية الكردية في تركيا. هذا في حين وجد قسم آخر من المراقبين المتابعين للوضع التركي أن ذلك يهدف إلى احتواء الموضوع الكردي وفق مقاسات حزب العدالة والتنمية، وحليفه حزب الحركة القومية المتشدد، بينما ربط فريق ثالث بين هذا التوجه ورغبة أردوغان في استمالة الكرد استعداداً للانتخابات المحلية التي ستكون في العام المقبل، وحرصه على استعادة زمام الأمور في بلديات المدن الكبرى، لا سيما اسطنبول وأنقرة.
ولكن مهما تكن التفسيرات، يظل الموضوع الكردي في سياق التوجهات المستقبلية في تركيا من أهم المواضيع الملحة المطروحة على مستوى البلاد، رغم كل محاولات التجاهل والتهميش أو إنكار وجوده أصلاً. فهذا الموضوع له تاريخ قديم يعود إلى أيام الإمارات الكردية التي كانت تتمتع بصيغة من صيغ الإدارة الذاتية في ظل الدولة العثمانية بعد أن انضمت إلى هذه الأخيرة بصورة سلمية على إثر معركة جالديران عام 1514 م؛ وهي المعركة التي خاضها العثمانيون بقيادة السلطان سليم الأول ضد الصفويين بقيادة الشاه إسماعيل. ثم أخذت الأمور طابعا أكثر حدية بين الكرد والدولة العثمانية، بعد انتشار الأيديولوجية القومية في المنطقة، وتأثر الأقوام التي كانت تحكمها الدولة العثمانية بها، ومن بين تلك الأقوام الكرد والأتراك أنفسهم. وبلغت تلك الحدية أوجها مع تبني مؤسس الجمهورية التركية (عام 1924) مصطفى كمال الأيديولوجية القومية العلمانية المتشددة عقيدة رسمية لنظام حكمه، بعد أن كان قد ألغى في العام نفسه نظام الخلافة الإسلامية؛ وما نجم عن ذلك تمثّل في فرض صورة على تركيا لا تتناسب مع تاريخها وطبيعتها، وتطلعات أهلها على اختلاف انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية وتوجهاتهم الفكرية.
ولعل هذا ما يفسر الخلافات والانشقاقات التي تعرض لها حزب الشعب الجمهوري لاحقاً، وأسفرت عن خروج عدنان مندريس من الحزب عام 1945، وتأسيسه لحزب الديمقراطية عام 1946، الذي فاز في انتخابات عام 1950 ليصبح مندريس رئيساً للوزراء وهو المنصب الذي ظل فيه إلى حين حدوث انقلاب عام 1960، فكان اعتقاله، ومن ثم إعدامه في خريف عام 1961، ومن ثم إعادة الاعتبار له عام 1990.
واستمر الوضع القلق المضطرب في تركيا في ظل الحكومات التالية إلى حين وصول توركت أوزال إلى الحكم رئيساً للوزراء عام 1983، ومن ثم رئيساً للجمهورية عام 1989، وهو الذي عُرف بمشروعه الاقتصادي الطموح من أجل النهوض بتركيا؛ كما أنه أقدم على خطوة جريئة في التعامل مع الوضع التركي الداخلي عبر طرح مقاربة جديدة للقضية الكردية في البلاد من خلال الدعوة إلى أهمية وضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي الموجود في تركيا، وهو التنوع الذي يعكس الواقع المجتمعي. ولكن مشروع أوزال لم يستمر طويلا نتيجة موته المفاجئ الذي طرح تساؤلات كثيرة.
وبعد القبض على عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1998، اعتقد الكثيرون أن القضية الكردية قد انتهت في تركيا، وذلك بناء على القياس الفاسد الذي كانوا يعتمدون عليه، وفحواه أن القضية المعنية متماهية مع حزب العمال الكردستاني، ومختزلة فيه، متناسين أن هذه القضية هي أقدم من الحزب المذكور بقرون، وهو الحزب الذي تشكل في ظروف إشكالية أثارت الكثير من الاستفهامات، خاصة بعد أن دخل في صراع تناحري مع بقية الأحزاب الكردية المعتدلة والأقدم في تركيا، ومحاولته إخراجها من ساحة النشاط السياسي، بل والقضاء عليها عبر العمل المسلح، مستغلا واقع الضعف العام الذي كان أصاب لحركة الكردية بصورة عامة على مستوى مختلف مناطق كردستان، لا سيما في كردستان العراق التي كانت تعيش واقع الانتكاسة بعد اتفاقية السادس من آذار/مارس 1975 بين كل من العراق وإيران برعاية جزائرية في عهد الرئيس هواري بومدين.
ومع وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان إلى الحكم عام 2002 تجددت الآمال بإمكانية اللجوء إلى مقاربة مغايرة لقضايا تركيا الداخلية، إلى جانب علاقاتها مع المحيطين الإقليمي والدولي. وفي ما يخص المسألة الكردية موضوع البحث هنا، أقدمت الحكومة على خطوات جريئة تمثلت في فتح أقسام اللغة الكردية في العديد من الجامعات في جنوب شرقي البلاد، وإنشاء قناة كردية في التلفزيون الرسمي TRT، واعتماد سياسة غض النظر تجاه دور النشر وشركات الانتاج الفني والصحافة باللغة الكردية، ولكن من دون الاعتراف الرسمي والإقرار الدستوري بالتنوع المجتمعي التركي، والاستعداد للقبول بالحقوق والواجبات المترتبة على ذلك.
وفي أجواء الشد والجذب والعمليات العسكرية وحوادث العنف هنا وهناك، تم التوافق بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني في بدايات العقد الثاني من هذا القرن على الدخول في عملية سياسية بهدف الوصول إلى حل سلمي مقبول من قبل الطرفين. ولكن، ولسوء الحظ، توقفت تلك العملية في أواسط 2015 لأسباب عدة في مقدمتها غياب قناعة تامة لدى أوساط معينة مؤثرة ضمن هذا الطرف أو ذلك بأهمية وضرورة الحل السياسي للموضوع الكردي، الأمر الذي أدى إلى دورة جديدة من النزاع والعنف والعمليات العسكرية.
وازداد الوضع تعقيداً بعد التوافق الذي تم بين الجانب الأمريكي وحزب الاتحاد الديمقراطي عام 2015، واجهة حزب العمال الكردستاني في موضوع محاربة داعش الكوكتيل المخابراتي الذي أُدخل إلى الساحة السورية ليكون عبئاً على الثورة وذريعة لاتهامها بالإرهاب. هذا مع العلم أن سلطة آل الأسد كانت قد استنجدت في بدايات الثورة بحزب العمال الكردستاني من خلال النظام الإيراني وقيادات من الاتحاد الوطني الكردستاني- العراق؛ وذلك لمساعدتها في عملية ضبط الأوضاع في المناطق الكردية بمختلف الأساليب بما فيها القمع والاغتيالات، بغية الحيلولة دون تفاعل الكرد السوريين مع الثورة.
الموضوع الكردي في تركيا هو موضوع وطني عام، لا يخص حزب العدالة والتنمية وحده، ولا حزب العمال وحده؛ غير أن المعطيات الراهنة تؤكد أن دور حزب العدالة في الوصول إلى حل لهذا الموضوع ضمن إطار وحدة الشعب والبلاد هو على غاية الأهمية في حال توفر الرغبة والإرادة لدى الجانب الآخر. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه سيكون من المفيد طرح تصور للحل من جانب الحكومة التركية على المستوى الوطني، وإشراك الأطراف الأخرى التركية والكردية في المناقشات والحوارات حول الموضوع بغية التوصل إلى توافقات وطنية تكون أساساً لحل مستدام لهذه القضية، حل يحصن بحماية دستورية عبر إدخال تعديلات ضرورية، ربما تتقاطع مع تلك التي يدعو إليها الرئيس التركي نفسه، الذي ينتقد الدستور الحالي من باب كونه دستور الانقلابيين الذين سيطروا على مقاليد الحكم عسكريا عام 1980.
من جهة أخرى، سيساهم حل الموضوع الكردي في تعزيز مكانة تركيا اقليمياً، فهي ستكسب صداقة وتأييد ملايين الكرد في كل من العراق وإيران وسوريا. كما سيساهم الحل المطلوب في خفض التوترات الإقليمية.
أما على المستوى الدولي، فستتغير الصورة النمطية لتركيا في أذهان الشعوب الغربية، لا سيما الأوروبية، وهذا ما من شأنه فتح الآفاق أمام إمكانية تنشيط جهود التوصل إلى اتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي يظل بسوقه الواسعة، وإمكانياته الكبيرة، الراهنة والمستقبلية، الضلع الهام في مثلث الازدهار الاقتصادي التركي المنشود. هذا في حين أن روسيا رغم إمكانياتها الكبيرة في ميدان الطاقة الكلاسيكية (التي تتراجع أهميتها تدريجيا مع الإنجازات الغربية في حقول الطاقة البديلة النظيفة)، لا تمتلك الأسواق الواسعة المضمونة القادرة على استيعاب الناتج التركي الراهن والمستقبلي بأسعار محفزة. هذا إلى جانب النزعة الإمبراطورية الروسية الواضحة، والمخاطر التي تهدد تركيا في حال هيمنة روسيا على البحر الأسود في الشمال، ووجودها العسكري اللافت في سوريا من جهة الجنوب. فالموضوع هو في نهاية المطاف موضوع المصالح الاقتصادية، واعتبارات الأمن الوطني؛ وتفاعل كل ذلك مع وقائع التاريخ والجغرافيا والتداخلات السكانية والتوجهات السياسية. فتركيا اليوم لها حضور قوي في آسيا الوسطى، ومن المتوقع أن يتنامى هذا الحضور مستقبلا مع انطلاقة اقتصادها مجددا بقوة بعد أن يستعيد عافيته؛ ولبلوغ هذا المستوى الذي يتطلع إليه الشعب التركي بشغف لا بد من معالجة جملة من القضايا الداخلية التي تستنزف الطاقات، وتفتح المجال أمام تدخلات إقليمية ودولية لا تساهم في حل المشكلات وإنما على النقيض من ذلك تعقدها وتزيد حدتها، ولعله من باب تحصيل الحاصل إذا قلنا هنا: إن القضية الكردية تأتي في مقدمة القضايا المعنية.
القدس العربي