غالبية المعطيات الراهنة لا تترك المراقبين للعلاقات الأمريكية ـ الصينية في حيرة كبيرة حول ارتكازها على عنصرين في آن معاً: السعي الدائم والحثيث لتجنّب الصدام والإبقاء على تفاهمات محورية في الحدود الدنيا من جهة أولى، ومواصلة التنافس الاقتصادي والتكنولوجي والجيو ـ سياسي في جنوب شرق آسيا والعالم على اتساعه من جهة ثانية.
وزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين مؤخراً توفّر الدليل الأوضح على رغبة مشتركة بين واشنطن وبكين للإبقاء على حال التوازن بين العنصرين، بصرف النظر عن المتغيرات الطارئة ذات العواقب الجسيمة. فمن المعروف أن الزيارة كانت مقررة في شباط/ فبراير الماضي ثم تسببت أزمة منطاد التجسس الصيني في إلغائها، ومن الجلي أن الجانب الصيني تعمد تأجيل موعدها المقبل 6 أشهر من باب رد الاعتبار.
ليس غائباً عن الأذهان أيضاً أن أجندة مباحثات بلينكن كانت ستقتصر على نظيره الصيني تشين غانغ، لولا أن الرئيس الصيني وافق في ربع الساعة الأخير على استقبال الوزير الأمريكي، فأعطى بذلك إشارة صريحة على اهتمام رئاسي بفتح آفاق جديدة في علاقات بين البلدين تشهد أدنى مستوياتها منذ عام 1979، خاصة وأنّ بلينكن يسجل أول زيارة لوزير خارجية أمريكي منذ خمس سنوات، والملفات التي تناولتها المباحثات الأخيرة هي الأولى من نوعها منذ سنة 2018.
من المبكر بالطبع التكهن بما سوف يتجسد على الأرض بعد إعراب الجانبين عن الأماني والنوايا الطيبة، لأن إذابة جليد العلاقات بين البلدين لا يعني بالضرورة تعبيد دروب التعاون بينهما، والمسائل الخلافية أشد صعوبة وتجذراً من أن تعالجها زيارة واحدة، حتى إذا صحت التقارير عن زيارات مقبلة تزمع القيام بها وزيرة المالية الأمريكية وزميلتها وزيرة التجارة.
عقدة تايوان هي الأولى التي تتكفل بتعكير صفو الأجواء بين واشنطن وبكين على نحو دائم ومنتظم، وذلك رغم إعلان الولايات المتحدة تمسكها بـ«سياسة صين واحدة» الأمر الذي لا يمنع واشنطن من تمسك آخر يفيد بأن تايوان جزء استراتيجي لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي. ردود الفعل الصينية على ثنائية الموقف الأمريكي هذه يندر أن تبقى منحصرة في المستويات الدبلوماسية، وقد حدث مراراً أن طبّقت بكين خيارات «الذئب المحارب» الشهيرة التي تشمل مناورات عسكرية واستعراضات قوة عبر الأساطيل والطيران الحربي.
ثمة إلى هذا عُقد أخرى تتصدرها تكنولوجيا شركة هواوي الصينية العملاقة والتنافس المحموم حول الرقائق والشرائح الإلكترونية، حيث لا يلوح أن قرارات الحظر المتبادلة بين واشنطن وبكين تساعد في تعبيد الدروب التي تسعى إليها الدبلوماسية. وإلى جانب افتراق الخيارات الصينية مع واشنطن بصدد الغزو الروسي لأوكرانيا، ليس من المرجح أن البيت الأبيض لا يراقب، بقلق أو تحفظ أو استنكار، الأدوار النشطة التي باتت الصين تلعبها في الشرق الأوسط عموماً وفي قلب باحات النفوذ الأمريكي التقليدية خصوصاً، على شاكلة رعاية التوافقات بين السعودية وإيران مثلاً.
والخيارات بذلك يمكن أن تبقى في إطار عنصرَيْ تجنب الصدام ومواصلة التنافس، في آن معاً وأياً كان الجليد الذي يذوب أو يتكدس.
القدس العربي