الشفافية سلاح الحكومة المصرية لاسترضاء المواطنين

الشفافية سلاح الحكومة المصرية لاسترضاء المواطنين

الحكومة المصرية تتجنب الشفافية ومصارحة الناس بحقيقة الوضع المالي للبلاد، وفي نفس الوقت تريدهم أن يصبروا ويتفهموا الوضع وأن يكفوا عن الانتقادات. هل المشكلة في الخوف من نتائج المصارحة أم هو ميراث قديم يقوم على تحويل رئيس الجمهورية إلى ماسك بكل التفاصيل، وهو من يطالب بالحديث للتبرير والإقناع وتهدئة الخواطر؟

تبذل الحكومة المصرية جهودا كبيرة في تنفيذ المشروعات التنموية سريعا لتهيئة المجال أمام الاستثمار، وتخفيف الضغوط على المواطنين، ثم تجد نفسها لا هي نجحت في جذب الاستثمارات اللازمة لإنعاش الاقتصاد الوطني، ولا تمكنت من تحقيق إنجازات تزيل بها نبرة الشكوى الدائمة عند المصريين بسبب غلاء المعيشة.

ما ينقص الحكومة الحكمة في الحديث بشفافية عالية في كل المجالات، وتتخلى عن اللغة المزدوجة الطاغية في تصريحات بعض المسؤولين، حيث أشار أخيرا رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع إلى العائدات الواعدة لهذا المرفق الحيوي وبث التفاؤل في أجواء يسودها إحباط، لكنه لم يتحدث بوضوح عن المصروفات وأوجه الإنفاق، ولم يتطرق إلى ما يتردد حول مصير القناة نفسها التي تحيط بها شائعات عديدة منذ الحديث عن إنشاء صندوق لاستثمار عائداتها، تم إقراره من قبل البرلمان.

ما الذي يمنع الحكومة المصرية من إجراء مكاشفة مالية مع الشعب، وتقول هذا ما يتوافر من واردات، بما فيها تحويلات المصريين، وهذا ما ينقصنا للإيفاء بالالتزامات الضرورية، ويتم وضع الصورة بلا رتوش أمام المواطنين، لأن الجوانب المبتورة تضر بها، والمعلومات الناقصة تفتح الباب لتكهنات وتخمينات وأيضا شائعات.

يغضب النظام المصري من الانطباعات السلبية التي تتولد عند الناس وهو يقوم بتحركات مضنية، ويغضب أكثر عندما يجد أن مشروعاته التي أنجزها بطول البلاد وعرضها لا تلقى النتيجة المرجوة من الناس، وهي إشكالية لن تتوقف طالما أن المعلومات شحيحة، والمسؤولون في الحكومة لا يسدون تعطش الرأي العام للمعرفة.

◙ ما الذي يمنع الحكومة من إجراء مكاشفة مالية مع الشعب، وتقول هذا ما يتوافر من واردات، وهذا ما ينقصنا للإيفاء بالتزاماتنا

كما أن حارس البوابة يظن على الجميع بما لديه من بيانات صحيحة، وكأنه يستمتع بالحيرة التي تصيب الناس وتضطرهم للجوء إلى وسائل إعلام معادية، تسخّر عدم شفافية الحكومة لصالحها وتجذب بها شرائح متزايدة من المتابعين.

هناك كم كبير من الأسئلة التي طرحت في مصر الأيام الماضية حيال تغييرات مشروعة جرت في القيادة العسكرية وأثارت البلبلة في أوساط الرأي العام، ومرت بلا إجابات، وفتح الموقف من عدم تعويم الجنيه حاليا الذي ربطه الرئيس عبدالفتاح السيسي بالأمن القومي، وهو كذلك، المجال لتساؤلات بأثر رجعي بشأن إجراء أكثر من تعويم الفترة الماضية، ألم تكن كلها مضرة بمصالح شريحة كبيرة من المواطنين؟

أضف إلى ذلك الالتباس الحاصل بشأن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، هل هي قبل نهاية العام أم مع بداية العام الجديد، وإذا كانت هناك نية للتبكير فما هي دواعي ذلك، وما هي الضمانات التي تجعلها نزيهة؟ ويمكن أن تطول قائمة الأسئلة في هذا المجال بلا حصول على إجابة محددة، لأن الشفافية التامة غائبة عن ذهن الحكومة.

تغيب الشفافية في حالة المركزية الشديدة لصناعة القرار في الدولة، وهو التفسير الوحيد الذي يبرر الحالة التي تعيشها مصر، ويقلل من الثقة في الإنجازات التي تتحقق على الأرض، فلا يزال السيسي هو رئيس الجمهورية ووزير الإعلام ووزير الدفاع، والمسؤول باختصار عن كل كبيرة وصغيرة أمام المواطنين، وشخصيته طاغية على من حوله، وهؤلاء يرتاحون لهذا الضوء الذي يظللهم ويعفيهم من تحمل المسؤولية.

إذا كان الرئيس السيسي يستمتع بوضع هذا العبء على كاهله بمفرده، فعليه أن يتقبل ما يتردد من شائعات حول بعض التصورات والسياسات والتصرفات التي تتبناها الحكومة وتغضب مواطنين وقد تكون الحكومة محقة فيها، غير أن عجزها أو خوفها من تقديم المعلومات يظلمها مرتين. مرة لأن جهودها مغبونة، وأخرى لأنها باتت متهمة بالتقاعس، وعليها خوض معركة لنفي قائمة طويلة من الشائعات وتصحيح الصورة الخاطئة التي تنكرها.

◙ الشفافية تغيب في حالة المركزية الشديدة لصناعة القرار في الدولة
◙ الشفافية باتت ضرورية كسلاح تسترضي به الحكومة المصرية المواطنين والمستثمرين
تتكبد الحكومة جهدا مضاعفا في هذه العملية، وكان يمكنها أن تستغني عن هذا الصداع مبكرا لو تعاملت مع الأمر بشفافية وحرفية، واستفادت من ضيق رئيس الدولة من أكاذيب تنال من مشروعات عملاقة لتتقدم بنفسها وتخوض مواجهة قاسية بدلا من وضعه شخصيا في خضمها، فلديه ما يكفيه من مهام.

اعترف الرئيس السيسي في قمة باريس التي عقدت تحت لافتة “ميثاق التمويل العالمي الجديد” أنه لا يعلن عن مشروعاته مسبقا، والناس يعرفونها وقت افتتاحها، قد تكون هذه ميزة لتأكيد جدوى العمل الحقيقي، لكنها تثير الشكوك أحيانا، لأن خروجها إلى النور يبدو مفاجئا، وبقدر ما يبعث ثقة في الدولة يثير علامات استفهام حول السرية المتبعة.

تواجه مصر مشكلة قروض متراكمة أسهمت في زيادة حدة الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لم تتخلف الحكومة عن سداد أقساط الديون، وهي ثاني أكبر دولة مدينة (بعد الأرجنتين) في العالم لصندوق النقد الدولي، ما أثار حيرة لدى البعض حول الإمكانيات المتوافرة التي تجعل القاهرة تضج من الأزمة الاقتصادية ولا تتخلف عن فوائد الديون.

◙ السيسي هو رئيس الجمهورية ووزير الإعلام ووزير الدفاع والمسؤول باختصار عن كل كبيرة وصغيرة أمام المواطنين

بالطبع الحكومة غير مطالبة بالكشف عن كل شيء، لكن من مصلحتها أن تقدم المعلومات المطلوبة في بعض القضايا التي تهم الرأي العام، إذ يساعد توافرها على تخفيف الضغوط عليها، على الأقل من باب سد الثغرات التي تتكاثر مع انتشار الشائعات، إلا إذا كانت هناك تصرفات مريبة تقوم بها ولا تريد أن يعرفها أحد.

أعتقد أن الانفتاح الذي يعيشه العالم لم يترك مساحة لأي دولة لإخفاء المعلومات الاقتصادية عن الدول المتقدمة تكنولوجيا، وحدوثه يفضي إلى تصاعد التحليلات الخاطئة للحالة التي تعيشها مصر، وقد أدت زيادة التقارير التي نشرت في وسائل إعلام دولية مؤخرا إلى شيوع نوع من الإحباط إزاء الوضع الاقتصادي للدولة، والذي يؤثر نسبيا على الموقف من الاستثمار فيها.

أصبحت الشفافية ضرورية لأنها السلاح الذي تسترضي به الحكومة المصرية المواطنين والمستثمرين أيضا، وتقطع به الطريق على أكاذيب تضر بالدولة سياسيا واقتصاديا، فالتكتم والسرية وعدم الإجابة على تساؤلات الرأي العام المحلي ووسائل الإعلام الدولية تخلق حالة مزاجية غير مواتية لتقبل المشروعات التنموية الكبيرة التي تقوم بها القاهرة وتصب في محصلتها لصالح المواطنين.

تزداد هذه المسألة أهمية مع التغير الحاصل في إعادة التموضع المصري إقليميا ودوليا، والرغبة في الانفتاح على دوائر جديدة تستلزم التعامل معها بوضوح، فالقدرة على الإخفاء داخليا لن تكون لها قيمة خارجيا، وسوف تقود إلى تأويلات أشد ضررا مما يعتمل في عقول المصريين بشأن العديد من التوجهات التي تتبناها حكومتهم.

يعد غضب المواطنين واسترضاؤهم السلاح البتار أو المفتاح في يد الحكومة، إذا أحسنت استغلاله يمكنها أن تضمن تمرير سياساتها بدرجة عالية من الأريحية، والعكس صحيح، ولن تحرز تفوقا ما لم ترفع شعار الشفافية وتتخلّ عن السرية التي تكمن فيها الشياطين وتؤدي إلى تقزيم ما تقوم به الحكومة من إنجازات حقيقية.

العرب