أثار إدخال تركيا قوات مدرعة لمنطقة بعشيقة في محافظة نينوى العراقية في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2015 ردود فعل لم تأخذها الحكومة التركية كما يبدو في الحسبان.
1
فقد أرسلت فوجا مدرعا بدبابات ومدافع دون إذن أو علم الحكومة العراقية. لذلك ردّت بغداد بغضب وطلبت من تركيا الانسحاب الفوري من الأراضي العراقية. وجاء الرد القوى على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي أمهل تركيا يومين لسحب قواتها وإلا استخدمت بغداد “كل الخيارات المتاحة.” وبعدها بيوم وجه العبادي القوة الجوية العراقية بأن تكون على أهبة الاستعداد “للدفاع عن الوطن وحماية سيادته”.
أما تركيا التي لم تستجب للطلب العراقي بسحب قواتها، فقد ردت على أكثر من مستوى وربطت دخول قواتها بعلم بغداد المسبق من جهة وتبرير وجود قواتها على الأراضي العراقية بالحرب ضد داعش من جهة أخرى. فقد أبدى رئيس الوزراء، أحمد داود أوغلو، استعداده لزيارة بغداد في أقرب وقت ممكن لتنفيس الاحتقان. كما صرح نائبه، نعمان قورتولموش، بأن القوة التركية ليست موجهة ضد الشعب العراقي بل ضد داعش وبأن وجودها في العراق يأتي لأغراض تدريبية.
ولم تُرض الأجوبة التركية بغداد ومضت تصرّ على ضرورة سحب الأتراك قوتهم من الأراضي العراقية، ثم احتجت لاحقا لدى مجلس الأمن. أما على المستوى الدولي، فقد رأت روسيا أن التدخل التركي غير شرعي وحذّرت أنقرة من القيام بعمل مماثل في الأراضي السورية. أما واشنطن، ورغم محاولتها تنفيس الأجواء، فقد صرّحت بأن وجود القوة في الأراضي العراقية لا علاقة له بالتحالف ضد داعش.
2
من الصعوبة بمكان الإلمام بالأزمة دون الالتفات للتطورات الإستراتيجية الأخيرة في سوريا والعراق. فقد غيرت تركيا سياستها “تصفير المشاكل” مع الجوار عند بدء الربيع العربي ولم يأت هذا التغيير، حتى الآن، بالمأمول في أنقرة. فلا الرئيس السوري سقط ليحكم الإخوان سوريا. ولا الأطراف الدولية تدخلت ضد النظام السوري بعدما تبيّن أن إسقاطه صار مستبعدا.
ولم يُثمر بعد ذلك تزايد دعم المعارضة المسلحة والحركات المتطرفة في هذا المضمار. ولم ترحّب أي من الأطراف بالخطة التركية إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري بين جرابلس وأعزاز لمنع اتصال الكانتونات الكردية في الشمال السوري من جهة ولضم اللاجئين تحت الإدارة التركية وإعطاء القيادة التركية شيئا للبيع في الداخل من جهة أخرى.
ولم يأت إسقاط المقاتلة الروسية بالمأمول تركيّا من تدخل حلف الناتو. بل أتى على أهم الخطط التركية للشمال السوري وهو إقامة منطقة آمنة. فقد أصبحت هذه الخطة خارج الإطار بإدخال روسيا منظومة “إس 400” الدفاعية إلى الأراضي السورية. ولا يخطئ الأتراك قراءة تحذير السيد فيتالي تشوركين، مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، أنقرة، من القيام بإدخال قوات تركية للأراضي السورية على غرار ما حدث في العراق.
3
منذ تمدد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في الأراضي العراقية، حارب حلفان اثنان هذا التنظيم: التحالف الأول يضم العشرات من الدول وتقوده الولايات المتحدة وسُمي بالتحالف الستيني نسبة لكثرة الأطراف المشاركة فيه. أما التحالف الثاني فيضم روسيا وإيران وحلفاءهما في الداخل السوري والعراقي وخارجهما.
وبعيدا عن نجاعة وقوة الحلفين وأخذا بالأهداف المعلنة لكل منهما، تتجلى حقيقة واحدة بالنسبة لتركيا هي أن أهداف أي من الحلفين لا تماشي الأولويات التركية لا في إسقاط الرئيس السوري ولا في منع تزايد القوة الكردية على الحدود التركية.
ولتعثّر التوصل لهذه الأولويات، وضعت أنقرة سيطرة المعارضة المسلحة ذات الصلات الوثيقة بها على حلب، وإقامة شريط حدودي آمن كهدف مرحلي لإدارة الصراع السوري. إلا أن التدخل الروسي وتقدم الجيش السوري وحلفائه، ولو جاء بطيئا، في حلب والمناطق الشمالية، وضع الخطط المرحلية لأنقرة على المحك.
وكان الغضب التركي باديا في إسقاط المقاتلة الروسية. والواضح أن تركيا لا تجد ضالتها السورية لا في التطورات العسكرية ولا في العملية السياسية التي بدأت في فيينا.
فقد أتت روسيا على خياراتها عسكريا في الشمال السوري وأتت على خياراتها سياسيا بتبنيها حراكا سياسيا يدعو لإنهاء النزاع في إطار دولي، دون أن يضع خروج الرئيس السوري من السلطة كجزء رئيسي من الحل المنشود. ولذلك ترى أنقرة أنها تخسر إستراتيجيا كل شيء في سوريا رغم كل ما ضحّت به من صورة سياسية لدولة ستكون نموذجا جديدا للتنمية الإسلامية ومن علاقاتها بدول عربية وإسلامية.
4
يأت التدخل التركي في العراق كرد فعل على تطورات سوريا وبقائها خارج الصورة التي تُرسم عسكريا وسياسيا لسوريا. ومن المهم أخذ واقع تراجع داعش في الاعتبار عند تحليل التدخل التركي في العراق. فقد تحررت سنجار على يد قوة قوامها البشمركة. وتحررت الهول على يد قوة أخرى قوامها حزب الاتحاد الديمقراطي (قوات سوريا الديمقراطية).
يقطع هذان التطوران الطرق الواصلة بين الرقة والموصل ويعني فيما يعنيه إستراتيجيا الحد من قوة داعش في التحرك والمناورة بين العراق وسوريا. كما يعني صعود القوة الكردية لحدود لم يسبق لها الوصول إليه. وبعيدا عن التهم الموجهة لتركيا بدعمها لداعش عبر شراء النفط تارة أو فتح حدودها لتحركات عناصره تارة أخرى وغيرها من التهم، لا يجد المتابع لبسا في واقع ترجيح أنقرة لإضعاف الأكراد على إضعاف داعش.
فأنقرة المهووسة بالقوة الكردية الصاعدة تعلم جيدا أن أكبر الرابحين جراء إضعاف داعش في الوقت الراهن هم الأكراد. فأكراد العراق باتوا قاب قوسين أو أدنى من الموصل وأكراد سوريا تقدموا أكثر من أي وقت مضى لوصل الكانتون المتبقي على القرب من المتوسط بباقي الأراضي الكردية من جهة وللرقة، عاصمة داعش، من جهة أخرى.
لذلك وبإدخالها قوة عسكرية للعراق، توجه تركيا رسالة واضحة لروسيا وإيران وغيرها من الدول المنخرطة في عملية فيينا السياسية مفادها أن الأتراك لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء عدم الأخذ بخياراتهم الإستراتيجية في فيينا وغيرها، كما أنهم يملكون بعضا من الأدوات تمكنهم من عدم القبول بالخسارة عسكريا في سوريا.
ورغم أن الرد العراقي القوي أوقف تدفق المزيد من عسكر تركيا، فإن المراوغة وعدم القبول بالانسحاب رغم تفنيد العراق لمزاعم التنسيق التركية، تفيد بأن الباب أصبح مفتوحا للتصعيد، وما لجوء العراق لمجلس الأمن ودخول اللاعبَين الروسي والأميركي إلا البداية.
5
ورغم صعوبة التكهن باحتواء الأزمة أو تصاعدها في الوقت الراهن، فإنه بالإمكان قراءة الحقائق التي دلّت عليها الأزمة الراهنة وأثرت عليها بالتالي:
النقطة الأولى هي تزايد كلفة السياسة الخارجية التركية خاصة في منطقة الشرق الأوسط. فقد أدت السياسات التركية إلى إخلال في علاقاتها الدولية والإقليمية خلال السنوات الأخيرة ما أدى بالتالي إلى تزايد كلفة السياسة الخارجية على الصعيد الاقتصادي.
وقد أدى خيار تركيا السوري إلى فقدها للعلاقة الاقتصادية مع سوريا ناهيك عن مضاعفات الأزمة السورية على استقرار تركيا الداخلي. كما أدت المجابهة مع روسيا إلى حدوث خلل في العلاقة الاقتصادية بين البلدين. ومن المرجح أن تؤدي الأزمة الراهنة إلى انحدار في التبادل التجاري بين البلدين ومقاطعة البضائع التركية في العراق. بشكل عام يمكن القول إن انتقال أنقرة من ترجيح القوة الناعمة على القوة الصلبة في السياسة الخارجية على مدى السنوات الأخيرة أدى إلى ازدياد كلفة السياسة الخارجية التركية، وما الأزمة الراهنة إلا استمرار تداعيات خيارات تركيا الإستراتيجية في المنطقة.
النقطة الثانية هي تصاعد الخلاف بين تركيا من جهة وخيارات اللاعب الدولي في المنطقة من جهة أخرى. فقد عبّرت روسيا عن عدم شرعية دخول القوة التركية العراق. ورغم محاولة واشنطن تهدئة الأطراف ودعوتها لمعالجة الأزمة في إطار العلاقات الثنائية، فإنها لم تؤيد الحليف التركي، تماما كما فعلت بالنسبة لتهمة تهريب نفط داعش إلى تركيا.
الواضح أن اللاعب الدولي يعوّل كثيرا على عملية فيينا السياسية ولا تفوته خطوات تركيا ضد هذه العملية برمتها. في هذا الإطار من المتوقع أن تزداد الضغوط الدولية على تركيا لحملها على العمل في إطار عملية فيينا.
ولصعوبة تغيير سياسة تركيا في المرحلة الراهنة من المرجح أن تزداد عزلتها بسبب ردات فعلها الإقليمية أولا، وترجيح اللاعب الدولي للعمل مع الأطراف الإقليمية الأكثر واقعية في التعاطي مع الملفات الإقليمية ثانيا. بذلك يمكن القول إن خيارات تركيا الإستراتيجية تضعها في مجابهة الخيارات الدولية في المنطقة، وتأتي عليها بضغوط هي في غنى عنها في ظل المواجهة مع روسيا.
النقطة الثالثة هي تزايد الالتفاف حول الحكومة العراقية داخليا ودعمها دوليا. فالواضح أن تركيا وضعت نفسها في مواجهة الحكومة العراقية بإدخالها قوة مدرعة دون علم بغداد. وأدت طريقة تعاطي حكومة حيدر العبادي إلى التفاف داخلي حولها برزت مؤشراته بتصويت البرلمان ضد التحرك التركي واعلان القوة الجوية العراقية الاستعداد لتنفيذ الأوامر بعد توجيه العبادي لها وتصويت مجلس محافظة بغداد على مقاطعة البضائع التركية وتلقي تركيا تهديدات من قوى عراقية متعددة. بشكل عام يمكن القول إن تركيا وضعت نفسها في موقع “الغير” للعراقيين وأدى ذلك إلى التفاف أغلبية العراقيين حول الحكومة ضدها بالتالي.
إضافة للنقاط الثلاث، يضع التحرك التركي أنقرة في مواجهة الأطراف الإقليمية الداعمة للحكومة العراقية ضد تهديد داعش و”عقلنة” العيش معه، وخيار تقسيم العراق بالتالي.
فالثنائية بدأت تظهر بوضوح أكبر: الطرف الأول الدافع للتقسيم كخيار أمثل أمام بقاء الأسد في السلطة من جهة، وبقاء النظام السياسي العراقي تحت سيطرة الأغلبية الشيعية من جهة أخرى. والطرف الثاني الرافض للتقسيم تحت أي ظرف.
والواضح أن تركيا بدأت تتحرك في الاتجاه الأول. وما دخولها العراق إلا محاولة لتأطير التقسيم بأولويات أنقرة الإقليمية ضد القوة الكردية أولا وضد النظام السوري ثانيا. لذلك من المرجح أن تدخل تركيا في مواجهات إقليمية أوسع وأعمق من السابق.
حسن أحمديان
المصدر : الجزيرة