الإمبراطوريات المبنية على الهيمنة التي تحققت من خلال استخدام جيش قوي وتوسعي تصبح بالضرورة أكثر استبدادية وفسادًا واختلالاً وظيفيًا. وفي نهاية المطاف، يكون مصيرها الفشل.
* * *
في جميع أنحاء الولايات المتحدة، يبدو أن الأمور تتداعى. بشكل جماعي، يعاني الأميركيون من انحدار وطني وإمبريالي. فهل تستطيع أميركا أن تنقذ نفسها؟ وبالأحرى، هل البلد، بتكوينه الحالي، يستحق الإنقاذ؟
بالنسبة لي، يبدو هذا السؤال الأخير متطرفًا حقًا. منذ سنوات عمري الأولى، كنت أؤمن بعمق بفكرة أميركا. كنت أعرفُ أن هذا البلد لم يكن مثاليًا، بطبيعة الحال، ولا حتى قريبًا من الكمال. قبل وقت طويل من “مشروع 1619″، (1) كنت على دراية بـ”الخطيئة الأصلية” التي تمثلت في العبودية ومدى أهميتها في تاريخنا. وكنت أعرف أيضًا عن الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في حق الأميركيين الأصليين. (عندما كنت مراهقًا، كان فيلمي المفضل –وما يزال- هو “الرجل الكبير الصغير” Little Big Man، الذي لم يُخفِ أيّ شيء عندما يتعلق الأمر بالرجل الأبيض وجشعه القاتل الذي لا يشبع).
ومع ذلك، ظلّت أميركا تعِد بالكثير، أو هكذا اعتقدتُ في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. كانت الحياة هنا ببساطة أفضل مما كانت عليه في أماكن مثل الاتحاد السوفياتي، أو الصين تحت زعامة ماو تسي تونغ. لذلك كان علينا “احتواء” الشيوعية -إبقاؤهم هناك حتى لا يتمكنوا أبدًا من غزو بلدنا وإطفاء مصباح الحرية الذي لدينا.
وهكذا انضممت إلى الجيش الأميركي في فترة “الحرب الباردة”، حيث خدمت في القوات الجوية، من رئاسة رونالد ريغان إلى رئاسة جورج دبليو بوش وديك تشيني. وصدِّقوني، أثبتت خدمتي أنها كانت رحلة رائعة، فقد علَّمَت هذا المقدَّم المتقاعد أن السماء هي أي شيء سوى أن تكون الحدّ.
في النهاية، قادتني 20 عامًا من الخدمة في سلاح الجو إلى الابتعاد عن الإمبراطورية، والعسكرة، والقومية. ووجدت نفسي أبحث بدلاً منها عن بعض الترياق ضد احتفاء وسائل الإعلام الرئيسية بالاستثنائية الأميركية، والنسخة المبالغ فيها من ثقافة النصر التي رافقتها (بعد فترة طويلة من معاناة النصر نفسه نقصًا في المعروض).
بدأتُ الكتابة ضد الإمبراطورية وحروبها الكارثية، ووجدت أشخاصًا مشابهين في التفكير في موقع ”توم ديسباتش” -ناشطين سابقين في الإمبراطورية تحولوا إلى منتقدين مريرين، مثل تشالمرز جونسون وأندرو باسيفيتش، إلى جانب الصحفي حادّ النظرة، نِك تورس، وبالطبع توم إنغلهاردت الذي لا يمكن الاستغناء عنه، مؤسس تلك “الصور المقطعية” التي تهدف إلى تنبيه أميركا والعالم إلى الحماقة الخطيرة التي تنطوي عليها التدخلات العسكرية الأميركية العالمية المتكررة.
لكن هذا ليس ترويجًا لـ”توم ديسباتش”. إنه إضاءة للأميركيين نحو تحرير عقولهم بأكبر قدرٍ ممكن من المصفوفة العسكرية الشاملة التي تسود أميركا. وتدفع هذه المصفوفة الإمبريالية، والهدر، والحرب، وعدم الاستقرار العالمي، إلى النقطة التي يمكن فيها، في سياق الصراع الجاري الآن في أوكرانيا، أن يقترب خطر نهاية العالم النووية من الخطر الذي شكلته أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962.
مع استمرار الحروب –سواء كانت بالوكالة أو غير ذلك- لا يبدو أن شبكة أميركا العالمية المكونة من 750 قاعدة عسكرية تتراجع على الإطلاق. وعلى الرغم من التخفيضات الوشيكة في الإنفاق المحلي، لا أحد تقريبًا في واشنطن يتخيل أن تفعل ميزانيات “البنتاغون” أي شيء سوى المزيد من الارتفاع، بل انها ترتفع نحو مستوى التريليون دولار، حيث تمثل البرامج العسكرية 62 في المائة من الإنفاق التقديري الفيدرالي في العام 2023.
إن وزارة دفاع محتقنة -من المتوقع أن ترتفع ميزانيتها للعام 2024 إلى 886 مليار دولار في صفقة سقف الديون بين الحزبين التي توصل إليها الرئيس جو بايدن ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي- تضمن شيئًا واحدًا: سقوطًا أسرع للإمبراطورية الأميركية. وقد توقع تشالمرز جونسون ذلك؛ وقام أندرو باسيفيتش بتحليله.
أما السبب الأكبر فبسيط بما يكفي: الحروب المستمرة، والمتكررة، والكارثية، والاستعدادات المكلفة للمزيد من فعل الشيء نفسه الذي يستنزف احتياطيات أميركا المادية والعقلية، كما سبق وأن فعلت الحروب السابقة باحتياطيات الإمبراطوريات الآفلة عبر التاريخ. (فكروا في الإمبراطورية النابليونية قصيرة العمر، على سبيل المثال).
الآن، أصبحت أميركا، التي كانت تعرف بـ”ترسانة الديمقراطية” خلال الحرب العالمية الثانية، مجرد ترسانة، ببساطة، بمجمع عسكري- صناعي- كونغرسيّ عاكفٍ على صناعة الحروب وتغذيتها بدلاً من السعي إلى تجويعها ووقفها.
والنتيجة: انخفاض حاد في مكانة البلد على مستوى العالم، بينما يدفع الأميركيون في الداخل ثمنًا باهظًا للعنف المتسارع (في العام 2023، سوف يسجل البلد بسهولة رقمًا قياسيًا في حوادث إطلاق النار الجماعي) و”المذبحة” (بكلمة دونالد ترامب) في “وطن” كان فخورًا ذات يوم، لكنه الآن ملطخ بالدماء.
دروس من التاريخ عن الانحدار الإمبراطوري
أنا مؤرخ، ولذلك اسمحوا لي بأن أتشارك معكم بعض الدروس الأساسية التي تعلمتُها. عندما قمتُ بتدريس الحرب العالمية الأولى للطلاب في أكاديمية القوات الجوية، كنت أشرحُ كيف ساهمت التكاليف المروعة لتلك الحرب في انهيار أربع إمبراطوريات: روسيا القيصرية؛ والرايخ الألماني الثاني؛ والإمبراطورية العثمانية؛ وإمبراطورية هابسبورغ النمساوية المجرية.
ومع ذلك، حتى “الفائزون”، مثل الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، ضعفوا أيضًا بسبب فداحة ما كان، قبل كل شيء، حربًا أهلية أوروبية وحشية، حتى مع أنها امتدت إلى إفريقيا وآسيا -والأميركتين في الحقيقة.
مع ذلك، ثبت بعد انتهاء تلك الحرب في العام 1918 أن السلام ما يزال بعيد المنال حقًا، على الرغم من “معاهدة فرساي”، من بين اتفاقيات فاشلة أخرى. كان هناك الكثير من الأعمال غير المكتملة، والكثير من الإيمان بقوة العسكرة، خاصة في الرايخ الثالث الناشئ في ألمانيا، وفي اليابان، التي تبنت الأساليب العسكرية الأوروبية القاسية لإنشاء مجال هيمنتها الآسيوي الخاص. كانت هناك حاجة إلى تسوية الحسابات؛ هكذا اعتقد الألمان واليابانيون، وكانت الهجمات العسكرية هي السبيل إلى فعل ذلك.
نتيجة لذلك، تواصلت الحرب الأهلية في أوروبا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، حتى عندما أظهرت اليابان أن القوى الآسيوية قادرة بنفس المقدار على تبني واستخدام العسكريتاريا والحرب غير المقيدة. والنتيجة: 75 مليون قتيل والمزيد من الإمبراطوريات المحطمة، بما في ذلك “روما الجديدة” التي أسسها موسوليني؛ ورايخ “الألف عام” الألماني الذي بالكاد استمر 12 منها قبل أن يتم تدميره بالكامل؛ والإمبراطورية اليابانية التي تم تجويعها وحرقها وتدميرها أخيرًا. كما وجدت الصين، التي دمرتها الحرب مع اليابان، نفسها ممزقة بسبب الصراعات الداخلية بين القوميين والشيوعيين.
كبداية، حتى معظم “الفائزين” في الحرب العالمية الثانية خرجوا في حالة ضعف. في سبيل هزيمة ألمانيا النازية، فقد الاتحاد السوفياتي 25 إلى 30 مليون شخص. وكانت ردة فعله هي إقامة “ستار حديدي”، على حد تعبير ونستون تشرشل، يمكن أن يستغل خلفَه شعوب أوروبا الشرقية في إمبراطورية عسكرية انهارت في النهاية بسبب حروبها وانقساماتها الداخلية.
ومع ذلك، استمر الاتحاد السوفياتي لفترة أطول من الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية بعد الحرب. قاتلت فرنسا، التي أذلها استسلامها السريع للألمان في العام 1940، لاستعادة الثروة والمجد في الهند الصينية “الفرنسية”، فقط لتجد نفسها مُرغمة على التواضع في “ديان بيان فو” (2). وبريطانيا العظمى، المنهكة من انتصارها، سرعان ما فقدت الهند، تلك “الجوهرة” في تاجها الإمبراطوري، ثم مصر في كارثة السويس.
في الواقع، كان هناك بلد واحد فقط، إمبراطورية واحدة، هي التي “انتصرت” حقًا في الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة، التي كانت الأقل تأثرًا (إذا وضعنا “بيرل هاربور” جانبًا) بالحرب وكل أهوالها. تلك الحرب الأهلية الأوروبية التي بدت وكأنها لن تنتهي، وامتدت من العام 1914 إلى العام 1945، إلى جانب التضحية باليابان وانهيار الصين، تركت الولايات المتحدة بلا منازع تقريبًا على مستوى العالم.
خرجت أميركا من تلك الحروب كقوة عظمى، على وجه التحديد لأن حكومتها دعمت بذكاء الجانب الفائز مرتين، قالبةً الموازين في الأثناء، بينما دفعت ثمنًا منخفضًا نسبيًا من الدم والمال مقارنة بالحلفاء مثل الاتحاد السوفياتي وفرنسا وبريطانيا.
كان ينبغي أن يكون درس التاريخ لقادة أميركا واضحًا للغاية: إنكَ عندما تشن حربًا طويلة، وخاصة عندما تكرس لها أجزاء كبيرة من مواردك –المالية، والمادية، والشخصية بشكل خاص- فإنك تشنها بشكل خاطئ. لم يكن من أجل لا شيء أن يصوِّر الكتاب المقدس الحرب كواحد من الفرسان الأربعة لنهاية العالم (3).
فقدت فرنسا إمبراطوريتها في الحرب العالمية الثانية؛ لكن الأمر تطلّب كوارث عسكرية لاحقة في الجزائر والهند الصينية حتى يصبح ذلك واضحًا. ويصدُق هذا أيضًا على تعرُّض بريطانيا للإذلال في الهند ومصر وأماكن أخرى، في حين أن الاتحاد السوفياتي، الذي فقد قدرًا كبيرًا من قوته الإمبريالية في تلك الحرب، سوف يستغرق عقودًا من التعفن البطيء والتمدد المفرط في أماكن مثل أفغانستان حتى ينهار.
في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة تمضي قدمًا، منكرة كونها إمبراطورية على الإطلاق، حتى عندما اتخذت الكثير من زخارف الإمبراطورية. في الواقع، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، أعلن قادة واشنطن أن أميركا هي “القوة العظمى” الاستثنائية، وأنها “روما جديدة” أكثر استنارة، و”الأمة التي لا غنى عنها” على كوكب الأرض.
في أعقاب هجمات 11/9، أطلقَ قادة الولايات المتحدة بثقة ما أسموه حربًا عالمية على الإرهاب، وبدأوا في شن الحروب في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، كما كانوا قد فعلوا في القرن السابق في فيتنام. (لا يوجد منحنى تعليمي هناك، على ما يبدو). في هذه العملية، تخيل قادة أميركا بلدًا سوف يبقى بمنأى عن ويلات الحرب، وهو ما أنتج ما نعرفه الآن -أم هل نفعل؟ -ذروة الغطرسة والحماقة الإمبريالية.
سواء أردتَ أن تسميها فاشيّة، كما هو الحال مع ألمانيا النازية؛ أو شيوعية، كما هو الحال مع الاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين، أو ديمقراطية، كما هو الحال مع الولايات المتحدة، فإن الإمبراطوريات المبنية على الهيمنة التي تحققت من خلال جيش قوي وتوسعيّ تصبح بالضرورة أكثر استبدادية وفسادًا واختلالاً وظيفيًا.
وفي نهاية المطاف، يكون مصيرها الفشل. وليس ثمة ما هو مستغرب هنا، لأنها مهما تكن الأشياء الأخرى التي ربما تخدمها هذه الإمبراطوريات، فإنها لا تخدم شعوبها. ويحمي ناشطوها أنفسهم بأي ثمن بينما يهاجمون جهود التقشف أو نزع السلاح باعتبارها جهودًا مضللة بشكل خطير، إن لم تكن منطوية على انعدام الولاء وإثارة الفتنة.
هذا هو السبب في أن أولئك مثل تشيلسي مانينغ، وإدوارد سنودن، ودانيال هيل، الذين سلطوا ضوءًا على الجرائم العسكرية والفساد في الإمبراطورية، وجدوا أنفسهم مسجونين أو مجبرين على البقاء المنفى، أو تم إسكاتهم بطريقة أخرى.
وحتى الصحفيون الأجانب مثل جوليان أسانج يمكن أن يقعوا في قبضة الإمبراطورية وأن يُسجنوا إذا تجرأوا على فضح جرائم الحرب التي ارتكبتها. فالإمبراطورية تعرف كيف ترد، وستخون بسهولة نظامها القضائي (على الأخص في حالة أسانج)، بما في ذلك المبادئ المقدسة لحرية التعبير والصحافة، حتى تفعل.
ربما سيتم إطلاق سراح أسانج في النهاية، على الأرجح عندما ترى الإمبراطورية أنه يقترب من باب الموت. وقد أدى سجنه وتعذيبه الغرض منهما بالفعل. ويعرف الصحفيون الآن أن فضح أدوات الإمبراطورية الأميركية الملطخة بالدماء لا يجلب لهم سوى العقاب القاسي، وليس المكافآت. من الأفضل أن تدير وجهك بعيدًا أو أن تلطف الكلمات بدلاً من المخاطرة بدخول السجن -أو ما هو أسوأ.
مع ذلك، لا يمكنك إخفاء حقيقة أن الحروب الفاشلة في هذا البلد قد أضافت تريليونات الدولارات إلى ديونه الوطنية، حتى مع استمرار الإنفاق العسكري في الانفجار بأكثر الطرق التي يمكن تخيلها إهدارًا، في حين تنهار البنية التحتية الاجتماعية في الوطن.
التشبث العنيد بالبنادق والدين
اليوم، تتشبث أميركا بعناد أكبر من أي وقت مضى بالبنادق والدين. وإذا كانت هذه العبارة تبدو مألوفة، فقد يكون ذلك لأن باراك أوباما استخدمها في حملته الرئاسية للعام 2008 لوصف النزعة المحافظة الرجعية للناخبين الريفيين في ولاية بنسلفانيا. بسبب خيبة أملهم من السياسة، والخيانة ممن يُفترض أنهم أفضلهم، تشبث هؤلاء الناخبون، كما ادعى المرشح الرئاسي آنذاك، بأسلحتهم ودينهم طلبًا للسلوى.
كنت أعيش في ريف ولاية بنسلفانيا في ذلك الوقت وأتذكر ردًا من زميل مقيم اتفق بشكل أساسي مع أوباما: ماذا تبقى للتشبث به في إمبراطورية تخلت عن مواطنيها من الطبقة العاملة الريفية؟
وثمة شيء مماثل ينطبق على أميركا إلى حد كبير اليوم. كقوة إمبريالية، تتمسك أميركا بمرارة بالبنادق والدين. وأعني بـ”البنادق” جميع الأسلحة التي يبيعها تجار الموت الأميركيون إلى البنتاغون وفي جميع أنحاء العالم. وفي الواقع، ربما تكون الأسلحة هي الصادر العالمي الأكثر تأثيرًا لهذا البلد، وهو كذلك بشكل مدمر.
من العام 2018 إلى العام 2022، مثلت الولايات المتحدة وحدها 40 في المائة من صادرات الأسلحة العالمية، وهو رقم ارتفع بشكل كبير فحسب مع المساعدات العسكرية لأوكرانيا. وأعني بكلمة “الدين” الإيمان المستمر بالاستثنائية الأميركية (على الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك)، والذي يستمد قوته بشكل متزايد من المسيحية المتشددة التي تنكر روح المسيح وتعاليمه نفسها.
مع ذلك، يبدو أن التاريخ يؤكد أن الإمبراطوريات، في مراحل احتضارها، تفعل ذلك بالضبط: إنها تمجد العنف، وتواصل السعي إلى الحرب، وتصر على عظمتها حتى الوصول إلى نقطة لا يمكن فيها إنكار سقوطها أو التراجع عنه. هذه حقيقة مأساوية كتب عنها الصحفي كريس هيدجز بحسّ كبير من الإلحاح.
تقترح المشكلة نفسُها حلّها الخاص (الذي ليس من المرجح أن تسعى أي شخصية قوية في واشنطن إلى تحقيقه). يجب على أميركا أن تتوقف عن التشبث العنيد ببنادقها -وهنا لا أعني حتى ما يقرب من 400 مليون سلاح المنتشرة في أيدي الناس في هذا البلد، بما في ذلك جميع بنادق AR-15 شبه الآلية.
إنني أعني بـ”البنادق” جميع الزخارف العسكرية للإمبراطورية، بما في ذلك الهيكل الأميركي الواسع للقواعد العسكرية في الخارج، والتزاماتها المذهلة بإنتاج الأسلحة من جميع الأنواع، بما في ذلك الأسلحة النووية الكفيلة بإنهاء العالم. كما يجب أن يتوقف أيضًا التشبث العنيد بالدين -وأعني بـ”الدين” الإيمان بالبر الأميركي، بغض النظر عن ملايين الأشخاص الذين قتلتهم أميركا على مستوى العالم من حقبة فيتنام إلى اللحظة الحالية.
دروس التاريخ يمكن أن تكون وحشية. نادرًا ما تموت الإمبراطوريات بطريقة جيدة. بعد أن أصبحت إمبراطورية، لم تعد روما أبدًا إلى كونها جمهورية، ثم سقطت في النهاية أمام الغزوات البربرية. وأدى انهيار الرايخ الثاني في ألمانيا إلى توليد رايخ ثالث أكثر ضراوة، حتى لو انه كان أقصر عُمرًا. وكانت هزيمته المطلقة في العام 1945 فقط هي التي أقنعت الألمان أخيرًا بأن الله لم يسر مع جنودهم إلى المعركة.
ما الذي يتطلبه الأمر لإقناع الأميركيين بإدارة ظهورهم للإمبراطورية والحرب قبل فوات الأوان؟ متى سنستنتج أن المسيح لم يكن يمزح عندما بارك صانعي السلام وليس دعاة الحرب؟
بينما ينزل الستار الحديدي على دولة إمبريالية أميركية فاشلة، ثمة شيء واحد لن يتمكن الأميركيون من قوله: أن أحدًا لم يحذرهم.
*ويليام جيه أستور William J. Astore: مقدم متقاعد (USAF) وأستاذ التاريخ، وكاتب منتظم في نشرة “توم ديسباتش”، وزميل أقدم في شبكة أيزنهاور الإعلامية (EMN)، وهي منظمة من المهنيين العسكريين والأمنيين المخضرمين المهمين.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: US in Throes of Unexceptional Imperial Decline
هوامش المترجم:
(1) مشروع 1619 1619 Project: مسعى صحفي يعتمد المقالات الطويلة، طورته الصحفية الاستقصائية التي تغطي الحقوق المدنية نيكول هانا جونز، وكُتاب من صحيفة ومجلة “نيويورك تايمز”، التي تركز على مواضيع العبودية وتأسيس الولايات المتحدة. نُشر أول منشور من المشروع في مجلة” نيويورك تايمز” في آب (أغسطس) 2019. طور المشروع منهجًا تعليميًا بدعم من ”مركز بوليتزر”، مصحوبا لاحقا بالمقالات الطويلة، والأحداث الحية والبودكاست. وصف المؤرخون والصحفيون والمعلقون ”مشروع 1619″ بأنه عمل تاريخي تنقيحي يقارِب بنظرة نقدية الأحداث والأشخاص الموقرين تقليديًا في التاريخ الأميركي ، بمن فيهم الوطنيون في الثورة الأميركية ، والآباء المؤسسون ، إلى جانب شخصيات لاحقة مثل أبراهام لنكولن والاتحاد خلال الحرب الأهلية.
(2) المقصود معركة “ديان بيان فو” Điện Biên Phủ: وهي مواجهة وقعت في حرب الهند الصينية الأولى التي بين 13 آذار (مارس) و 7 أيار (مايو) 1954. ودارت رحاها بين ”فيلق مشاة الشرق الأقصى” الاستعماري التابع للاتحاد الفرنسي وثوار “فيت مينه” الشيوعيين الفيتنامية. لم تكن الولايات المتحدة رسميًا طرفًا في الحرب، لكنها كانت متورطة سرًا من خلال تقديم المساعدات المالية والمادية للاتحاد الفرنسي، والتي تضمنت موظفين أميركيين متعاقدين مع وكالة المخابرات المركزية يشاركون في المعركة. وفي المقابل، قدمت جمهورية الصين الشعبية والاتحاد السوفاتي دعمًا حيويًا لقوات “فيت مينه”، بما في ذلك معظم مدفعيتها وذخيرتها.
بدأ الفرنسيون عملية لإدخال ودعم جنودهم في ديان بيان فو، في عمق “اتحاد تاي” المتمتع بالحكم الذاتي في التلال شمال غرب تونكين. وكان الغرض من العملية هو قطع خطوط إمداد “فيت مينه” إلى مملكة لاوس المجاورة (حليف فرنسي)، وجر قوات “فيت مينه” إلى مواجهة كبيرة بهدف شلها. كانت الخطة هي إعادة تزويد الموقع الفرنسي عن طريق الجو، وهي استراتيجية تم تبنيها على أساس الاعتقاد بأن “فيت مينه” ليس لديها قدرة مضادة للطائرات.
ومع ذلك، حاصر مقاتلو “فيت مينه”، بقيادة الجنرال فو نجوين جياب، الفرنسيين. وجلبوا كميات هائلة من المدفعية الثقيلة (بما في ذلك المدافع المضادة للطائرات) وتمكنوا من نقل هذه الأسلحة الضخمة عبر التضاريس الصعبة بواسطة رجال ونساء أفراد إلى أعلى المنحدرات الخلفية للجبال. وحفروا أنفاقًا عبر الجبال ورتبوا المدافع لاستهداف الموقع الفرنسي.
في آذار (مارس)، بدأت قوات “فيت مينه” قصفًا مدفعيًا هائلاً للدفاعات الفرنسية. وجعل الموقع الاستراتيجي لمدفعيتهم منها منيعة تقريبًا أمام نيران البطاريات الفرنسية المضادة. تلا ذلك قتال عنيد على الأرض، يذكر بحرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى. في بعض الأحيان، صد الفرنسيون هجمات “فيت مينه” على مواقعهم بينما تم تسليم الإمدادات والتعزيزات عن طريق الجو. ومع تجاوز المواقع الرئيسية، تقلص المحيط، وأصبحت إعادة الإمداد الجوي التي وضع عليها الفرنسيون آمالهم مستحيلة. وعندما تسببت نيران “فيت مينه” المضادة للطائرات في خسائر فادحة ومع القصف المدفعي للمهبط، مانعة عمليات الإقلاع والهبوط، وصل عدد أقل وأقل من هذه الإمدادات إلى الفرنسيين.
تم اجتياح الحامية الفرنسية في أيار (مايو) بعد حصار دام شهرين، واستسلمت معظم القوات الفرنسية. وهرب عدد قليل من الرجال إلى لاوس. ومن بين 11.000 جندي فرنسي تم أسرهم، نجا 3.500 فقط من السجن. استقالت الحكومة الفرنسية في باريس. وأيد رئيس الوزراء الجديد، يسار الوسط بيير منديس فرانس، الانسحاب الفرنسي من الهند الصينية. وكانت معركة ديان بيان فو حاسمة. انتهت الحرب بعد ذلك بوقت قصير وتم توقيع اتفاقيات جنيف للعام 1954. وافقت فرنسا على سحب قواتها من جميع مستعمراتها في الهند الصينية الفرنسية.
(3) “الفرسان الأربعة” في سفر الرؤيا هي استعارة تصور نهاية الأزمنة في العهد الجديد، وهم: الغزو، والحرب، والجوع، والموت -على التوالي.
الغد