لندن – لم ينكشف فشل وكالات الأنباء العالمية، مثل “رويترز” و”وكالة الصحافة الفرنسية” وغيرهما، من قبل مثلما ينكشف الآن. وفي عالم جعلته الإنترنت مفتوحا ومتقاربا، يتم تداول الأنباء فيه بسرعة فائقة، احتاجت وكالات الأنباء إلى أن تواجه التحدي بأحد خيارين، إما أن تعيد النظر في سياساتها التحريرية، لتشمل مقاربات جديدة، وإما أن تواصل ما دأبت عليه.
معظم هذه الوكالات وضعت رهانها على الخيار الثاني. وهو ما أحاطها بالفشل. وهو فشل يزداد وضوحا كل يوم، ومع كل حزمة أخبار، تبدو وكأنها وعاء فارغ.
شيء واحد بقي يعمل لصالح هذه الوكالات، هو أن منافسها المفتوح لدى الوسائط الأخرى، لا يحظى بالصدقية التي تتميز بها وما تنقله هي من أخبار. وبالنظر إلى أن هناك محررين يشرفون على تدقيق المعلومات ويسعون في بعض الأحيان إلى تعميقها بخلفيات معلوماتية موثوقة، فإن نفوذها ظل له ما يبرره. إلا أن ذلك ترافق مع منعطفين كبيرين، لا يتعلقان بصدقية الخبر نفسه، ولا بسرعة الحصول عليه.
الأول، هو أن أهم مصادر استهلاك الأخبار (مثل الصحف وقنوات التلفزيون والمواقع الاخبارية) صارت تعتمد على جيش من المراسلين والمتطوعين والكتاب الذين يمكن الوثوق بمصادرهم، مما لا تستطيع وكالات الأنباء التقليدية مجاراته، ولو اجتمعت قدراتها معا. والثاني هو أن البيئة المحلية، التي عادة ما تتجاهلها وكلات الأنباء، صارت هي “السوق” الذي يجتذب الانتباه.
شيء واحد بقي يعمل لصالح هذه الوكالات، هو أن منافسها المفتوح لدى الوسائط الأخرى، لا يحظى بالصدقية
العالم المفتوح، الذي أصبح “قرية صغيرة”، انقلب لجهة الاهتمام العام بما يحدث فيه، إلى تلك “القرية المحلية الصغيرة” التي تعني القارئ أو المشاهد. وهو ما لم تنتبه له تلك الوكالات.
تفشي الفيديوهات القصيرة، ووسائل التواصل الاجتماعي في تناقل الأخبار، وخوارزميات المتابعة، التي تحيط القارئ بكل ما يهتم به هو على وجه الخصوص، أدى إلى “شخصنة” الأخبار، وهو منقلب يكاد من المستحيل لوكالات الأنباء التقليدية أن تضاهيه.
وفي حدود ما تنشغل هذه الوكالات به، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على سبيل المثال، يمكن ملاحظة أنها تعاني جفافا إخباريا يجعلها عاجزة بالفعل عن اكتساب سباقات “الشخصنة” و”المحلي”، فضلا عن سباق التنوع الذي لم تكسبه تلك الوكالات في الأصل.
ومن ناحية الصدقية، فهناك الكثير من الأدلة التي تنهمر كل يوم من جانب هذه الوكالات، لتدل على مستويات من التأويل والانحياز، أي الأخذ بزاوية من الحدث دون أخرى، أو تغليب انطباع أيديولوجي عليه دون آخر.
الجفاف الإخباري، لم يقتصر على مجالات اهتمام محدودة، ولكنه امتد إلى وكالات الأنباء التي سبق أن فازت في الماضي بأن أزاحت منافسيها المحليين، مثل وكالات الأنباء الحكومية. فلما عادت الوكالات الكبرى، في لحظة خاطفة من الزمن، لتمعن بالتوفير، فقد وجدت نفسها عاجزة عن تعويض الفارق في التغطيات التي تقدمها شبكات مراسلين توظفهم الصحف والمواقع والقنوات الفضائية. وهي تغطيات تخطت الحاجة إلى “الخبر”، لتصنعه. وذلك بينما بقيت الوكالات تعاني من الشح الإخباري. فخسرت السباق، إنما لصالح مقاربات إخبارية أخرى، غطتها الصحف والمواقع والقنوات من خلال الاهتمام بالتحقيقات المحلية أو التغطيات الخاصة، أو مطاردة الحقائق غير المعلنة، أو التحليلات غير المرتبطة بتصورات ضيقة. لا تستطيع “رويترز” على سبيل المثال، أن تتحرر في النظر إلى مشكلات الشرق الأوسط، من ارتباطها الروحي بإسرائيل. كما لا تستطيع أن تقدم تحليلا مجردا لموازين القوى التي تطيل أمد الحرب في أوكرانيا. ولو أنها في هذا الباب، صارت تعتمد على محللين إستراتيجيين يعملون لدى مراكز أبحاث. ولكن ذلك يحصل لأنها لم تعد تملك الكثير ممن يمكنهم أن يقدموا قراءة موضوعية للحدث، بعد رحيل جيل الصحافيين الأول والثاني فيها.
هناك الكثير من الأدلة التي تنهمر كل يوم من جانب هذه الوكالات، لتدل على مستويات من التأويل والانحياز
الصراع العربي الإسرائيلي، على سبيل المثال، تحول إلى مناكفات إخبارية تكاد لا تخبر القارئ أو المستهلك بما لا يعرفه. ومن حين إلى آخر، فإن شغل الوكالات ينتعش عندما تندلع حرب مع غزة، أو عندما تحدث عملية مسلحة ما، أو عندما يغرق تمساح في طين، أو يقوم مسؤول ما بزيارة دولة، فلا يقال عنه وعن الزيارة إلا ما هو معروف عن “سبل تطوير العلاقات الثنائية في جميع المجالات”، من الصياغات العمومية التي تعلمتها الوكالات الكبيرة من الوكالات الحكومية المحلية الفاشلة.
الآن، وعندما تجمدت السياسة، صار بوسع المستهلك (القارئ، أو الصحف والمواقع وقنوات التلفزيون) أن يلاحظ أن هذه الوكالات تركت فراغات سياسية واجتماعية واقتصادية لم تستطع ملاحقتها، ولا حتى من خلال التحقيقات أو المقابلات، فصار بعضها يعتني بأخبار وفيات المغنيين والفنانين الغربيين، وتتم ترجمة هذه الأخبار إلى العربية، من دون أن تفهم ماذا تعني بالنسبة للقارئ في مدينة مثل عمّان أو الإسكندرية، وذلك بدلا من أن تنشغل بما يحدث في مثل هذه المدن بالذات.
تخوض وكالات الأنباء الكبرى معركة خاسرة مع الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، ولكن ليس لأن هذه الوسائل تقدم حلولا سحرية للتداول، وإنما لأنها سدت الفراغ نفسه الذي تعجز تلك الوكالات عن تغطيته، وذلك بأن أتاحت للجمهور العريض أن يختبر قدراته على تقصي الحقيقة، والبحث عن الخبر، بصدق الصورة، إذا جاز الشك بالقول.
ليس المنتظر من الجمهور، غير المعني بالمعايير المهنية، أن ينجح في اختبار الصدقية. والكثير مما يتم تداوله من أخبار قد لا يكون صحيحا أو انتقائيا، إلا أنه ليس أقل كذبا أو انتقائية مما ينشره الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في موقعه الخاص للتواصل الاجتماعي “تروث” (أو “الحقيقة”، ولو كان عاريا عنها). ومع ذلك، فقد دفعت التعددية الهائلة في ميادين الخبر، إلى تقديم جمهور جدير بالاعتبار من الممتهنين الجدد الذين يحاولون إجادة اللعبة.
المنقلب الأكثر أهمية هو أن الخبر نفسه سقط كسلعة. كان هو سلعة تلك الوكالات الوحيدة في الماضي. ولكنه صار سلعة كاسدة تماما الآن. السؤال الذي لم تعثر تلك الوكالات على جواب له، صار مع مرور الوقت مثل ثعبان متعدد الرؤوس: ماذا حل بهذه السلعة؟ وما الذي حل محلها؟ وما هي الوسائط التي يمكن توظيفها لتقديم بدائل؟ وما هي تلك البدائل؟
هذا السؤال لن تعثر، وأنت تطالع وكالات الأنباء التقليدية، على جواب له.
بعض الصحف، وبعض المواقع الإخبارية، لاسيما منها ذات الطبيعة المتخصصة، التي تركت الخبر العاجل لمراسلي التلفزيون، تحصد الآن ما عجزت تلك الوكالات عن حصاده.
العرب