كما توقّع كثيرون، تحوّلت حرب أوكرانيا بعد 16 شهرا على نشوبها إلى حرب بلا نهاية، وقد تؤدّي الى إعصار جيوسياسي هائل، ربما يعيد رسم خريطة العالم على غير ما نعرفه اليوم.
وكما صنعت أحداث كبرى في التاريخ، مثل الثورة الفرنسية، أو الحربين العالميتين، أو سقوط جدار برلين، أو ضرب مركز التجارة العالمي تحوّلاتٍ مفصلية على أصعدة مختلفة، فان حرب أوكرانيا مرشّحة هي الأخرى لإحداث تغييرات غير محسوبة، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أرادها “عملية عسكرية خاصة”، يضم من خلالها أوكرانيا إلى “إمبراطوريته” باعتبارها، كما قال، “جزءا من روسيا، وبينهما قرابة مشتركة”، وقدّر لعمليته هذه بضعة أسابيع، وربما بضعة أيام، لكنها امتدّت وطالت، ولا يعرف أحدٌ متى ستنتهي. وما زاد في حيرة الباحثين خطأ حسابات بوتين قبل إقدامه على العملية، وهو الذي أهلته السنوات المديدة في جهاز المخابرات في الاتحاد السوفييتي الميّت تاريخيا ليمتلك خبرة عريضة في قراءة ما يدور من حوله، وفي فهم تحوّلات العالم وسياساته، الا أنه قد لا يكون فكّر في رد الفعل الغربي المحتمل، وقد يكون اعتقد أن الغرب الثري المرفّه لن يُخاطر بثروته ورفاهه من أجل عيون “مقاطعة” صغيرة اسمها أوكرانيا.
ويبدو أن الغرب أيضا مارس قراءة خاطئة في عدم إدراك نيات بوتين في وقت مبكّر، وتجاهل سعيه الحثيث إلى استعادة “روسيا العظيمة ذات التاريخ المجيد”، وأنه قد يضحّي في سبيل ذلك باستقرار أوروبا، وبعلاقاته المتطوّرة مع حكوماتها، والمكاسب التي تجنيها بلاده من ذلك. ولذلك احتاج الغرب لحرب قد تكون طويلة كي يدرك أن روسيا “بوتين” شيء مختلف عن روسيا زمن النظام السوفييتي. وهكذا أوقعت القراءة الخاطئة المزدوجة الطرفين في أزمةٍ امتدّت عالميا، وأصبح الخلاص منها مكلفا ومدمّرا إلى حد بعيد.
طرح الباحث الفنزويلي فيرناندو ميريس ثلاثة سيناريوهات محتملة لنهاية الأزمة، أن تنجح روسيا في ضم أوكرانيا كما نجحت في ضمّ شبه جزيرة القرم، وهذا مستبعدٌ، لأن الغرب لن يسمح به مهما طال الزمن، ومهما قدّم من سلاح أو مال لإدامة الماكنة العسكرية الأوكرانية، لأن هذا يعني انكفاء الغرب وتراجعه أمام المطامع الروسية، أو أن تصمُد أوكرانيا وتستعيد ما سلبته روسيا من أراضيها، وتوقع ضربة قاصمة بنظام موسكو، وهذا أيضا غير مسموح به، لأنه قد يجرح كبرياء الرئيس بوتين، ولا يترك له من خيارٍ سوى استعمال أسلحة نووية، وقد يؤدّي هذا الخيار إلى توسيع رقعة الحرب ومخاطرها على العالم كله.
لن تكون هناك حربٌ اقتصادية باردة، لأن لا أحد على استعداد لخوضها
يعرّج ميريس على سيناريو ثالث اعتبره الأقرب إلى التحقق، أن يطول أمد الحرب بفعل عوامل مختلفة، وأن تسخن جبهة الحرب في مرحلة، وتبرُد في أخرى إلى أن “تصبح تفصيلا ليس له أهمية كبيرة مقارنة بالمعضلة العالمية التي سوف تظهر واضحة عبر المواجهة المتوقّعة بين القوتين العظميين، أميركا والصين، وكلّ منهما تسعى إلى الهيمنة على العالم”.
يستنبط العالم الأميركي رئيس مجموعة أوراسيا المختصة بمخاطر السياسات العالمية إيان بريمر رؤية جديدة لما يمكن أن يحدُث من تداعياتٍ تؤجّجها حرب أوكرانيا، وهو في بحثه الأخير الذي حمل عنوان “القوة العالمية القادمة لن تكون هي القوة التي تعتقدونها” يفاجئنا ببيان “أن العالم لن يكون كما هو الآن، إننا لن نعيش (بعد حرب أوكرانيا) في ظل نظام القطب الواحد، أو القطبين، أو الأقطاب المتعدّدة، بل على العكس من ذلك (يضيف بريمر)، سيكون العالم المقبل تفاعليا بطريقةٍ ما، أنظمة عالمية متعدّدة، منفصلة، ولكنها متداخلة، وسيناريوهات للهيمنة المشتركة تعتمد على التفاعل والتنافس السلمي، بدلا من الصدام العسكري والحروب”.
ستظلّ الولايات المتحدة، وفقا لذلك، لاعبا مهيمنا من الناحية الأمنية، ولكن سيتعيّن عليها التنافس السلمي والتفاعل مع الصين، لأن الاقتصادين الأميركي والصيني أصبحا مترابطيْن بشكل مكثف في الفضاء العالمي، وسيصبح الاتحاد الأوروبي سوقا مطلوبا لكلا البلدين، كما ستظلّ اليابان قوة اقتصادية. وإذا ما حافظت الهند على معدّلات نموها الحالية فسوف تنضم إلى الدول المهيمنة، ولن تكون هناك حرب اقتصادية باردة، لأن لا أحد على استعداد لخوضها، وسوف يكون التفوّق التكنولوجي فاعلا مهيمنا على نحو أكبر، وقد يتم تشكيل نظام عالمي رقمي يسمح بإملاء قواعد في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. وفي النظام العالمي الجديد يتنافس البشر تكنولوجيا واقتصاديا بعضهم مع بعض في ضربٍ من العولمة التي لا تقمع الاختلافات التي يمكن أن تبرز دينيا أو ثقافيا، أو حتى في طرق العيش.
تُرى … أين سيكون موقعنا، نحن العرب، في ظل النظام العالمي الجديد الذي يبشّرنا به إيان بريمر؟