تُواجه العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية راهناً توتراً لم تشهده منذ عقود، في ظل حكومة إسرائيلية، برئاسة بنيامين نتنياهو، والتي يصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن، بأنها الأكثر يمينية وتطرفاً منذ عهد جولدا مائير، حيث تتبنى، وفقاً للرؤية الأمريكية، بعض السياسات الداخلية والخارجية، التي من شأنها التأثير على قوة وروابط العلاقات التاريخية، والقيم والمبادئ التي يُؤسس عليها التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل منذ أكثر من سبعة عقود.
فعلى عكس الإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية السابقة التي كانت تُقدم لرؤساء الحكومات الإسرائيلية الجديدة حيال انتخابها دعوة لزيارة البيت الأبيض؛ للتعبير عن دفء وعمق العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، تأخر الرئيس جو بايدن في توجيه الدعوة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، لزيارة واشنطن. فبعد أكثر من سبعة أشهر على تشكيلها في ديسمبر من العام الماضي، وجه بايدن الدعوة لنتنياهو لزيارة الولايات المتحدة في 17 يوليو الجاري (2023) خلال اتصال هاتفي.
قضايا خلافية
تتعدد القضايا الخلافية بين إدارة الرئيس جو بايدن والحكومة الإسرائيلية اليمينية التي أحدثت فتوراً غير معهود كثيراً في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية. وعلى الرغم من عمل المسئولين الأمريكيين والإسرائيليين على حلها مثل سماح تل أبيب للمواطنين الأمريكيين من أصول فلسطينية بدخول أراضيها بدون تأشيرات، فإنه لا تزال هناك قضايا خلافية متأزمة بين البلدين، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- رفض أمريكي للإصلاحات القضائية الإسرائيلية: ترفض الإدارة الديمقراطية اقتراح حكومة نتنياهو التي تضم أحزباً يمينية ودينية متشددة، للحد من صلاحيات المحكمة العليا، التي تثير انقساماً حاداً واحتجاجات غير معهودة في إسرائيل، تحت ذريعة أن التغييرات ضرورية لضمان توازن أفضل للسلطات، بينما يرى المعارضون الإسرائيليون لها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الملاحق قضائياً في تهم فساد يسعى لإقرار تلك الإصلاحات بهدف إلغاء أحكام محتملة ضده. وقد انتقد البيت الأبيض في 24 يوليو الجاري إقرار الكنيست الإسرائيلي بأغلبية ضئيلة بنداً رئيسياً في خطة الإصلاح القضائي المثيرة للجدل منذ أشهر.
2- اتهام الحكومة اليمينية بـ”تدمير الديمقراطية”: كثيراً ما كانت الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية تروج لإسرائيل على أنها “واحة الديمقراطية” في منطقة الشرق الأوسط التي تفتقد إليها، وأن تلك الديمقراطية التي تتشارك فيها تل أبيب مع واشنطن تعمل على توطيد العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية. ولذلك فإن الإدارة الأمريكية – حسبما أشار توماس فريدمان في مقاله بصحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “بايدن فقط يمكنه إنقاذ إسرائيل الآن” في 23 يوليو الجاري، ترى أن تقويض الحكومة الإسرائيلية اليمنية الديمقراطية الإسرائيلية سيهدم شيئاً ما في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ربما لم تنجح تل أبيب في استعادتها مجدداً.
3- التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة: تُثير خطة الحكومة الإسرائيلية، التي تضم أعضاء قوميين متطرفين، لتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في جميع أنحاء الضفة الغربية، وتغيير الوضع الراهن في الأماكن المقدسة، في وقت يتصاعد فيه العنف الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، غضب الإدارة الديمقراطية، لكونها تشكل عائقاً أمام حل الدولتين الذي تتبناه الإدارة لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وفي مؤشر على الغضب الأمريكي من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، أخطرت الإدارة الأمريكية إسرائيل في أواخر يونيو الماضي بأنها ستعيد فرض حظر، رفعته إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في عام 2020، على استخدام تمويل دافعي الضرائب الأمريكيين في أي مشاريع بحث وتطوير أو تعاون علمي تُجرى في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، والقدس الشرقية، ومرتفعات الجولان.
4- زيارة نتنياهو للبيت الأبيض: في ظل تعدد القضايا الخلافية بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية اليمينية، أضحت زيارة نتنياهو للبيت الأبيض إحدى القضايا الخلافية، حيث يتوقع بعض المراقبين الأمريكيين أنه مع استمرار التوتر في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، ومضي رئيس الوزراء الإسرائيلي في مخططاته التي تهدد الديمقراطية الإسرائيلية، فإن الرئيس الأمريكي قد لا يقابل رئيس نتنياهو في البيت الأبيض، ولكن قد يكون اللقاء على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية في سبتمبر القادم، وهو ما لا يمثل إنجازاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ولكنه يحمل نوعاً من عدم التقدير الأمريكي للحكومة الإسرائيلية الحالية ورئيسها. ويشيرون إلى أنه إذا طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي حلاً وسطاً للمعارضة بشأن إجراءات الإصلاح القضائي فيمكن ترقية الاجتماع إلى زيارة للبيت الأبيض.
تداعيات أمريكية
إن الخلافات الأمريكية-الإسرائيلية المتصاعدة راهناً سيكون لها جملة من التداعيات على الداخل الأمريكي، ولا سيما مع بدء الحملات الانتخابية للحزبين الجمهوري والديمقراطي للانتخابات الرئاسية المقرر لها في نوفمبر 2024، وتتمثل أبرز تلك التداعيات فيما يلي:
1- انقسام حزبي حول دعم إسرائيل: تشهد الولايات المتحدة الأمريكية راهناً حالة من الانقسام الحزبي والسياسي حول العديد من القضايا الداخلية، ولا سيما قضية الإنفاق الحكومي والضرائب، وقد انعكس هذا الانقسام على موقف الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول دعم إسرائيل، فبينما يدعو عديد من الديمقراطيين الإدارة الأمريكية إلى تبني موقف أكثر حسماً في إثارة المخاوف الأمريكية بشأن حكومة نتنياهو وانتقاد الديمقراطيين التقدميين بشدة السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والحكومة الإسرائيلية اليمينية، فإن الحزب الجمهوري يروج لنفسه على أنه الطرف الأمريكي الوحيد الذي يدعم إسرائيل بحزم في مواجهات “الأخطار الوجودية” لإسرائيل التي تتراوح من الإرهاب إلى تهديدات إيران نووية. وكثيراً ما يعتبر الانتقادات الديمقراطية للسياسات الإسرائيلية بأنها “معادية للسامية”، ويعمل الجمهوريون على تسييس مواقف الديمقراطيين من السياسات الإسرائيلية.
وقد كشفت نتائج لاستطلاع للرأي لمؤسسة “جالوب” في 16 مارس الماضي عن الانقسام الحزبي حول دعم إسرائيل، أن هناك تزايداً في دعم الديمقراطيين للفلسطينيين في مقابل انخفاض نسب تأييدهم للإسرائيليين، والتي وصلت إلى 49٪ مقابل 38٪ على الترتيب. ولكن لا تزال نسب تأييد الجمهوريين لإسرائيل مرتفعة، حيث وصلت إلى 78٪ في مقابل تأييد 11٪ للفلسطينيين.
2- استهداف المرشحين الجمهوريين لبايدن: يستغل المرشحون الجمهوريون الذين يتنافسون على الفوز ببطاقة الحزب للانتخابات الرئاسية القادمة، ولا سيما نائب الرئيس السابق مايك بنس، وحاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، انتقادات الرئيس الأمريكي جو بايدن، الساعي للفوز بفترة رئاسية ثانية، للحكومة الإسرائيلية لتصويره على أنه غير داعم لإسرائيل، وهو ما قد يفقده دعم الأمريكيين اليهود، الذين يعدون قوة تصويتية مهمة في الانتخابات الرئاسية، ويُنفِّر المانحين اليهود، أكبر المتبرعين في الانتخابات الأمريكية، من تقديم التمويل لحملة إعادة انتخابه.
3- تصاعد التيار الداعي لوقف المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل: مع تنامي القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتبني الأخيرة سياسات تُعرِّض القيم والمصالح والأمن القومي الأمريكي للخطر، ظهر تيار داخل واشنطن يدعو إلى وقف المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل وألا تكون “شيكاً على بياض” في وقت أضحت الحكومة الإسرائيلية تعمل فيه ضد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية علناً. فقد دعا السفيران الأمريكيان السابقان لدى إسرائيل دان كورتزر ومارتن إنديك لخفض المساعدات العسكرية لتل أبيب؛ لأنها لا توفر أي نفوذ أو تأثير للولايات المتحدة الأمريكية على القرارات الإسرائيلية. ويدعوان لنهج جديد للعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لا يركز على المساعدات الخارجية. فقد أشار نيك كريستوف، أحد كتاب الأعمدة الأكثر نفوذاً في الدوائر الليبرالية، في مقاله المعنون بـ”مع إسرائيل، حان الوقت للبدء في مناقشة ما لا يمكن الحديث عنه” بصحيفة “نيويورك تايمز” في 22 يوليو الجاري، إلى ما قاله كورتزر له بأن استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل يوفر مليارات الدولار التي تنفقها الحكومات الإسرائيلية على السياسات التي تعارضها الولايات المتحدة الأمريكية مثل التوسع في بناء المستوطنات التي تُقوِّض خيار حل الدولتين الذي تتبناه الإدارة الأمريكية.
لكن الإدارة الأمريكية تعارض تلك الدعوات، حيث أعلنت وزارة الخارجية في 25 يوليو الجاري أنه لن يكون هناك أي قطع أو توقف للمساعدات العسكرية لإسرائيل بعد تصديق الحكومة الإسرائيلية على التغييرات القضائية الأوّلية التي يخشى المنتقدون أن تُعرِّض استقلال المحاكم للخطر. فقد أكد نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية فيدانت باتيل للصحفيين على أن عدم قطع أو توقف للمساعدات العسكرية يأتي في إطار الالتزام الأمريكي تجاه إسرائيل وأمنها.
4- مزيد من الانتقادات للإدارة الأمريكية: رغم انتقادات عديد من مسئولي الإدارة الأمريكية، وفي مقدمتهم الرئيس جو بايدن، لتوجهات الحكومة الإسرائيلية اليمينية، فإنها تتعرض لانتقادات متعددة لإخفاقها في ردع الحكومة الإسرائيلية عن اتخاذ سياسات تهدد الديمقراطية الإسرائيلية، وسياساتها العدوانية المتزايدة ضد الشعب الفلسطيني، وهو ما دفع أعضاء الحكومة الإسرائيلية للاقتناع بأنه لن تكون هناك تكلفة لعدم الانصياع لمطالب وضغوط الإدارة الأمريكية، ولا سيما مع استمرار الدعم الرسمي والشعبي لإسرائيل رغم العديد من الإجراءات التي تقوم بها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة داخلياً وخارجياً.
حدود الدور الأمريكي
تسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى الموازنة بين التأكيد على الدعم الأمريكي اللا متناهي لإسرائيل، كحليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وانتقاد الحكومة الإسرائيلية الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، ولا سيما بعد تصميم بنيامين نتنياهو على اتخاذ إجراءات للإصلاح القضائي الإسرائيلي التي أثارت موجة غضب شعبي إسرائيلي، ورسمي أمريكي؛ لأنها – بحسب تصريحات الإدارة الأمريكية – “تُقوِّض القيم الديمقراطية المشتركة بين البلدين”، في وقت وضع فيه جو بايدن منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض الدفاع عن الديمقراطية في الداخل والخارج على أجندة إدارته.
فرغم تعدد القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل راهناً، وتحذير فريدمان في مقاله السابق الإشارة إليه من أن جو بايدن قد يكون آخر رئيس ديمقراطي داعم لإسرائيل، فإن الإدارة الأمريكية تؤكد على عمق العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. فقد قال الرئيس الأمريكي في تغريدة على حسابه بموقع “تويتر” في 20 يوليو الجاري أنه يتطلع إلى تعزيز الشراكة الأمريكية-الإسرائيلية، والعمل على مواجهة التحديات المشتركة. وقد ذكر خلال استقباله نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، بالبيت الأبيض في 18 يوليو الجاري، أن الصداقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل “غير قابلة للكسر”.
ولا يسعى الرئيس بايدن الذي أعلن ترشحه لفترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر من العام القادم إلى خوض معركة مكلفة سياسياً مع نتنياهو في وقت تتراجع فيه نسب تأييده بين الناخبين الأمريكيين، والانتقادات التي توجه له داخلياً، ولذلك كانت تصريحات مسئولي الإدارة المنتقدة للسياسات الإسرائيلية مرتبطة باستمرار الالتزام الأمريكي القوي بدعم تل أبيب. فضلاً عن أن بيان الإدارة الأمريكية للتعليق على تصويت الكنيست على بند رئيسي في خطة الإصلاح القضائي المثيرة للجدل لم يتضمن أي تلميح إلى أن الحكومة الإسرائيلية يمكن أن تواجه عواقب عملية، وهو الأمر الذي يكشف عن حدود قدرة بايدن على كبح جماح الحكومة الإسرائيلية اليمينية.
مركز الأهرام للدراسات