مع بداية الشهر الحالي بدأت الصين في تقييد صادراتها من أهم المعادن النادرة في العالم الغاليوم والجيرانيوم وذلك بإخضاع الصادرات لنظام «التراخيص» الحكومية. ويتم منح هذه التراخيص بعد فحص طلبات الاستيراد المقدمة من شركات أجنبية. هذا النظام يمنح الحكومة الصينية صلاحيات التحكم في مسارات تجارة المعادن النادرة، وحلقات الإمدادات المختلفة في الصناعات التي تستخدم هذه المعادن على مستوى العالم. ومن المرجح أن تستمر الصادرات للدول «الصديقة» على حالها، وأن يتم تقييدها لغيرها من الدول حسب كل حالة خصوصا الولايات المتحدة والدول المشتركة معها في حربها الاقتصادية. القرار الصيني جاء ردا على سلسلة من القرارات الأمريكية بفرض قيود على الاستثمار والتجارة والتمويل مع الصين. ولا يقتصر سريان تلك الإجراءات على الشركات الأمريكية فقط، وإنما تضغط الولايات المتحدة بقوة على شركائها من أجل الالتزام بها، كما يحدث حاليا مع قادة صناعات التكنولوجيا في العالم مثل هولندا واليابان.
وقد تصاعدت الحرب التكنولوجية والتجارية والمالية بين الولايات المتحدة والصين في الأيام الأخيرة، وأصدر الرئيس الأمريكي بايدن يوم الأربعاء الماضي 9 آب/أغسطس، أمرا تنفيذيا بفرض قيود تحظر على الشركات الأمريكية الاستثمار في قطاعات تكنولوجية حساسة أو تخضعه لقيود حكومية. وتشمل هذه القطاعات أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية المتقدمة لأجهزة الكمبيوتر، وتكنولوجيا الكوانتوم، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والحرب السيبرانية، والإلكترونيات الدقيقة. وأعلن بايدن في خطاب للكونغرس «حالة الطوارئ» على المستوى القومي في هذا الخصوص، وكلف وزارة الخزانة الأمريكية باتخاذ الإجراءات اللازمة.
ومن المرجح أن تترك هذه الإجراءات الانتقامية المتبادلة تأثيرا قويا على الأداء الاقتصادي على كل من البلدين، وعلى العالم كله، وهو ما يمكن أن يعيد صياغة التوازنات الجيوسياسية العالمية، حيث تواجه الصين خطر الانكماش، وتتعرض أمريكا لتدهور مكانتها الاقتصادية. وتبرهن مؤشرات التجارة والاستثمار، ومعدلات النمو على أن العالم كله يتعرض لأضرار تصل إلى حد تهديد فرص النمو الممكنة، وإرباك النظام الاقتصادي العالمي، وتقويض قواعد التجارة الحرة والتعاون المتبادل، وخلق أسوار جديدة من شأنها تقسيم العالم إلى كتلتين كبيرتين أو أكثر، تتمحور حول كل من الولايات المتحدة والصين، وربما أقطاب أخرى أصغر. يحدث هذا في الوقت الذي ما يزال فيه الاقتصاد العالمي يعاني من تداعيات جائحة كورونا، وتأثير الحرب الأوكرانية، وتفكك حلقات سلاسل الإنتاج العالمية بسبب التنافس الجيوسياسي الذي دخل إلى مرحلة عدائية وصلت إلى إشعال حرب بالوكالة ضد روسيا، وتستهدف الآن إشعال حرب أخرى في بحر الصين الجنوبي بتحريض الفلبين على التحرش بالصين مباشرة.
سلاح المعادن النادرة
الصين ردت على قرارات فرض قيود على وارداتها من الرقائق الإلكترونية، بإغلاق سوق الرقائق المحلية في وجه الشركات الأمريكية، حيث قررت في ايار/مايو الماضي منع الشركات الصينية من استيراد رقائق مصنوعة بواسطة شركة «مايكرون» الأمريكية. ثم جاء الرد الكبير في الثالث من تموز/يوليو بإعلان فرض تراخيص رسمية على صادرات اثنين من أهم المعادن النادرة، هما الغاليوم والجيرانيوم وهما من أهم المعادن التي تدخل في صناعة البطاريات الكهربائية واللمبات الليد وبعض مكونات الصناعات الدفاعية، ومنها الصواريخ والأسلحة الفرط صوتية.
وتتمتع الصين بوضع احتكاري في سوق المعادن النادرة في العالم بنسبة سيطرة تتراوح بين أكثر من 95 في المئة إلى حوالي 30 في المئة، في قائمة تضم أهم 50 معدنا نادرا، منها الكوبالت والليثيوم، والنيكل. كما تشمل القائمة أيضا الغاليوم والجيرانيوم. هذه المعادن لا غنى عنها في صناعات تكنولوجية حديثة، تبدأ من لمبات الليد الكهربائية وأفران الميكروويف، إلى خلايا الطاقة الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية وأجهزة الاستشعار الخاصة بالرادارات العسكرية المتطورة، إلى تكنولوجيا الاتصالات المتطورة وتكنولوجيا الكوانتوم. ونظرا لأن التكنولوجيا الحديثة تميل إلى استخدام مكونات موفرة للطاقة أخف وزنا، وأسرع توصيلا، وأكثر كفاءة من ناحية تقليل الفاقد من بطاريات تخزين الطاقة إلى أجهزة إطلاق التيار الكهربائي للاستخدام النهائي، فإن المواد والمعادن النادرة التي تتمتع بهذه الخصائص، تتحكم فيها الصين، ما يزيد من خطورة الاستمرار في حرب تكنولوجية، تملك هي فيها مفاتيح التسيير الحقيقية التي لا تملكها الولايات المتحدة والقوى الصناعية الغربية الأخرى مثل بريطانيا وألمانيا وهولندا واليابان. ومع أن هناك خامات بديلة يمكن إنتاجها أو تخليقها لتحقيق الغرض نفسه بدلا من المعادن النادرة، إلا أنها أقل كفاءة وأكثر تكلفة.
ويتم تطوير صناعة الغاليوم في الصين من خلال استخلاص المعدن كناتج ثانوي من استخدام خام البوكسيت في تصنيع الألومنيوم. هذه العملية معقدة ومكلفة، لكن الصناعة الصينية نجحت في إجراء عملية التعدين بتكلفة زهيدة، مما أدى إلى إخراج المنتجين الآخرين من السوق لانعدام الكفاءة. ويقول خبراء السوق أن تكنولوجيا استخدام الغاليوم والجيرانيوم في تطوير صناعات السيارات الكهربائية والرقائق الإلكترونية ما تزال حتى الآن في مرحلتها المبكرة، وإنها قد تحدث ثورة واسعة النطاق في مجالات الطاقة الجديدة والرقائق الإلكترونية، خصوصا في الجانب التكنولوجي و جانب التكلفة. كما تستخدم هذه المعادن على نطاق واسع في تطوير أسلحة جديدة مثل الصواريخ والاسلحة الفرط صوتية.
الحرب الاقتصادية الأمريكية
الحرب الاقتصادية هي العنوان الأكبر للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين منذ عام 2018. ومع أن الهدف النهائي لتلك الحرب هو تعطيل الصعود الاقتصادي للصين، إلا أن الولايات المتحدة تعمل أيضا على إنهاك القوة العسكرية الصينية في مشاحنات إقليمية خصوصا مع جيرانها حول بحر الصين الجنوبي الجنوبي والشرقي، وإرباك سياساتها في منطقة جنوب شرق آسيا. ومع أن الصين تنبهت إلى خطورة الحرب الاقتصادية مبكرا، وشرعت في زيادة الطلب المحلي، لتعويض النقص المحتمل في الطلب الخارجي على المنتجات الصينية، إلا أن الاضطرابات الاقتصادية العالمية التي ترافقت مع انتشار جائحة كورونا، وتداعياتها، ثم الحرب الأوكرانية بعدها، أدت عمليا إلى تخفيض النمو العالمي، ومن ثم تخفيض الطلب على المنتجات الصينية بمعدلات مضاعفة. ولهذا فإن الصين بدأت تعاني من أعراض تباطؤ النمو الاقتصادي، خصوصا في القطاعات التي يقودها الطلب الخارجي. وقد أظهرت أرقام التجارة الخارجية للصين أن الحرب الاقتصادية تعض فعلا، وأن السياسة الاقتصادية لتشجيع الطلب المحلي ليست كافية لتعويض الانخفاض في الطلب الخارجي (التصدير). كما أن الصين تحتاج أيضا إلى تعزيز وجودها في الأسواق الخارجية التي توجد فيها، والعمل على فتح أسواق جديدة خصوصا في أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
وقد وقع الرئيس الأمريكي يوم الأربعاء الماضي، أمرا تنفيذيا يحظر على المؤسسات الأمريكية إقامة استثمارات جديدة في بعض مجالات التكنولوجية المتقدمة في الصين، منها الرقائق الإلكترونية لأجهزة الكمبيوتر. كما يفرض ضرورة إخطار الحكومة الأمريكية في حال القيام بأي استثمارات جديدة في القطاعات التكنولوجية الأخرى. ويفوض القرار وزارة الخزانة تنفيذ كل الإجراءات اللازمة لمنع أو تقييد الاستثمارات الأمريكية في ثلاثة قطاعات تكنولوجية رئيسية هي الرقائق وأشباه الموصلات، والإلكترونيات الدقيقة، وتكنولوجيا الكوانتوم وأنظمة الذكاء الاصطناعي. وتهدف هذه الإجراءات إلى منع انتقال الأموال والخبرات التكنولوجية إلى الصين.
وقال بايدن في خطاب إلى الكونغرس إنه يعلن «حال الطوارئ» على مستوى الولايات المتحدة لمواجهة التقدم الذي تحرزه الصين ودول أخرى في مجالات تكنولوجية حساسة في المجالات العسكرية، والتجسس، وقدرات الاختراق المعلوماتية أو الهجمات السبرانية. وقد ردت الصين بأنها تشعر بقلق عميق نتيجة صدور الأمر التنفيذي، وانها تحتفظ بحقها في اتخاذ الإجراءات الملائمة. وقال البيان الصادر عن وزارة التجارة الصينية أن القرار الأمريكي يؤثر على حرية المؤسسات في اتخاذ القرارات، ويضعف النظام التجاري العالمي المتعدد الأطراف. وطالبت بضرورة أن تحترم الولايات المتحدة قواعد المنافسة وحرية السوق.
تراجع الاستثمار والتجارة
وبسبب سياسة الولايات المتحدة في ممارسة ضغوط اقتصادية على الصين، ومحاولة فصلها عن الاقتصاد العالمي، فإن الاستثمارات الرأسمالية الأمريكية في الصين هبطت في العام الماضي إلى 9.7 مليار دولار مقابل 32.9 بليون دولار في عام 2021 طبقا لتقديرات «بتشبوك داتا» أي أقل من ثلث ما كانت عليه في عام واحد. أما في العام الحالي فقد بلغت الاستثمارات في مشروعات مشتركة للشركات الأمريكية في شركات التكنولوجيا في الصين حوالي 1.2 مليار دولار فقط. وتقدر وزارة الخارجية الصينية إن أكثر من 70 ألف شركة أمريكية تمارس أعمالا في الصين. ومن ثم فإن هذه الإجراءات تضر بمصالحها كما تضر بمصالح الصين أيضا، وتؤدي إلى تدهور الثقة بين المستثمرين، وتضييق مستويات ومجالات التعاون بين أكبر اقتصادين في العالم.
وتضمنت القرارات التي تم اتخاذها في الحرب التكنولوجية تقييد حصول الصين على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، القرار أصدرته الولايات المتحدة، وطالبت حلفاءها الإلتزام به. وفي نهاية حزيران/يونيو الماضي منعت هولندا صادرات معدات صناعة الرقائق الإلكترونية المتقدمة تحت ضغط من الولايات المتحدة. وفي الأسبوع الحالي قررت الهند فرض حظر على استيراد أجزاء ومكونات الطائرات المسيرة من الصين. وفي الرابع من الشهر الماضي نشرت «وول ستريت جورنال» أن البيت الأبيض يدرس تقييد استخدام الصين للتكنولوجيا السحابية الأمريكية.
وتتمثل أهم الملامح التي أظهرتها المعاملات التجارية الأمريكية في انخفاض العجز مع الصين بحوالي 2.1 مليار دولار، ليبلغ 22.8 مليار دولار، وهو ما يشير إلى أن العجز مع الصين في طريقه للانخفاض بنسبة كبيرة في العام الحالي. حتى الآن بلغت قيمة العجز في النصف الأول من العام الحالي 142 مليار دولار مقابل 216 مليارا في الفترة المقابلة من العام الماضي، بانخفاض قيمته 74 مليار دولار بنسبة 34.2 في المئة. ويمكن القول إن الحرب التجارية التي تقودها الولايات المتحدة ضد الصين، والجهود المبذولة من القطاعات الصناعية في الدول التابعة لها، خصوصا الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى، بدأت في إظهار نتائجها السلبية على النمو في الصين. لكن تراجع النمو في الصين من شأنه أن يترك آثارا سلبية واسعة النطاق على أسواق الطاقة والمواد الأولية، وكذلك على تدفق الاستثمارات.
القدس العربي