فرضت تطورات الأزمة اليمنية نفسها على اجتماعات قمة مجلس التعاون الخليجي الـ36 التي استضافتها العاصمة السعودية، الرياض، يومي 9 و10 ديسمبر الجاري، ليخرج البيان الختامي حاملا في ثناياه أكثر مما تحمل كلماته عن رؤية قادة الخليج لكيفية خروج البلاد من أزمتها الراهنة.
ففي الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، وقع الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي اتفاق السلم والشراكة مع جماعة الحوثي، والذي عدّته القوى الوطنية بمنزلة استسلام سياسي وقع تحت فوهة بنادق جماعة تسعى لابتلاع السلطة في صورة شراكة سياسية مع النظام الحاكم.
ومن ثم، استمر الحوثيون في التمسك بهذا الاتفاق كمسوغ شرعي لكل تحركاتهم اللاحقة، بما فيها انقلابهم على السلطة نفسها. بينما بالمقابل، أعلنت القوى الوطنية، مدعومة بمساندة خليجية، أن هذا الاتفاق ليس له محل من الإعراب. وهكذا، صار هذا الاتفاق إحدى الإشكاليات التي طرحت في قمة مجلس التعاون الخليجي الـ35 التي استضافتها العاصمة القطرية، الدوحة، ديسمبر 2014، ثم القمة التالية بالرياض.
من جهة أخرى، فقراءة مضمون البيان الختامي لقمة الرياض بشأن الأوضاع في اليمن ستكون أكثر وضوحا إذا ما أجرينا مقارنة بينه وبين البيان الختامي لقمة الدوحة. لكن قبل تقديم هذه القراءة، يجدر بنا التوقف عند بعض الأحداث التي وقعت بينهما، والتي تركت بصمتها على البيان الختامي الأخير بصورة أو أخرى.
أولا: تغير القيادة السعودية بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز في يناير الماضي، وتولى الملك سلمان الذي انتقل بالموقف السعودي من التمدد الإيراني في المنطقة من مرحلة الاقتصار على استخدام الوسائل السياسية التي كان يراها سلفه، إلى مرحلة استخدام كافة الوسائل، بما فيها الدعم العسكري لليمن لوقف هذا التمدد.
ثانيا: ميل القيادة السعودية الجديدة للتفاهم مع قوى الإسلام السياسي في اليمن، في إطار عملية إعادة ترتيب البيت اليمني.
ثالثا: انطلاق عملية عاصفة الحزم فى مارس الماضي من قبل قوات التحالف العربي، بقيادة السعودية، مثّل منعطفا في مسار الأدوات الخليجية لوقف المخطط الحوثي – الإيراني للسيطرة على اليمن.
رابعا: أسفر الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول ( 5+1) في يوليو 2015 عن تقارب كبير بين طهران وواشنطن على حساب بلدان الخليج، وتزايد طموح إيران في دعم حلفائها في المنطقة العربية، وفى مقدمتهم الحوثيون من أجل استكمال ما يعرف بحزام النار الشيعي، وبالتالي جاءت المواقف الخليجية اللاحقة أكثر صرامة تجاه ما يجري فى اليمن.
خامسا: فشل كافة الجهود الأممية والإقليمية فى إقناع الحوثيين وصالح بوقف تمردهما، ومنها مباحثات جنيف1 في يونيو الماضي.
سادسا: اهتمام تنظيم القاعدة بتثبيت قواعده فى محافظة حضرموت ومناطق وسط وجنوب البلاد، وما واكب ذلك من ظهور تنظيم “داعش” فى اليمن، وشنه عمليات متنوعة ضد معظم أعدائه، آخرها اغتيال محافظ عدن، اللواء جعفر محمد سعد فى السادس من ديسمبر الجاري.
نقاط الاتفاق بين بياني الدوحة والرياض
1- أكد البيانان الدعم الخليجي الكامل للرئيس منصور هادي فى مواجهة تمرد الحوثيين وصالح، وإدانة ما ارتكباه من جرائم، حيث ورد فى بيان الرياض تأكيد المجلس الأعلى لدول مجلس التعاون الخليجي “استمرار الدعم والمساندة لفخامة الرئيس عبدربه منصور هادي وحكومته الشرعية “، و”أعرب المجلس الأعلى عن إدانته الشديدة لانتهاكات ميليشيات الحوثي وصالح الجسيمة بحق المدنيين”. كما ورد فى بيان الدوحة “أكد المجلس الأعلى دعمه لجهود فخامة الرئيس عبد ربه منصور هادي في تحقيق الأمن والاستقرار ” و” أدان أعمال العنف التي قامت بها جماعة الحوثيين في صنعاء وعمران والحديدة وغيرها”.
2- تجاهل البيانان لاتفاق السلم والشراكة، كإحدى مرجعيات حل الأزمة اليمنية، لمسألة أن الرئيس هادي أكره على توقيعه، ولا يحظى الاتفاق بموافقة القوى الوطنية، كما ترى فيه دول مجلس التعاون الخليجي تسليما للسلطة بشكل غير مباشر للحوثيين، مما يعنى مزيدا من النجاح لمخطط التمدد الإيرانى فى المنطقة العربية.
3- أكد مجلس التعاون الخليجي مجددا اعتماد المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني كمرجعيات لأي اتفاق سياسي يرسم مستقبل اليمن، واعتماد الحوار وسيلة لإنقاذ البلاد من مأزقها الراهن، حيث شدد في بيان قمة الرياض على “أهمية الحل السياسي وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل”، كما أبرز ذلك سلفا فى بيان قمة الدوحة، حيث دعا ” جميع اليمنيين لحل الخلافات بالطرق السلمية، والالتزام بتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وتوفير الأجواء الملائمة لاستكمال تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية”.
نقاط الاختلاف بين بياني قمتي الرياض والدوحة
1- استهل مجلس التعاون الخليجي القسم الخاص من اليمن في بيان قمة الرياض بالإشادة “بالانتصارات التي حققتها المقاومة الشعبية والجيش الموالي للشرعية ضد ميليشيات الحوثي وعلي عبدالله صالح، وتحرير عدن وعدد من المدن والمحافظات اليمنية”، في محاولة لإبراز ضعف الحوثيين وصالح، وتهيئة الأجواء لدخول الحكومة اليمنية مفاوضات جنيف2 التي ستجري منتصف شهر ديسمبر الجاري من موقع المنتصر الذي سيفرض شروطه على الطرف المنهزم، وستحاول الحكومة استغلال ما تحظى به من دعم دولي تجسد فى قرار مجلس الأمن رقم 2216 لتحويل هذا التفوق العسكري النسبي إلى وثيقة سياسية فى المباحثات المرتقبة تحكم السلم القادم، وهو ما نلاحظه من ضراوة المعارك فى الفترة الأخيرة أملا فى أن تكون النتائج الميدانية نقطة الصفر التى تنطلق منها هذه المباحثات.
2- بالمقابل، من المتوقع أن تكون المباحثات شاقة وطويلة، حيث لم يعترف الحوثيون وصالح حتى الآن بالهزيمة، وسيكون العمل- من وجهة نظرهما- عبر فصل المسارين السياسي والعسكري، ورفض اعتماد نتائج المواجهات العسكرية القائمة كمنطلق لها، حيث قال العميد شرف لقمان، المتحدث باسم المليشيات الموالية للحوثيين، فى السابع من ديسمبر الجاري، تعليقا على قرب انعقادها: إنهم حتى وإن تم التوصل إلى اتفاق سياسي، فلن تتوقف تحركاتهم العسكرية لاسترداد ما قال إنها حقوقهم، مضيفا أن “المسارين السياسي والعسكري مساران متوازيان، وليسا متكاملين، فنحن في الجيش واللجان الشعبية لدينا أجندة وهدف وتخطيط مبني على استراتيجية في المواجهة .. أما ما سيرشح عن المفاوضات السياسية، فهو شيء آخر”.
3- أشاد بيان قمة الرياض بدور الأمم المتحدة فى اليمن، وذلك انعكاسا لاستجابتها لمطالب الشعب اليمنى وحكومته بصدور قرار مجلس الأمن رقم 2216 ، والقاضي بسحب الحوثيين قواتهم من جميع المناطق التي استولوا عليها، بما في ذلك العاصمة صنعاء، والتخلي عن جميع الأسلحة الإضافية التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية، وهذا بخلاف ما ورد فى بيان قمة الدوحة، حيث اكتفى الموقعون عليه بالقول “استذكر المجلس الأعلى البيان الرئاسي الصادر من مجلس الأمن بتاريخ 29 أغسطس 2014م”، تعبيرا عن عدم رضاهم التام من الموقف الأممي تجاه ما يجري فى اليمن.
ورافق الرضا الخليجي عن الموقف الأممي مباركة من قادة المجلس لمشاركة الحكومة اليمنية فى مباحثات جنيف2 التى ترعاها الأمم المتحدة، في ضوء تطلع الحكومة اليمنية لأن تذهب للمباحثات بصفة منتصر سيملي شروطه، وفقا للمعطيات التى أسلفناها سابقا.
4- من الملاحظ تجاهل بيان قمة الرياض تماما ذكر فرعي تنظيمي القاعدة و”داعش” فى اليمن، تصريحا أو تلميحا، رغم إدانته للهجمات الإرهابية بوجه عام، وتأكيد مشاركة دول المجلس “في التحالف الدولي” لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، ومساندة كل الجهود المبذولة، دولياَ وإقليمياَ، لمحاربة التنظيمات الإرهابية. ويأتى هذا التجاهل بخلاف ما تم تأكيده في بيان قمة الدوحة السابق من وقوف المجلس “مع اليمن الشقيق في مواجهة خطر الإرهاب، أياً كان مصدره”، وإدانته “استمرار الهجمات ضد قوات الأمن والقوات المسلحة اليمنية، وما يقوم به تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية من أعمال عنف تزعزع استقرار اليمن، وتهدد أمن المنطقة”.
ويمكن إرجاع هذا التغير إلى رغبة دول الخليج فى عدم استنزاف جهود الحكومة اليمنية فى معارك متزامنة، وتجنب تشتيت هذه الجهود ليظل التركيز على معركتها الأساسية مع الحوثيين وصالح، لأنها الأصعب, فضلا عن أنها معركة وجود تمس نتائجها مباشرة أمن الخليج بشكل عام، وأمن السعودية بشكل خاص، لما يحظيان به من دعم سياسي وعسكري لامحدود من إيران، وما يملكانه من قوة عسكرية كبيرة، وانتشار جغرافي واسع.
5- انفرد بيان قمة الرياض بالإشادة “بالجهود الإنسانية التي قدمتها دول المجلس لإدخال وتوزيع أكبر قدر ممكن من المساعدات الإنسانية والطبية للشعب اليمني الشقيق، منوهاَ بالدور الإنساني الكبير الذي يضطلع به مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في هذا الخصوص”. ويأتى التحرك الخليجي لتقديم المساعدات فى إطار محاولة قادة دول مجلس التعاون كسب معركة قلوب المواطنين اليمنيين وعقولهم، فالمواطن العادي يشغله فقط ما يعانيه من أوضاع حياتية مأساوية، جراء تفاقم المعارك. والانتصار فى هذه المعركة سيمثل خطوة مهمة فى مسيرة الانتصار على الحوثيين الذين أرهقوا المواطن اليمنى بالضرائب، ومصادرة الممتلكات، وغياب الغذاء، وموارد الطاقة.
كما أن هذه الجهود تعبر عن أهمية اليمن للأمن القومي الخليجى والسعودي، ومن ثم يصبح من الضرورى تجاوز دول الخليج مرحلة تعزيز علاقتها الحميمية مع الحكومة والنخبة السياسية اليمنية، إلى تعزيزها مع المستوى الشعبي. وكان آخر هذا التوجه هو إعلان الإمارات فى 10 ديسمبر الجاري عن تقديم مساعدات إنسانية لليمن بقيمة 73,5 مليون درهم. ولولا أزمة تراجع أسعار النفط عالميا، لأصبحت المساعدات الخليجية لليمنية أكبر. بالإضافة إلى أن هذه الأنشطة الإغاثية ستؤسس بنية تحتية لتوفير احتياجات المواطن العادي، فى إطار الحرب الإجهاضية ضد الحواضن الشعبية للقاعدة و”داعش”.
ويأتي استيلاء قوات التحالف العربي على جزيرة حنيش الكبرى، الواقعة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، من الحوثيين، والتحرك لفرض حصار بحري عليهم، استكمالا للرؤية الخليجية الجديدة التى تبلورت في قمة الرياض تجاه مجريات الأحداث في اليمن، وتمهيدا نيرانيا بعمق سياسي سيتردد صداه فى فضاء مباحثات جنيف2، بحثا عن نهاية ناجزة للتمرد الحوثي.
عمرو منصور
مجلة السياسة الدولية