حركة رقاص الساعة لا تزال طريقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إدارة السياسة، مرة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار بالتناوب. وهو ليس في اليمين ولا في اليسار ولا في الوسط، بل حيث يقود التاريخ إلى المستقبل. تاريخ تركيا من السلاجقة إلى العثمانيين وجمهورية أتاتورك ومعاهدة لوزان والميثاق الملي واتفاق مونترو حول المضائق، ومستقبل الإسلام السياسي الحاكم نظاماً علمانياً والدور الشخصي لأردوغان. تورغوت أوزال كان مثاله، وإن كان معلمه أربكان، وحليفه ثم خصمه الحالي غولن. الأكاديمي المستشار ثم وزير الخارجية ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو صديقه ثم خصمه، أقنعه بسياسة “صفر مشكلات” مع الجميع ولا سيما الجيران في الشرق، ونقل تركيا من “الجسر إلى مركز العمق الاستراتيجي”.
ثم جاءت مرحلة “الربيع العربي” والفرصة التي لاحت أمام تصدر “الإخوان المسلمين” للمشهد، فقام أردوغان بالحركة المعاكسة في رقاص الساعة: مشكلات مع سوريا ومصر والعراق والسعودية والإمارات العربية. تهجم على أوروبا، وبالذات على ألمانيا وفرنسا، وابتعد من التفاوض على دخول الاتحاد الأوروبي. خلافات مع أميركا، وتقارب مع روسيا وشراء صواريخ “إس 400” منها مع أن تركيا دولة أطلسية.
واليوم حركة أخرى في رقاص الساعة، عودة لسياسة “صفر مشكلات”. مصالحة مع مصر والسعودية والإمارات والعراق وإسرائيل، وسعي إلى علاقات مع سوريا، وموافقة على دخول السويد إلى “الناتو”، ومطالبة بمعاودة التفاوض على دخول الاتحاد الأوروبي، وإبراز أهمية الدور التركي والموقع في الحلف الأطلسي، وإشارات إلى التغيير في الولاية الرئاسية الأخيرة له.
عشية الانتخابات كانت التحديات أمام أردوغان هائلة: ليرة تنهار في مقابل الدولار، واقتصاد في أزمة عميقة، ودين عام فلكي، وستة أحزاب معارضة تتكتل ضده، وزلزال ضرب تركيا وأظهر ضعف الأداء الحكومي في مواجهة تحديات الكارثة، لكن الودائع الخليجية في المصرف المركزي التركي قبل الانتخابات أسهمت في تجنيب أردوغان الخسارة. أما رحلة “100 مليار دولار” إلى السعودية والإمارات وقطر، فإنها جاءت علاجاً سريعاً لوضع الليرة وعودة النهوض الاقتصادي، ضمن مسار من “الشراكات الاستراتيجية” مع دول الخليج، فالمستقبل واعد بالنسبة إلى الاستثمارات التركية في الخليج والاستثمارات الخليجية في تركيا.
التحول التركي الجديد اقتضى له أمران: أولهما توظيف “الأهمية الجيو استراتيجية” لتركيا في الغرب الأوروبي والأميركي، وثانيهما بيع أصول الدولة من شركات عربية وتركية، فضلاً عن زيادة 20 في المئة على الضرائب. أما الرهان على مشروع “طريق التنمية” الذي تعمل له حكومة العراق، فإنه مشروع مفيد جداً لتركيا التي ستكون طريق البضائع من أوروبا وإليها، بما يبدو البديل من قناة السويس، والمتعايش مع مشروع “الحزام والطريق” الصيني.
لكن التحول يحتاج إلى عناية فائقة، فلا من السهل على أردوغان الانتقال من سياسة “القوة الخشنة” إلى سياسة “القوة الناعمة”، وسط تحديات كبيرة. ولا من الممكن أن تصمت الدول العربية على الاستئثار التركي بالحصة الأكبر من نهري دجلة والفرات وتقنين الكميات التي تصل إلى سوريا والعراق، وسط حصاد أردوغان لمال النفط العربي وفرض الجفاف على عرب الماء.
في حديث مع مجلة “المجلة” السعودية قال أحمد داوود أوغلو إن أردوغان أجرى “تحولاً من نظام برلماني مزيف إلى نظام رئاسي مزيف”، فكل السلطة في يده، خلافاً لرئيس أقوى دولة في نظام رئاسي وأقوى اقتصاد خاضع لآليات الضبط والتوازن في الكونغرس والقضاء.
المحلل السياسي التركي كمال أردامول يرى أن “الدبلوماسية لا تدار بلا أوراق قوة، وسياسة تركيا الخارجية تقدم الفرص بل الحجج الدبلوماسية القوية المستندة إلى أوراق رابحة”. ولا شيء يمنع أردوغان، وهو في الولاية الرئاسية الأخيرة، من أن يكمل التحول الجديد من دون خوف، لكن مشكلته أنه يريد البقاء في السلطة عبر وكلاء عنه. والسلطة تفرض السير في الاتجاه المعاكس أحياناً، بحسب المصالح الحزبية والشخصية. ففي تركيا “أمران لا تعرفهما: يوم موتك ويوم الانتخابات” بحسب داوود أوغلو، والسؤال الذي يتخوف كثيرون من الجواب عنه هو: متى تأتي الحركة الأخرى لرقاص الساعة؟
اندبندت عربي