مَن يعتقد أن العراق سيسترجع حصته من المياه التي استولت عليها دولة المنبع تركيا من خلال حوار هادئ مع رئيسها فهو إما أن يكون ساذجا أو واهما وفي الحالين فإنه بعيد عن إدراك حقيقة أن رجب طيب أردوغان جاء إلى بغداد ليبيع الماء.
فالرجل الذي باع اللاجئين السوريين إلى أوروبا وقبض الثمن علنا لا يمكن أن يُفرغ السدود التركية أو يتوقف عن بناء سدود جديدة من أجل ألاّ تموت الحياة البيئية في أهوار العراق، ومن أجل ألاّ يتحول نهرا العراق التاريخيان إلى ساقيتين، ومن أجل ألاّ تتحول أرض السواد إلى صحراء جرداء تنضم إلى محيطها.
يجيء أردوغان ليبيع الماء إلى العراقيين.
محمد شياع السوداني لن يغامر في تعكير مزاج ضيفه بحوار عبثي، وهو يعرف مسبقا أن دولته لا تملك القدرة على فرض شروطها على الطرف الآخر
لن ترفض إيران من حيث المبدأ وصول العراق إلى تلك الدرجة من الهوان، فهي الأخرى حولت مجرى الأنهار التي تنبع من أراضيها بحيث لم تعد تصبّ في نهر دجلة كما كان يحدث في الماضي. كل الأنهار العراقية الصغيرة التي كانت تتغذى على المياه القادمة من إيران صارت اليوم مجرد ذكرى.
يوم كان العراق قويا لم يكن الحال كذلك.
كان العراقيون يشربون الماء مباشرة من الأنابيب ولم تكن قناني المياه المعلبة معروفة أو متداولة. وهو ما يؤكد أن الدولتين لم تلتزما بالقوانين الدولية في توزيع حصص المياه بين دولة المنبع ودولة المصب إلا لأنهما لم تكونا راغبتين في الدخول في حروب لا رجاء في الفوز بها.
كان العراقيون يتمتعون بإرثهم من المياه بسبب قوة دولتهم، أما اليوم فإنهم فقدوا وإلى الأبد ذلك الامتياز. وإذا ما كان رئيس الوزراء العراقي قد أوحى بأنه سيضع ملف المياه على طاولة المفاوضات مع الرئيس التركي فإن ذلك لن يحدث أبدا في ظل عدم اكتراث الحكومات العراقية المتتالية بمسألة شحة المياه التي تعود إلى عشرين سنة مضت.
لذلك فإن محمد شياع السوداني لن يغامر في تعكير مزاج ضيفه بحوار عبثي، وهو يعرف مسبقا أن دولته لا تملك القدرة على فرض شروطها على الطرف الآخر.
لقد اختل ميزان القوى في المنطقة معلنا خروج العراق من المعادلة السياسية الإقليمية ولم يعد في إمكانه أن يقول كلمة حتى في ما يتعلق بمصالحه، وهو اليوم لا يملك سوى الرضوخ لإرادة الآخرين مهما كانت ظالمة. فلا يتعلق تهميش العراق بدوره العربي والإقليمي فحسب بل وأيضا من موقفه من مصالحه الحيوية التي تقف مسألة المياه في مقدمتها وهي مسألة مصيرية.
عن أيّ حقوق نتحدث؟ العراق بلد مستباح إيرانيا. يكفيه هوانا أن إيران تستبيحه بالاستعانة بأبنائه الذين لو قلت إنهم مغرر بهم ومضللون لخنت الحقيقة
ولأن أردوغان رجل سوق مثلما هو داعية إخواني فإنه سيتمكن من احتواء الحوار مع سياسيين هواة وضعتهم إيران في السلطة وهي تعرف أنه ليس لديهم مشروع وطني ولا برنامج سياسي للبدء ببناء عراق قوي أو على الأقل استعادة شيء من ذلك العراق الذي كان قادرا على الدفاع عن مصالحه.
بالمقلوب يمكن النظر إلى ذلك الأمر، فسياسيو المرحلة العراقيون يفكرون في كل شيء إلا مصالح البلد، وهم الذين أوكلت لهم مهمة تصريف شؤون مواطنيه.
ولأنه عريق في إخوانيته فإنه سيكون قادرا على فهم عقلية سياسيين لا يحبون وطنهم ولا ينظرون برفعة وسموّ إلى مستقبله. وبالرغم من كل الملاحظات السلبية التي تتعلق بأردوغان فإن الرجل إن لم يقف وراء المعجزة الاقتصادية التي شهدتها بلاده فإنه على الأقل حافظ عليها بالرغم من أن عثراته السياسية قد ألقت بظلالها على الحياة الاقتصادية وبالأخص فيما يتعلق بسعر صرف الليرة، غير أنه كان بإمكان انتعاش السياحة في تركيا أن ينقذ كل شيء.
لن يلقي أردوغان درسا في السياسة على حكام العراق بقدر ما سيلقنهم درسا في الأخلاق الوطنية لن ينفعهم. لن يضع تركيا أمامهم على الخارطة التي لن ينظر إليها بل سيضعها فوق القانون الذي لو كانوا احترموه لفكروا بقدرتهم على الحفاظ على حقوقهم.
ولكن عن أيّ حقوق نتحدث؟ العراق بلد مستباح إيرانيا. يكفيه هوانا أن إيران تستبيحه بالاستعانة بأبنائه الذين لو قلت إنهم مغرر بهم ومضللون لخنت الحقيقة. لذلك أعتقد أن أردوغان لن يشعر بالراحة في بغداد حين يلتقي حكام العراق، فبعد جولة في الخليج يكون فيها قد اطلع على معنى الوطنية ومعنى أن يحب الحاكم وطنه وشعبه، سيكون صعبا عليه أن يلتقي حكاما يعرف أنهم الخطأ الذي لا يستحقه جاره الجنوبي.
العرب