أبطال جنين وأخواتها

أبطال جنين وأخواتها

قد يختلف الزمن، وتتغير الظروف والمعادلات، لكن القضية تبقى نفسها، وتبقى جنين ومخيمها عاصمة للمقاومة الفلسطينية المسلحة، فهي أقرب مناطق شمال الضفة الغربية اتصالا بالداخل الفلسطيني المحتل في نكبة 1948، عبر مروج «بني عامر» إلى الشمال، كما تطل على منطقة الأغوار من جهة الشرق، والقدس إلى جنوب جنين بمسافة 75 كيلومترا، وقبل ما يزيد على العشرين سنة، برزت جنين ومخيمها الذي لا تزيد مساحته على كيلومتر مربع واحد، وصدت الغزو الإسرائيلي في العملية المعروفة باسم «السور الواقي»، وقد كانت عملية اجتياح شاملة للضفة الغربية، وصلت ذروتها في «مخيم جنين» بالذات، وسقط 13 جنديا إسرائيليا قتلى، وكان الوضع حينها مختلفا، كانت العمليات الاستشهادية دائرة قبلها في الداخل الفلسطيني، وسقط 36 إسرائيليا قتلى، وأرادت «إسرائيل» وقتها اجتثاث المقاومة، وأدارت عملية الاجتياح الهمجي التي لم تحقق أهدافها، فلجأت إلى بناء جدار الفصل العنصري، وتصورت أن بوسعه عزل الداخل الفلسطيني عن الضفة الغربية ونيران مقاومتها، و»خض ورج» السلطة الفلسطينية، خصوصا بعد رحيل ياسر عرفات مغتالا بالسم الإسرائيلي عام 2004.
وتوالت تغيرات سالبة كثيرة وانقسامات فلسطينية منذ عام 2007، وبدا أن بوصلة المقاومة قد حوصرت في غزة، التي جلا عنها العدو في 2005، وخاضت وحدها حروبا متطاولة مع جيش العدو إلى اليوم، أعادت حربها الأشرس «سيف القدس» في مايو/أيار 2021، وصل ما انقطع في وحدة الكفاح الفلسطيني، وأعادت رسم خرائط المقاومة الجديدة الجامعة بين القدس وغزة والداخل الفلسطيني، وفيها بدت جنين على هيئتها الأولى، وكأنها غزة انتقلت لشمال الضفة، ونشرت إشعاعها إلى جوارها في نابلس وطولكرم وغيرها، وتناسلت كتائب الفداء على غرار «كتيبة جنين»، التي أدارت وحدها حربا ضارية مع غزو جيش الاحتلال قبل أيام، ومع طائراته وعرباته المصفحة، وأعطبت سبع آليات وأصابت سبعة من جنود العدو، وأوقعتهم في كمائن داخل المخيم، وطورت عبوات ناسفة محلية الصنع بوزن 40 كيلوجراما، وجعلت أفضل أمنية لجيش الاحتلال أن يسهل هروب جنوده، ثم جاء التجاوب المباشر مع صمود «مخيم جنين»، ونفذت المقاومة عملية فداء في مستوطنة «عيلي» جنوب نابلس، أسقطت أربعة قتلى من الإسرائيليين، ما دفع البلطجية وأرباب السوابق في حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، إلى المطالبة بتكرار اجتياح «السور الواقي»، فيما خرج ثلاثة جنود «إسرائيليين» من العرب «الدروز» في «فيديو» لافت، يمجدون بسالة وبطولة جنين، ويحقرون «إسرائيل»، في تعبير ظاهر عن اليأس الذي يضرب جيش الاحتلال.

المقاومة حتى لو نشأت عفوية ومبعثرة، تدفعها إرادة الحياة لتنظيم نفسها وتكثيف قوتها، وتحويل طاقة الشعب الفلسطيني على أرضه المقدسة، إلى زاد لا ينفد من مواكب الفداء وقوافل الشهداء

ولا شيء مستبعد من جيش الاحتلال، الذي أصابته جنين بالجنون، لكن قادة العدو يعرفون يقينا، حتى إن منعهم العناد والكبر من الاعتراف بالحقيقة، أن تكرار عملية «السور الواقي» لن يفيدهم ولن ينقذهم، فالذي أمر بعملية «السور الواقي» الأقدم، لم يبن ملكا مستقرا بعدها، وراح شارون ـ ملك إسرائيل ـ بعدها في غيبوبة عميقة اتصلت لسنوات، وهلك كجثة متعفنة تقرحت من طول الرقاد، ونصيب خلفائه لن يكون أفضل، فهم يواجهون شعبا لا يتوقف عن التضحية، ويتسابق شبابه إلى منصات الشهادة، ويؤمنون بقضيتهم كإيمانهم بالله، وليس بوسع جيش الاحتلال ولا قطعان المستوطنين التي تحرق قرى الضفة، أن يفوزوا في الصدام مع كتائب جنين ونابلس وغيرها، وقد جربوا كل طرق القتل والحرق والتنكيل وهدم المنازل وقطع أشجار الزيتون، وقتلوا 175 شهيدا فلسطينيا في العام الجاري وحده، ولم يؤد ذلك وغيره من الهجمات الوحشية، إلا إلى إشعال جذوة المقاومة، واقتحموا ويقتحمون المسجد الأقصى المبارك كل يوم تقريبا، ويعتدون على «كنيسة القيامة»، ولم تؤد تلك الهمجية المروعة، إلا إلى تدافع مواكب من الشباب الفلسطيني، واندفاعهم إلى تكوين كتائب مقاومة عفوية أو منظمة، ومع كل 24 ساعة تمر، ينفذ الشباب ـ وحتى الأطفال ـ عشرات من المقاومة، بالصدور العارية، وبما ملكت الأيدي من حجارة أو زجاجات حارقة وطلقات رصاص وعبوات ناسفة، لا يمنعهم التواطؤ الدولي، ولا التخلي العربي الرسمي عن قضيتهم، من الدفاع عن حقهم المؤكد دينيا وتاريخيا وقانونيا في تحرير وطنهم المحتل، ومن جعل مثال «غزة العزة» قابلا للانتقال والتكرار المضيء، وإلى حيث يؤلم العدو أكثر في القدس والضفة والداخل الفلسطيني، وإلى تطوير وحدة ساحات كفاح الشعب الفلسطيني، ومن دون أن يرتعبوا من مقارنات السلاح مع عدوهم، الذي يملك مئات آلاف أضعاف السلاح الذي يحوزون، لكن فوارق الإيمان والصبر والتصميم لصالحهم كلما امتد الزمن، وكما في كل حركة مقاومة وتحرير وطني على طول التاريخ الحديث، لم تملك أي حركة تحرير وطني ما ملكه العدو المحتل من سلاح وتكنولوجيا متطورة، لكن إلحاق الأذى بالعدو، ظل دائما ممكنا، وانتهي بالمحتل إلى الجلاء عن الأرض، حدث ذلك في كل تجربة كفاح ضد الاحتلال، بالإنهاك والاستنزاف المتصل، والوصول بالاحتلال إلى نقطة اتخاذ القرار الأخير، حين تصير تكلفة الاحتلال فوق فوائد بقائه، وهذا ما حدث مرات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي نفسه، حين اضطر للانسحاب من الجنوب اللبناني بعد ربع قرن من المقاومة، وحين قرر الجلاء عن «غزة» وتفكيك مستوطناتها السبع من طرف واحد، بعد ربع قرن من انتفاضات الشعب الفلسطيني الأحدث، توجت بانتفاضة الأقصى الثانية، التي امتزج فيها سلاح الحجارة بطلقات الرصاص والعمليات الاستشهادية، ولن يكون المقبل مختلفا بالمعنى عن سيرة الماضي القريب، على الرغم من كل ما يقال وهو صحيح، عن اختلالات الوضع السياسي الفلسطيني وانقساماته على السطح، وعن انصراف الكثرة الغالبة من نظم الحكم العربية عن الهم الفلسطيني، وعن التواطؤ الدولي ضد الحق الفلسطيني، وعن احتضان أمريكا ورعايتها الوثقى لكيان الاحتلال، وعن انشغال العرب بقضايا كثيرة، بينها حروبهم الأهلية المتكاثرة، وسعي أغلبهم لالتحاق بركاب محبة «إسرائيل» والتطبيع معها، وعن انشغال العالم بحروب أوكرانيا وغيرها، وبمخاضات التوزيع المستجد لموازين الاقتصاد والسياسة والسلاح على القمة الدولية، وكل ذلك وغيره صحيح، ويأخذ من بقايا الالتفات إلى القضية الفلسطينية، وهو متصل لسنوات خلت ولسنوات تجيء، ولا أحد عاقل ينتظر مددا قريبا داعما للفلسطينيين من خارج وطنهم، إلا أن يأخذ الشعب الفلسطيني قضيته بيديه، ويفرضها حاضرة ساخنة على حواس اهتمام الضمير العربي والعالمي، وهو ما لن يحدث قطعا، باستجداء عطف أو تعاطف واشنطن وأوروبا، المشغولة بمصائرها الذاتية في حروب الكبار، ولا باقتصار العمل الفلسطيني على الأمم المتحدة ومؤسساتها ودهاليزها، ولا بمناشدة ضمائر شبعت موتا، بل بالعمل والكفاح اليومي المباشر، وبالمقاومة الشعبية والمسلحة، والمقاومة حتى لو نشأت عفوية ومبعثرة، تدفعها إرادة الحياة لتنظيم نفسها وتكثيف قوتها، وتحويل طاقة الشعب الفلسطيني الغالب سكانيا على أرضه المقدسة، إلى زاد لا ينفد من مواكب الفداء وقوافل الشهداء، فقضية التحرير الفلسطيني مؤيدة بمئات القرارات الدولية، وكيان الاحتلال الإسرائيلي آخر صور الاستعمار في عالمنا، واتجاه حركة التاريخ يظل في المحصلة إلى الأمام، حتى لو تاهت الشعوب لفترات في محطات جانبية، وقد عرف الشعب الفلسطيني عقودا من التيه في الدروب، وتجريب اتفاقات ومهانات «أوسلو» وأخواتها وسلطاتها، وهو يعود تدريجيا، ولكن بثبات واطراد، إلى ميدان المقاومة، ويهجر الأوهام التي احتلت العقول طويلا، فلم يعد من مكان لمساومات ولا لتسويات في المدى المنظور، والعدو تزيد شراسته، كلما شعر غريزيا بدنو أجل احتلاله، ولن تتوقف عجرفته ودمويته إلا بزوال احتلاله، وما من طريق مفتوح سالك، إلا بإنهاك قوته في معارك صغيرة وكبيرة، لا يختارها الشعب الفلسطيني، بل تفرض عليه، ولا يمكنه النجاة منها بتجنبها، بل بفرز المزيد من طلائعه إلى ميادين المواجهة المسلحة، فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولا ينكسر سيف الاحتلال إلا بدماء الشهداء، فليس لدى الشعب الفلسطيني ما يخسره إلا قيوده، ولا حياة تليق لناسه إلا بإزاحة الاحتلال على مراحل، وما من أحد يملك حق المزايدة على كفاح الفلسطينيين، وشعبهم أفضل شعوب الأمة تعليما، وواجهوا ويواجهون أعتى صنوف الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، ويفتحون بأيديهم طاقات النور في زمن العتمة، ويزيدون حماس الضمائر المخلصة إلى نصرة قضيتهم العادلة، ويعيدون إلى السمع العربي بالذات، أصوات الأذان الفلسطيني مع كل شهيد يرتقى، ومع كل عملية فداء وضرب للعدو، يتسابق إليها أبطال جنين وأخواتها.

القدس العربي