قد يكون السؤال غير منطقي أو لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض. فالافتراض الرئيسي المطروح حالياً هو أن الغاية الأساسية التي تسعى الدول الغربية إلى تحقيقها – في حالة ما إذا اعتبرنا أن الصراع صفري – هي “هزيمة” روسيا[1]، التي تسعى – وفقاً للرؤية الغربية – إلى فرض كلمتها وتحدي القوى الغربية ومنظومتها الأمنية الأساسية “حلف الناتو”، منذ استيلائها على جزيرة القرم في عام 2014 وبعد شنها الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير 2022.
لكن الإمعان في المعطيات الجديدة التي تفرضها التطورات التي أسفرت عنها حرب أوكرانيا، خاصة بعد “التمرد” الذي قامت به مجموعة “فاجنر”، في 23 يونيو الفائت (2023)، فضلاً عن الاستناد إلى بعض أدبيات العلاقات الدولية، يوحي بأن المسألة قد لا تكون “صفرية” بهذا الشكل. بل إنها ربما تطرح دلالات عديدة توحي بأن “هزيمة” روسيا قد لا تقل في خطورتها عن “انتصارها”.
صحيح أن انتصار روسيا سوف يفرض أثماناً ربما تكون باهظة بالنسبة للدول الغربية[2]. لكن الصحيح أيضاً أن الهزيمة قد تفرض أثماناً ربما تكون أكثر فداحة، نظراً للتداعيات التي يمكن أن تفرضها هذه الهزيمة خاصة على مستوى إضعاف روسيا.
وهنا، وفي حالة تحقق هذا السيناريو، وهو “هزيمة” روسيا، فإن السؤال التالي سوف يكون: ماذا بعد؟، وبمعنى أدق، ما هي التداعيات التي سوف تفرضها هذه الهزيمة؟.
انطلاقاً من ذلك، بدأت أصوات عديدة في الغرب تدعو إلى ضرورة التريث والتفكير في سيناريو اليوم التالي لهذا الاحتمال. ففي 29 يونيو الفائت، حذر مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من مخاطر “إضعاف” الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، مضيفاً: “علينا الآن النظر إلى روسيا على أنها مصدر خطر بسبب عدم استقرار الأوضاع الداخلية”[3].
ورغم أن دعوات عديدة برزت في الفترة الماضية إلى ضرورة توخي الحذر في تبني سياسة “إضعاف روسيا”، على غرار الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، في 18 ديسمبر 2022، إلا أنها لم تكتسب هذا المستوى من الأهمية والزخم التي تحظى بها التحذيرات الحالية، وذلك لاعتبارين: أولهما، أن التحذيرات الأخيرة جاءت بعد مرور ما يقرب من عام ونصف على اندلاع الحرب دون أن تظهر مؤشرات توحي باحتمال اقترابها من النهاية، على نحو يفرض ضغوطاً أقوى على روسيا تحديداً التي كانت الطرف المُبادِر بشنها والتي لم تحقق حتى الآن الأهداف التي بدأت من أجلها العمليات العسكرية.
وثانيهما، أنها توازت مع اندلاع التمرد الذي قادته حركة “فاجنر” على نحو فرض متغيراً جديداً في معادلة التوازن بين روسيا والغرب، لم يكن يحظى باهتمام كبير في الفترة السابقة، بعد أن كشف هذا التمرد – رغم أنه لم يستمر سوى 24 ساعة – وجود ثغرات لا يمكن تجاهلها في الأداء العسكري الروسي.
نسخة بوتينية جديدة
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وجّهت كتابات غربية عديدة انتقادات حادة للسياسة التي تبنتها الدول الغربية في مرحلة ما بعد هذا التحول التاريخي، حيث وصفت هذه السياسة بأنها كانت “حذِرة” أكثر من اللازم، وأنها لم تستفد من الفرصة التي واتتها من أجل “إنهاء” الخطر الذي شكله الاتحاد السوفيتي وفرضته روسيا فيما بعد[4].
لكن هذه الكتابات تعرّضت بدورها لانتقادات عديدة، باعتبار أن ممارسة ضغوط بشكل قد يتجاوز الغرض منها يمكن أن ينتج مفاعيل عكسية في النهاية، وهو ما حدث في حالتي ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وبمعنى أدق، فإن الفرصة قد تتحول إلى “تحدٍ” في حالة ما إذا أدت الضغوط إلى تغير التوازنات السياسية والديموغرافية الداخلية، بشكل قد يدفع إلى الواجهة قوى تتبنى سياسة أكثر تشدداً في إدارة العلاقات مع الدول الغربية.
وهنا، تقدم نظرية “تحول القوة” The power Transition التي قدمها أورجانيسكي[5]، تفسيراً لهذا الوضع. فقد قسّم أورجانيسكي الدول، حسب درجة القوة ودرجة الرضا عن موقعها من التوازنات الدولية، إلى أربعة فئات رئيسية هى: الدول القوية والراضية، والدول القوية وغير الراضية، والدول الضعيفة والراضية، والدول الضعيفة وغير الراضية.
ووفقاً لهذه النظرية، فإن الفئة الثانية التي تتمثل في الدول القوية وغير الراضية، هى التي تتحول إلى مصدر تهديد، لأنها تتسبب في حالات عدم الاستقرار، لأن الفئة الأولى ليست لها مصلحة في تغيير هيكل النظام الدولي الذي يخضع لهيمنتها، في حين أن الفئة الثالثة ورغم أنها غير راضية لكنها تفتقد إلى القدرة على التغيير، بينما الفئة الرابعة ضعيفة وراضية بالوضع الدولي.
أما الفئة الثانية، فتتصور أنها تمتلك من القوة ما يؤهلها إلى ممارسة دور على الساحة الدولية أكثر أهمية من المكانة المتاحة لها وفقاً للقواعد التي يفرضها هيكل القوة الموجود، والذي تمليه اعتبارات خاصة بدول الفئة الأولى. ووفقاً لأورجانيسكي، فمن هذه الفئة يظهر المنافسون الذين يسعون إلى تغيير الوضع القائم.
ورغم أن هذه النظرية قد تبدو قديمة، تاريخياً، فإن بعض مفرداتها ما زالت محل اختبار حتى الآن، على غرار معظم طروحات حقل العلاقات الدولية. فبإسقاط ذلك على ما يحدث حالياً على الساحة الدولية، تبدو روسيا إحدى دول هذه الفئة.
إذ أن هناك تصورات عديدة في دوائر الحكم في موسكو ترى أن “الدول الغربية تسعى للقضاء على روسيا”، كما قال الرئيس الروسي السابق النائب الحالي لرئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، في 4 سبتمبر 2022، والذي قارن بين الحرب الحالية وانهيار الاتحاد السوفيتي، وأضاف: “إنهم يفعلون كل شيء حتى تتوقف مؤسسات الدولة في روسيا عن العمل. فهم يحاولون حرمان البلاد من الحكم الفعّال كما حدث عام 1991. هذه هي الأحلام (القذرة) للمفسدين الأنغلوساكسونيين، والذين ينامون يومياً وهم يفكرون في كيفية دفع دولتنا للانهيار”[6].
هذه التصريحات تطرح دلالات لا تبدو هينة، لا تنحصر فقط في أن دوائر الحكم في روسيا ما زالت تتبنى نظرية “المؤامرة” التي تقوم على أن الغرب ما زال حريصاً على “تفكيكها” عبر إضعافها، وأنها لن تستطيع التسامح مع ذلك، وإنما تمتد إلى أن هذه التوجهات المتشددة لا تتراجع داخل أروقة الحكم في روسيا بل تتطور تدريجياً وتتحول إلى سياسات أكثر تشدداً، عبر صعود شخصيات مثل بوتين إلى سدة الحكم، وهو احتمال قد يتكرر بصورة أكثر قوة في حالة ما إذا انتهت حرب أوكرانيا بإضعاف الرئيس الحالي، بما يعني، وفقاً لذلك، أن الغرب يجازف عبر محاولة إضعاف بوتين بمواجهة نسخة أخرى من الرئيس الحالي قد تكون أكثر شراسة.
دولة مفككة على الحدود
ربما يؤدي إضعاف روسيا إلى تفككها وبالتالي ظهور دول عديدة على الحدود قد تتصاعد الصراعات فيما بينها على الموارد والحدود، وبالتالي تتحول إلى حروب أهلية مزمنة، سوف تفرض ارتدادات مباشرة وسريعة على الدول الأوروبية خاصة مع الوضع في الاعتبار أن هذا الصراع قد يمتد إلى “التركة النووية الكبيرة”.
وبالطبع، فإن ثمة عوامل عديدة يمكن أن تساعد في تحقق هذا السيناريو، منها أن روسيا دولة مترامية الأطراف تمتد على 11 منطقة زمنية[7]، وتضم عرقيات عديدة، حيث أن نحو 19% من سكانها لا ينتمون للعرق الروسي.
وقد كان العامل العرقي عنواناً رئيسياً ظهر في تصريحات وردود فعل الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين خلال زيارته لمسجد “جمعة” في مدينة ديربند في جمهورية داغستان، في 28 يونيو الفائت، والتي رد فيها على حادث إحراق المصحف الشريف في السويد، حيث احتضن المصحف الذي أهداه إليه إمام المسجد، وقال: “القرآن مقدس لدى المسلمين وعندنا”، مضيفاً: “بطريرك روسيا يؤكد أن المسلمين هم أخواتنا، وهو ما يقوي الشعب متعدد العرقيات”[8].
ربما من هنا، يمكن تفسير التحذيرات التي أطلقها رئيس بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو، في 29 يونيو الفائت، بعد التمرد الذي قامت به فاجنر بنحو أسبوع والذي مارس دوراً بارزاً في احتواءه على الأقل مؤقتاً، فقد قال: “إذا انهارت روسيا فسنبقى تحت الأنقاض وسنهلك جميعاً”، وأضاف: “التهديد بنشوب صراع عالمي جديد لم يكن قريباً من أي وقت مضى كما هو عليه اليوم. إنهم يحاولون مرة أخرى نسف بلدنا ومنطقتنا بأكملها لإرباك الناس”[9].
هنا، فإن الرسالة تبدو واضحة، وهى ليست موجهة إلى الداخل، بقدر ما هى إلى الخارج، وتحديداً إلى الغرب ومفادها أنه إذا كان لدى الغرب توجه لإضعاف روسيا تمهيداً لتفكيكها، فإن التهديدات التي يدعي الغرب أنه يواجهها حالياً بسبب السياسات الروسية سوف تكون هينة مقارنة بما ستكون عليه الأمور في حالة تحقق ذلك.
بكين ونظرية البجعة السوداء
ترجح العديد من الكتابات أن الصين سوف تكون إحدى القوى المتضررة من “هزيمة” روسيا في الحرب الأوكرانية الحالية. ومع ذلك، فإن هذا الاحتمال يبدو نسبياً، إذ أن استشراف المعطيات الجديدة التي يمكن أن تتمخض عن هذا التحول المحتمل ينبغي أن يأخذ في الاعتبار “المتغيرات غير المتوقعة”، أو النتائج العكسية التي قد تحدث، في إطار ما يمكن تسميته بنظرية البجعة السوداء Black swan theory.
وهنا، فإن ثمة ما يدعو إلى الحذر في المسارعة بترجيح تضرر الصين، بشكل كبير، من هزيمة روسيا، وذلك لاعتبارات عديدة. فقد استفادت الصين، على سبيل المثال، من انشغال روسيا في الحرب واستنزاف قدراتها العسكرية في إدارتها، عبر تعزيز دورها كمنافس للأخيرة في سوق السلاح على مستوى العالم، رغم أنها كانت تعتمد في البداية على التكنولوجيا العسكرية الروسية.
ويشير مقال كتبه توماس كوربيت وبيتر سنجر، بعنوان (China Is Eating Russia’s Lunch in the Defense Market)[10] إلى أن الصين بدأت في التحول إلى مصدر رئيسي للسلاح إلى دول كانت تقليدياً من المشترين الرئيسيين للسلاح الروسي، وذلك بسبب التداعيات السلبية العديدة التي تعرّضت لها الصناعات العسكرية الروسية على خلفية الحرب في أوكرانيا.
فضلاً عن ذلك، فإن إضعاف روسيا قد يفرض فراغاً في منطقة وسط آسيا بدأت الصين، على الأرجح، في الاستعداد مسبقاً لملئه، عبر توسيع نطاق علاقاتها مع دول تلك المنطقة، على نحو بدا جلياً في استضافتها للقمة التي عقدت في مقاطعة شنشي يومي 18 و19 مايو الماضي، والتي شاركت فيها دول كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وطاجيكستان.
ولا يمكن هنا إغفال أن كتابات عديدة بدأت في الإشارة إلى أن أصواتاً في الصين بدأت تتصاعد على مواقع التواصل الاجتماعي تحديداً، بعد فترة وجيزة من الحرب التي شنتها روسيا في أوكرانيا، حول “الظلم” الذي تعرّضت له الصين بمقتضى معاهدة “ايجون” التي وقعتها مع روسيا في عام 1858 والتي اقتطعت بمقتضاها مناطق صينية تصل مساحتها إلى 230 ألف ميل وضمت إلى روسيا[11]، بما يعني أن إضعاف الأخيرة بعد هزيمتها في أوكرانيا كفيل بأن يضفي قوة أكبر على تلك الأصوات ويجعلها تتجاوز العالم الافتراضي إلى المجال العام والنخبة الحاكمة في الصين.
على ضوء ذلك، يمكن تفسير أسباب ظهور تحذيرات عديدة من هزيمة روسيا في أوكرانيا. إذ أن هذه الهزيمة المفترضة قد لا تمثل نهاية المطاف لما يعتبره الغرب تهديداً روسياً مزمناً، بل بداية لمرحلة جديدة من التهديدات قد لا تقارن بما تبدو عليه الساحة الدولية في المرحلة الحالية. فأن يكون عدوك ضعيفاً ربما يفرض، في بعض الأحيان، عواقب أكثر خطورة من أن يكون قوياً.
مركز الاهرام للدراسات