منذ أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، في 27 أكتوبر 2019، عن مقتل أبو بكر البغدادي الزعيم المؤسس لتنظيم داعش، تعاقب على قيادة التنظيم ثلاث قيادات تم قتلهم جميعاً في أقل من ثلاث سنوات. فبعد ستة أشهر من مقتل أبو الحسن القرشي في 30 نوفمبر 2022، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أول مايو من العام الجاري (2023)، مقتل زعيم التنظيم المكني أبو الحسين الحسيني القرشي في سوريا خلال عملية نفذتها الاستخبارات التركية. وقال الرئيس التركي في هذا الصدد: “أود أن أشارك الجمهور معلومات جديدة خلال هذا اللقاء.. هناك تطور يُظهِر معركتنا الصارمة ضد التنظيمات الإرهابية.. الاستخبارات التركية كانت تتعقب منذ زمن طويل من يسمى زعيم داعش المعروف بأبو الحسين القرشي.. وهذه هي المرة الأولى التي أعلن فيها هذا الخبر.. خبر القضاء على هذا الشخص خلال عملية نفذها جهاز الاستخبارات التركي في سوريا”.
هذا الإعلان أثار الكثير من التساؤلات حول حقيقة مقتل زعيم داعش بعد ستة أشهر من توليه قيادة التنظيم، فمن هو؟، ولماذا لم يتبن التنظيم خبر مقتله وإعلان قيادة جديدة للتنظيم كما هو متبع منذ مقتل البغدادي في أكتوبر 2019، وبعد مقتل زعيمه السابق أبو إبراهيم القرشي، خلال غارة جوية على شمال إدلب، غرب سوريا، في 3 فبراير 2022، ومقتل أبو الحسن القرشي في 30 نوفمبر 2022؟. ولكن السؤال الأهم مع التسليم بإعلان الرئيس التركي بمقتل زعيم تنظيم داعش أبو الحسين الحسيني القرشي، يكمن حول: من يدير التنظيم منذ هذا الإعلان وحتى الآن أي ما يقرب من ثلاثة أشهر؟
الغموض المقصود
على مدار السنوات العشر الماضية منذ تأسيس ما يسمى الدولة الداعشية المزعومة، تمكنت قوات مكافحة الإرهاب سواء على مستوى التحالف الدولي لمكافحة داعش أو على مستوى الدول الوطنية بالمنطقة من تحقيق العديد من الانتصارات في مواجهة التنظيم بداية من هزيمة التنظيم في الموصل 2017 وسقوط آخر معاقل ارتكازه في الباغوز في مارس 2019، مروراً بمقتل أربعة قيادات له في أقل من 4 سنوات، وانتهاءً بالقضاء على مجمل الرعيل المؤسس للتنظيم من أبو محمد العدناني وصولاً إلى خالد عايد أحمد الجبوري، واستهداف أغلب قيادات الصفين الأول والثاني له.
وقد دفع ذلك التنظيم خلال العامين الماضيين إلى إتباع استراتيجية “الغموض المقصود” في إعلان اسم زعيم التنظيم منذ مقتل أبو إبراهيم الهاشمي القرشي ثاني زعماء التنظيم، في محاولة من جانبه لإخفاء شخصية قائد التنظيم لتفادي عمليات الاستهداف من قبل قوات مكافحة الإرهاب.
وعلى الرغم من ذلك، نجحت قوات مكافحة الإرهاب الدولية والوطنية في استهداف آخر قياديين للتنظيم: أبو الحسن القرشي وأبو الحسين الحسيني القرشي، وهو ما جعل من استراتيجية “الغموض المقصود” للتنظيم بلا فاعلية، ما دفع الأخير إلى اعتماد سياسة “التجاهل القاعدي” في إعلان خبر مقتل زعيمه كما هو قائم خلال الأشهر الثالثة الماضية على غرار استراتيجية تنظيم القاعدة في أعقاب مقتل أيمن الظوهري والتي ترفض إعلان خبر مقتل الظوهري أو اسم زعيم التنظيم الجديد لما يقرب من العام، ما يؤكد أن آخر اسم معلن لزعيم تنظيم داعش سيكون أبو الحسين الحسيني القرشي.
إشراف مزدوج على التنظيم
خلال العام الجاري، استخدم تنظيم داعش سياسة تجميع المكاتب الإدارية المشرفة على أفرع التنظيم المختلفة، والتي يطلق عليها التنظيم مصطلح “الولايات”. فمنذ مقتل أبو سارة العراقي مسئول “الإدارات البعيدة” والرجل الأقوى في التنظيم، اتخذ داعش قراراً بدمج كافة أفرع التنظيم في أفريقيا: غرب أفريقيا والساحل ووسط أفريقيا وموزمبيق والصومال تحت إشراف مكتب “الفرقان”، والذي يضم فرع التنظيم في (نيجيريا، وتشاد، والكاميرون ودول الجوار)، و”ولاية الساحل”، بالإضافة لتبعية مكتب “الأنفال” والذي يضم (النيجر، ومالي، وبوركينافاسو، ودول الجوار)، و”ولاية وسط أفريقيا”، ومكتب “الكرار” والذي يضم (الصومال، والكونغو، وموزمبيق، ودول الجوار)، لمكتب “الفرقان”، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في آسيا بضم فرع التنظيم في تركيا إلى مكتب “الأرض المباركة”، والذي أصبح يضم أفرع التنظيم في (سوريا، وتركيا، وبعض دول الجوار).
هذا التوجه نفسه يتكرر حالياً، عبر محاولة ضم مكتب “الأرض المباركة”، الذي يضم أفرع التنظيم في (سوريا، وتركيا، وبعض دول الجوار)، وفرع التنظيم في (الهند وأفغانستان وشرق آسيا)، تحت إشراف مكتب “بلاد الرافدين” (العراق)، وهو ما يجعل من قيادة تنظيم داعش مزدوجة الرؤوس: قيادة للتنظيم في أفريقيا، وقيادة للتنظيم في آسيا، كبديل عن الشكل التنظيمي التقليدي المتبع للتنظيم منذ إعلان نشأته في عام 2014.
من يدير داعش حالياً؟
على الرغم من تبني هذه الاستراتيجية، إلا أن عملية اتخاذ القرار المركزي وخصوصاً على مستوى ديوان الإعلام المركزي للتنظيم، تخضع لقيادة مكتب “بلاد الرافدين”، وهو ما يجعل عبدالله مكي مصلح مهدي الرفيعي (أبو خديجة) أمير مكتب “بلاد الرافدين” هو القائم بأعمال قيادة التنظيم.
وهنا، فإن ذلك يتناقض مع بعض التقارير الإعلامية التي زعمت استهدافه في مارس من العام الجاري، في التوقيت نفسه الذي أعلن فيه عن مقتل أبو سارة العراقي. إلا أن كافة الشواهد تؤكد أن الشخص الذي قتل مع أبو سارة العراقي هو المرافق وليس عبدالله مكي “أبو خديجة”، وهو ما أكدته وزارة الخارجية الأمريكية، في 9 يونيو من العام الجاري، بإعلان وزير الخارجية انتوني بلينكن في الاجتماع الوزاري لمكافحة داعش عن إدراج اثنين من قيادات التنظيم في القائمة الخاصة بالإرهابيين، وهما: عبد الله مكي مصلح “أبو خديجة” أمير مكتب “بلاد الرافدين” في تنظيم داعش، وأبو بكر محمد علي الميناكي، على نحو لا يؤكد فقط خطأ التقارير التي أشارت إلى مقتله، وإنما يجعل أبو خديجة هو الرجل الأقوى في التنظيم بعد مقتل أبو سارة العراقي.
ويأتي أبو مصعب البرناوي في المرتبة الثانية من حيث النفوذ والقوة داخل بنية التنظيم المركزي والرجل الأقوى داخل القارة الأفريقية والمشرف على كافة أفرع ومكاتب تنظيم داعش في أفريقيا. ولكن احتمال تولي أبو مصعب البرناوي قيادة التنظيم يبقى ضعيفاً لكونه نيجيرياً وليس من أصول عربية، ما يرجح من كفة عبدالله مكي “أبو خديجة”، كونه المشرف الحالي على القيادة المركزية للتنظيم، إلى حين حسم التنظيم استراتيجية الإعلان عن اسم زعيمه الجديد.
في المجمل، يمر تنظيم داعش بمرحلة جديدة من الارتباك التنظيمي يضاف إليها مرحلة من الإنهاك على المستوى البشري، هى الأقوى منذ نشأة التنظيم في عام 2014، ما دفعه إلى تبني استراتيجية تنظيم القاعدة على مستوى الإدارة التنظيمية والعودة للصحراء والدخول في فترة الكمون، وهو ما يجعل من الأشهر القادمة في عمليات مكافحة الإرهاب نقطة فارقة في مسارات التنظيم المحتملة من حيث البقاء والنمو والتمدد أو التراجع والاختفاء.
مركز الأهرام للدراسات