واشنطن – يرى المحللان الأميركيان جلين شافيتز وجون سيفر أنه لكي نفهم هوس روسيا الحالي بأوكرانيا، من المهم أن ندرك أن روسيا لم تكن أبدا دولة بالاستخدام الشائع للمصطلح.
وعلى عكس الدولة التركية الحديثة التي خرجت من رحم الإمبراطورية العثمانية أو بريطانيا العظمى التي امتلكت إمبراطورية وفقدتها، فإن روسيا لم يكن لديها هوية منفصلة عن إمبراطورية.
وكما أوضح المؤرخ البريطاني جيفري هوسكنج “بريطانيا امتلكت إمبراطورية، ولكن روسيا كانت إمبراطورية”.
وقال سيفر الذي عمل في الخدمة السرية لوكالة المخابرات المركزية لمدة 28 عاما وهو الآن زميل رفيع المستوى غير مقيم في المجلس الأطلسي ومؤسس مشارك لشركة سباي كرافت انترتاينمنت، وشافيتز الذي يتمتع بأكثر من 30 عامًا من الخبرة في الحكومة والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص، إن الرواية المفضلة للكرملين عن روسيا تصعد من أوكرانيا الحالية (دولة كييفان روس)، هي رواية خيالية من نسج موسكو.
وأضاف المحللان في تقرير نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أن تاريخ روسيا على مدار ألف عام والمصدق عليه رسميا أسطورة تم نسجها وإدامتها ذاتيا، وروجت لها أجيال من الدكتاتوريين الروس لتبرير توسعهم في الخارج وقمعهم في الداخل.
وبدلا من ذلك، فإن ما نفكر فيه اليوم كروسيا بدأت كمجموعة فضفاضة من دول مدن مستقلة شملت نوفغورود وبسكوف وسمولينسك وتفر وموسكو، واكتسبت الأخيرة أهمية خاصة نهاية حكم المغول قبل أكثر قليلا من 500 عام.
ولم تكن كييف جزءا من روسيا عندئذ مثلما هي الآن. ولم تكن هناك لغة مشتركة أو إدارة مشتركة أو هوية مشتركة. وفي حقيقة الأمر، مرت قرون قبل أن يحاول حكام إمارة موسكوفي (الاسم القديم لروسيا) تأكيد سيطرتهم على كييف وأراضي أوكرانيا الحالية.
وكانت حقبة حكم المغول، وليس إرث دولة كييفان روس، هي التي مهدت الطريق أمام صعود الإمبراطورية الروسية. وإبان حكم إيفان الثالث (الأكبر)، رسخت إمارة موسكو وضعها كأقوى الدول المدن التي انبثقت عن العصر المغولي.
وأطلق إيفان على نفسه “قيصر كل الروس”، ولكنه كان في الواقع أشبه كثيرا بعمدة موسكو الكبرى.
وكان إيفان هو الذي بدأ في توسيع رقعة موسكوفي، حيث شرع في ما أطلق عليه “تجميع الأراضي الروسية”. وتبنى رؤيته التوسعية بالفعل كل حاكم جاء بعده إلى موسكوفي والإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي والاتحاد الفيدرالي الروسي.
ويستمر مسعى إيفان الثالث للاستيلاء على أراض جديدة، غالبا تحت ستار “إعادة توحيد أراضي الروس القديمة” حتى هذا اليوم، وأن ذلك له تأثير عميق على تاريخ العالم.
وقال المؤرخ ستيفين كوتكين “بدءا من حكم إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، استطاعت روسيا أن تتوسع بمعدل خمسين ميلا مربعا في المتوسط في اليوم على مدار مئات السنين، مما يغطي في نهاية المطاف سدس مساحة كوكب الأرض”.
واعتبر عدد قليل من الشعوب التي كانت تسكن على الأراضي التي زعم ملكيتها إيفان الثالث وأسلافه، أنفسهم روسا، على الأقل ليس قبل أن يتم “تجميعهم سويا”.
وفي وقت وفاة إيفان الثالث، كانت إمارة موسكوفي تغطي أقل من خمس منطقة روسيا الحالية: وخصوصا أنها لم تشمل أراضي أوكرانيا الحديثة وبيلاروسيا والقوقاز أو كل صربيا.
ولم تكن شبه جزيرة القرم، التي يتحدث عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحماس، جزءا من الإمبراطورية الروسية حتى استولت عليها الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية من خانات القرم في عام 1783.
وإذا كان بوتين معنيا بتصحيح الأخطاء التاريخية، فإنه يتعين عليه أن يعيد القرم إلى تتار القرم، وأنه لن يفعل ذلك، بالطبع لأن ديناميكيات الغزو الإمبريالي وعملية الروسنة عنصر رئيسي للشرعية لبوتين مثلما كانت بالنسبة إلى كل حكام روسيا تقريبا (باستثناء بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف جزئيا).
وتتوسع روسيا لأن حكامها يحتاجون إلى تهديد خارجي لتبرير استبدادهم. وكان هذا الأمر صحيحا بالنسبة إلى إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وكاترين الثانية العظيمة.
وتتحسر روسيا تحت قيادة بوتين على خسارة المجد الإمبريالي، ولم تتصالح أبدا مع ماضيها القمعي. ومفارقة التوسع – الأمن، التي تعد القوة الدافعة للسياسات الخارجية والداخلية الروسية، حلقة مفرغة يدور فيها كل الأباطرة بدرجة أو بأخرى.
ويخلق الاستحواذ تهديدات داخل الأراضي التي تم الاستيلاء عليها حديثا وعند الحدود التي تتمدد للإمبراطورية الآخذة في النمو. ويتطلب التوسع عملية الروسنة والقمع الداخلي، والمزيد من التوسع الخارجي.
وقالت الإمبراطورة كاترين الثانية العظيمة “ليست لدي أي وسيلة للدفاع عن حدودي سوى توسيع نطاقها”.
ويمكن أن تنتهي هذه الديناميكية بطريقتين، إما من خلال الاحتواء الخارجي أو تطبيق الديمقراطية في الداخل. وأثبتت الأخيرة أنها تمثل مشكلة للشعب الروسي ولا تعد شيئا يجب أن يعول جيران روسيا على حدوثه في أي وقت قريب. ونجح الاحتواء الخارجي من قبل خلال الحرب الباردة.
وما زالت روسيا الحديثة إمبراطورية لا تعتبر نفسها قوة عظمى ما لم تسيطر على جيرانها. وبالتالي، فإن روسيا سوف تواصل تهديد جيرانها ومهاجمتهم واستيعابهم حتى يتحرك الغرب بشكل جماعي لاحتوائها.
وسوف تشتكي روسيا والمدافعون عنها من أن الاحتواء يتجاهل مخاوف روسيا الأمنية المشروعة. وهذا كذب لأن مخاوف روسيا الأمنية تتزايد باستمرار.
وفي الحقيقة، ليس لدى الزعماء الروس على الإطلاق أي شيء يقلقون عليه إذا عادوا إلى حدود بلادهم لعام 1991 المعترف بها دوليا.
واختتم المحللان تقريرهما بالقول إن الغرب يحترم دائما هذه الحدود، وأن روسيا هي التي لم تحترمها، ومن غير المحتمل أن يتغير ذلك، قبل أن تتجاوز روسيا الحديثة هويتها الإمبريالية المتجذرة بعمق فيها.
العرب