كيهان” ومدرستها الدبلوماسية في إيران

كيهان” ومدرستها الدبلوماسية في إيران

من المفارقات اللافتة في المشهد السياسي الإيراني، أن التيار المحافظ والمتشدد تحول إلى مدافع ومشجع ومصر على توسيع وتنمية العلاقات الخارجية لطهران مع العالم، خصوصاً مع المحيط العربي. ووصف ذلك بالإنجاز الكبير والمهم والاستراتيجي الذي وفر الأرضية لإحداث تغييرات جيوسياسية في منطقة غرب آسيا، وتحديداً في الشرق الأوسط بعد التوقيع على الاتفاق مع السعودية برعاية صينية في الـ10 من مارس (آذار) الماضي.

صحيفة “كيهان” التي تعتبر بمثابة المتحدث باسم النظام وتخضع إلى إشراف مكتب المرشد الأعلى، كانت الأكثر تشدداً من بين زميلاتها في وسائل الإعلام التابعة للتيار المحافظ أو المقربة من منظومة السلطة والدولة العميقة ومؤسسة حرس الثورة، في التصويب على السياسات الخارجية والتفاوضية للحكومات السابقة المصنفة بأنها “غير ولائية” أو لا تمثل التيار الثوري المحافظ، والتي لم تترك فرصة لمهاجمة هذه الحكومات التي كانت ذات طابع إصلاحي واعتدالي في عهدي الرئيسين محمد خاتمي وحسن روحاني على خلفية اتهامهما بالتهاون والخنوع والخضوع للشروط الأميركية والغربية على حساب المصالح الوطنية والاستراتيجية، ولم تتردد باتهامهما بالخيانة والمطالبة بمحاكمتهما.

يبدو أن الإنجاز الذي تحقق بالتوقيع على اتفاق إيران مع السعودية، فتح شهية الأوساط الإعلامية والسياسية في التيار المحافظ للعزف على وتر سياسة الانفتاح على المحيط الجغرافي من آسيا الوسطى والقوقاز مروراً بالمنطقة العربية وصولاً إلى أميركا اللاتينية التي اعتمدتها حكومة رئيس الجمهورية الممثل للتيار المحافظ إبراهيم رئيسي.

لا شك أن هذا الإعلام الذي تعبر عنه “كيهان”، والذي يتوسع ليشمل شريحة واسعة من السياسيين المحافظين الذين يرفضون رؤية ما تحقق في الحكومات السابقة على صعيد العلاقات الدولية وما فيها من أبعاد اقتصادية وسياسية، ينطبق عليها بيت الشعر الذي قاله الإمام الشافعي “وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا”، وقد برهنت أن القمين على قراءة المواقف من المحافظين، أو الذين يتولون مسؤولية توجيه الرأي العام وتأطيره، يتمتعون بذاكرة تشبه “ذاكرة السمك”، ولا ترى سوى ما ينسجم ويتوافق مع رؤيتها ويخدم موقفها ومصالحها.

من المسلم به أن التيار المحافظ بكل أطيافه وأجنحته، كان يعيش حالة “رعب” إذا جاز التعبير، من تداعيات ونتائج أي نجاح قد تحققه حكومة الرئيس السابق روحاني ورأس الجهاز الدبلوماسي الذي عمل معه وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، ولم تجلس مكتوفة الأيدي وتترك روحاني والتيار الذي يمثله ليستثمر هذا الإنجاز ويترجمه على الساحة الداخلية، بحيث يفرض نفسه شريكاً في الدولة العميقة، وهو أمر قد يكون بمثابة زلزال داخل المنظومة التي تسيطر على النظام والدولة العميقة، ويضرب كل الجهود التي بذلتها على مدى ثلاثة عقود لتطويد الأرضية لفرض رؤيتها واستراتيجيتها وأيديولوجيتها في تسيير النظام والدولة والمجتمع.

المرشد الإيراني لم يكن بعيداً من هذه المخاوف، وتحديداً أن يؤدي الاتفاق مع مجموعة “5+1” حول البرنامج النووي إلى جر طهران والنظام إلى بناء علاقات متينة ومنفتحة مع الدول الغربية، لأن ذلك يعني فرض نمط جديد من السلوك السياسي، بخاصة على الساحة الإقليمية ومناطق النفوذ التي أسسها النظام وذراعه الخارجية في قوة القدس التابعة للحرس الثوري، بالتالي قد يكون مجبراً لمواجهة تحدي تفكيك منظومته الأيديولوجية والفكرية التي يقود بها السياسات الاستراتيجية العليا للدولة والنظام.

وخوف المنظومة من طموحات روحاني لم يأخذ وقتاً حتى يتبلور، لأن الرئيس السابق الذي وصل إلى الرئاسة بدعم جماهيري كبير وعدد أصوات فاق 24 مليوناً، لم يتردد في أول لقاء له مع قيادة حرس الثورة أن أكد لهم أولويات حكومته الاقتصادية، وأنه ليس على استعداد لتقديم أي مبالغ مالية من ميزانية الدولة لتصرف على أذرع النظام في الخارج، وعزز ذلك باعتماد سياسة تقشف مالي شملت حتى البعثات الدبلوماسية الإيرانية في الخارج. أو أنه تقصد أن يعتمد هذه السياسة في الدول التي تشكل مناطق نفوذ للنظام، لإيصال رسالة لهذه الأذرع بأن مرحلة جديدة بدأت في البلاد، ستشهد نمطاً جديداً من التعامل بما ينسجم مع المصالح التي تسعى إليها حكومته.

أمام هذه التحديات، كان لا بد للدولة العميقة من التحرك وإعادة ترتيب أوراقها، الأمر الذي اقتضى منها فرض نوع من الحصار السياسي على روحاني وفريق وتحديد الأولويات المطلوبة منه بما ينسجم مع رؤية النظام وحتى رسم الحدود التي باستطاعته التحرك ضمنها.

وتتناسى جماعة المحافظين، أن الخطوة الأولى التي بادر لها المرشد الأعلى بعد التوقيع على الاتفاق النووي، كان اللقاء الذي جمعه مع قادة وأركان حرس الثورة، وطمأنهم فيه بأن الاتفاق مع مجموعة “5+1” لن يؤدي إلى تغيير في رؤية النظام وأن مصالحهم الاقتصادية والسياسية لن تمس. وأن المرحلة المقبلة ستشهد تعزيزاً للعلاقات والتعاون مع الدولة الروسية ومحور الشرق.

هذا الموقف أوصل رسالة واضحة إلى روحاني، الذي استطاع عقد صفقات اقتصادية تتضمن عقوداً لشراء طائرات مدنية من شركتي “بوينغ” الأميركية و”إيرباص”، أن دوره انتهى عند هذا المستوى، وأنه أنجز المطلوب منه، ومن غير المسموح له أن يذهب إلى أبعد من هذا الدور المرسوم. وأن المرحلة المقبلة هي من اختصاص ومهمة المنظومة التي ستمسك بمصير ومسار التعامل مع الدول الغربية وحتى في تحديد الأولويات في العلاقات الخارجية عامة ومع المحيط العربي القريب  خصوصاً.

لم يستطع روحاني الذي حمل رؤية استراتيجية للحوار مع دول الجوار وتحديداً الخليج، تقوم على بناء منظومة استراتيجية لمنطقة قوية من خلال التعاون الأمني والتجاري والاقتصادي والعسكري بينها بعيداً من دور القوى الخارجية وتحديداً الولايات المتحدة وحلف “الناتو”. إلا أن المنظومة في الداخل لم تسمح له بالذهاب بعيداً للعمل على إنجاز هذه الرؤية التي تتطلب منه الانفتاح وبناء الثقة وتعميق العلاقات مع الجوار العربي الخليجي.

ولعل أبرز مؤشر إلى الصراع المحتدم بين روحاني والدولة العميقة، أن هذه المنظومة استطاعت عرقلة وتعطيل الإشارات الإيجابية التي أرسلها وزير الخارجية ظريف باتجاه السعودية، ومنع روحاني من زيارة الرياض بذريعة أن الأمور لم تنضج بعد لمثل هذه الخطوة. ولم يكن الهدف من ذلك سوى قطع الطريق على هذا الفريق الذي لا يمثل القوى المحافظة لفرض أمر واقع قد يترجم في الصراع على السلطة ومستقبل النظام والجهة التي تتحكم به.

هذه المعطيات، وآليات التعامل مع أي تحرك وإنجاز كان من الممكن أن يحققه روحاني أو غيره من القوى غير المحافظة، كانت يشكل تهديداً للمنظومة أو كانت تنظر إليه بعين الريبة وحجم تأثيره في مستقبلها، لذلك سعت لعرقلتها وتركها مؤجلة أو معلقة بانتظار عودتها إلى تسلم السلطة التنفيذية وإدارة الدولة، وتحويل أي خطوة تقوم بها إلى إنجاز استراتيجي يقدم دليلاً على قدرتها على تغيير الواقع وتقديم الحلول والتسويات وعقد الاتفاقيات والتفاهمات، وأن خيارها في السلطة هو الخيار الأنسب لإيران والمصالح الشعب. وهذه السياسات أو الاستراتيجيات والتكتيكات التي اتبعها التيار المحافظ لا تسمح له أو تؤهله ليكون مدرسة في الدبلوماسية وبناء العلاقات الخارجية التي تقوم على تقليل إنجازات السلف وتضخيم وتعظيم ما يقومون به.

اندبندت عربي