نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا للمحرر ومدير مكتبها سابقا في موسكو، سيرغي شميمان، قال فيه إن ما فعله، يفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة فاغنر الذي أُعلن عن مقتله في حادث طائرة فوق موسكو، كان خيانة عظمى في روسيا بوتين. وقال إن الروس لديهم عادة الميل نحو الشائعات ونظريات المؤامرة المدفوعة بافتراض أن كل ما يُنشر من أخبار رسمية هي مجرد فبركات يعدها الكرملين.
وليس غريبا أن تنتشر الشائعات بعد ساعات من ظهور التقارير حول تحطم طائرة كان على متنها شخص سيئ السمعة مثل بريغوجين، فقد انتشرت الشائعات مثل حرائق الغابات السيبيرية. فربما لم يكن بريغوجين على متن الطائرة، ودُبرت مؤامرة قتله لكي يختفي. أو ربما اعتقله الرئيس فلاديمير بوتين في قبو سري. وهناك نظرية تحدثت عن تفجير الأوكرانيين للطائرة انتقاما لما تسبب به زعيم فاغنر من جرائم بحقهم.
كما هو الحال في الجرائم التي ارتُكبت في روسيا بوتين، فإن تحطم الطائرة هو ما يبدو اغتيال لمنافس مزعج من حاكم لا يرحم
كل هذا ليس بعيدا عن بريغوجين، المحتال الذي أصبح متعهد طعام وأمير حرب، ثم أصبح مقربا من بوتين، وكان جريئا لدرجة الوقاحة، وأرسل جنوده في حزيران/ يونيو نحو موسكو لتصفية الحسابات مع قادة الجيش الروسي.
ولا يوجد نقص في عدد الذين يريدونه ميتاً، بمن فيهم نفس القادة العسكريين الروس، أو الأوكرانيين أو المعارضين السوريين والأفارقة الذي قتل مرتزقته أفرادهم.
وكما هو الحال في الجرائم التي ارتُكبت في روسيا بوتين، فإن تحطم الطائرة هو ما يبدو اغتيال لمنافس مزعج من حاكم لا يرحم. وربما لن يتم التثبت من هذا أبدا. وقد يقرر بوتين أن يكرم بريغوجين بعد وفاته، ويعتبره وطنيا روسيا، وعلى الأقل يلقي اللوم على “الفاشيين” الأوكرانيين والغرب المخادع. وفي الوقت الحالي، يعتقد المراقبون أن الأدلة والدوافع والوسائل كلها تشير إلى بوتين.
ففي المنطق الوحشي للحكم الديكتاتوري، لم يكن لدى بوتين أي خيار. فرغم الحذر الذي مارسه بريغوجين عندما أمر جنوده بما أسماه “الزحف من أجل العدالة” إلى موسكو، وكان واضحا في ولائه للرئيس بوتين، إلا أن الزحف كان عبارة عن تمرد مفتوح ضد حكم بوتين. وكان رد الرئيس الأول هو التحذير بدون ذكر اسم بريغوجين، بأن من قاموا بالعمل “خانوا روسيا”، وفي معجم بوتين، كان هذا يعني حكم الإعدام.
ولعب بوتين اللعبة نفسها في مرحلة ما بعد التمرد، وبنفس الدهاء الذي أبقاه في الحكم مدة 20 عاما. حيث سمح لأمير الحرب بأن ينتقل إلى بيلاروسيا بعد التمرد، وأسقط عنه التهم الرسمية، ودعاه للقاء استمر 3 ساعات في الكرملين، وتركه يتحرك بحرية في كل روسيا.
وهو ما أعطى بريغوجين فكرة أن الرئيس سامحه، وزعم أنه حضر قمة سانت بطرسبرغ الأفريقية، وأصدر فيديو لتجنيد المقاتلين لمجموعته، زعم أنه صوره في أفريقيا. وعلى هذه الخلفية، ظهر بريغوجين بالزي العسكري الذي أصبح مفضلا له. وقال بصوته القوي: “نحن نعمل… درجة الحرارة فوق الخمسين مئوية، كما نحبها. تقوم فاغنر بعمليات استطلاع وبحث. وتجعل روسيا أعظم، وأفريقيا أكثر حرية”.
وبعد مظاهر التبجح هذه، قرر بوتين اتخاذ الخطوة الأولى في نفس يوم التمرد وإن بعد شهرين. فقام بعزل قائد العمليات العسكرية السابق في أوكرانيا، سيرغي سيروفكين. وقد غاب هذا الأخير عن الصورة مباشرة بعد التمرد.
وبعد السادسة مساء من يوم الأربعاء، سقطت طائرة بريغوجين الخاصة. وأظهر فيديو لم يتم التأكد منه، الطائرة التي سقطت من الجو ولم يتبق منها سوى جناح واحد. وقال شهود عيان إن انفجارين حدثا، مما أثار الشكوك بأن الطائرة كانت مستهدفة بالنيران التي تسببت بسقوطها.
النتيجة التي لا يمكن تجنبها هي أن مصير بريغوجين حُسم قبل شهرين، وهناك تاريخ طويل في “روسيا بوتين” ينص على أن الخيانة لا يمكن العفو عنها
وبعد ذلك، أعلن إعلام الدولة الروسية أن بريغوجين كان على متن الطائرة مع سبعة ركاب وطاقمها المكون من ثلاثة أشخاص. وهناك تقارير أن قائد فاغنر العسكري ديمتري أوتكين كان من بين الركاب، والمعروف بإعجابه المعلن بألمانيا النازية.
والنتيجة التي لا يمكن تجنبها هي أن مصير بريغوجين حُسم قبل شهرين. فمهما كان سبب تحطم الطائرة، فالرسالة واضحة للمقربين والمتملقين لبوتين: فلا يكفي أي قدر من لعق الأحذية، الذي كان بريغوجين سيدا فيه، ولا التاريخ الطويل في الخدمة، سواء من خلال تقديم الطعام للكرملين أو إدارة جيش خاص، لا يكفي لحماية أي شخص تجرأ على “الدون” (رئيس المافيا)، بحسب قول الكاتب.
وهناك تاريخ طويل في “روسيا بوتين” ينص على أن الخيانة لا يمكن العفو عنها. فمادة البولونيوم المشعة التي استُخدمت لقتل المنشق عن “كي جي بي” ألكسندر ليتفنكو، وغاز الأعصاب “نوفيشوك” الذي استُخدم في محاولة قتل العميل سيرغي سكريبال وابنته في بريطانيا، لا يترك أي مجال للشك بمن قام بهذه المحاولات ولماذا. إلى جانب الجهود لإسكات خصمه العنيد، أليكسي نافالني بالسمّ والأحكام التعسفية بالسجن، وهي إشارات واضحة لعدم التسامح مع أي نوع من الخروج عن إرادة الحاكم.
وباتت الحاجة لتأكيد الولاء الشخصي للزعيم مهمة أكثر في ضوء الحرب في أوكرانيا، وهي عملية مرتبطة مباشرة ببوتين، وأدت لثمن باهظ على حياة وخزينة وموقف روسيا الدولي. ونظرا للتاريخ الحقير المرتبط ببريغوجين، فربما نكتشف مفاجآت في قابل الأيام. وإن ظهر أن بوتين غير متورط في قتله، فهذا لأن شخصا آخر سبقه.
القدس العربي