منذ الإعلان عن انضمام مصر إلى مجموعة بريكس قبل أيام، ومعها خمس دول أخرى، انصب الحديث على مزايا هذه الخطوة على الاقتصاد المصري، إلى درجة صورها البعض من المدافعين عنها بداية العد التنازلي لانهيار الدولار، والذي سبب صداعا كبيرا للمصريين عقب ارتفاعه إلى معدلات قياسية مقابل انخفاض مدوّ للجنيه.
في مواجهة تصوير الترشيح بالانضمام إلى الجنة بالجنة المنتظرة قام معارضون للنظام المصري بوضع سيناريو أشبه بالنار أو الجحيم عندما عزفوا على وتر أن الناقلات التابعة لدول بريكس القديمة والجديدة التي تمر عبر قناة السويس سوف تقوم بدفع أثمان العبور بالعملات المحلية، ما يعني أن الدجاجة المهمة التي تبيض ذهبا (نحو 9 مليارات دولار في العام) لمصر ستتراجع إيراداتها.
بدا سيناريو الجنة الموعودة مبالغا فيه، كما ظهر سيناريو النار غير دقيق، وحاول أنصار كل فريق إخراج ملف انضمام القاهرة من سياقاته الاقتصادية والسياسية، والتعامل مع الخطوة بوصفها مبارزة بينهما دون مراعاة لرصد المكاسب التي يمكن أن تجنيها مصر بموضوعية أو الخسائر المتوقعة إذا تبنت الولايات المتحدة والدول المتضررة من المنظمة خطوات لمعاقبة بعض المنضمين إليها سياسيا.
◙ خبراء اقتصاد يعترفون بأن المسافة بين تحقيق الأرباح وتكبد الخسائر قصيرة وتتوقف على حسن التصرفات والمزايا التفضيلية التي يتم تغليبها، لأن العلاقات الاقتصادية بين الدول لها ضوابط صارمة
تقوم التوجهات المصرية الخارجية على تبني مقاربات توازن من خلالها في علاقاتها مع القوى الكبرى، ولا يوجد ما يثبت أن القاهرة أعلنت انحيازها لقوة معينة على حساب أخرى بشكل سافر، فكل التحركات توحي بالتعدد وعدم حصر العلاقات في قالب أو نمط واحد، وهذا شأن العديد من الدول حاليا ترى في التنوع مزايا متباينة.
لا يشي الانضمام إلى بريكس بانحياز إلى معسكر ضد آخر، لأن فكرة المعسكرات الجامدة اختفت من مسرح التفاعلات الدولية، فخمس من الدول الست التي وجهت إليها الدعوة للانضمام إلى هذه المنظمة، وهي: مصر والسعودية والإمارات وإثيوبيا والأرجنتين، لها علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، والاستثناء الوحيد هو إيران ويصعب القطع بأن علاقاتها مع واشنطن لن تشهد تطورات إيجابية في المستقبل.
دعيت القاهرة وغيرها للانضمام إلى بريكس لأن كلا منها تمثل إضافة نوعية في شيء مادي أو أكثر للمنظمة الطامحة لأن تكون قوة دولية فاعلة، فمصر تملك موقعا إستراتيجيا مهما، ولديها ممر قناة السويس، ومن أكثر الدول المتضررة من هيمنة الدولار على التعاملات الاقتصادية وبها أزمة شح في هذه العملة ومن مصلحتها تعظيم التبادل التجاري بالعملات المحلية.
تقف أمام هذه الميزة جملة من العقبات، أبرزها التفاوت في ميزان التبادل التجاري بين مصر والدول الخمس المؤسسة لبريكس، فهناك خلل فاضح لصالح أربع من هذه الدول على الأقل، وهي: الصين والهند وروسيا والبرازيل، وحتى جنوب أفريقيا لا يوجد ما يثبت أن مصر يمكن أن تتفوق عليها عندما تتطور العلاقات التجارية بينهما.
ولذلك فعملية تعويض التعامل بالعملات المحلية بدلا من الدولار التي سيقت كتدليل على المكاسب مشكوك في جدواها بالنسبة إلى مصر حاليا على الأقل، لأن اقتصادها يحتاج إلى شوط كبير لتجاوز حلقات ضيقة يعاني منها، كما أن الديون التي تقترب من مئتي مليار دولار من الواجب سدادها بالدولار وليس الروبية أو اليوان.
لخص رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي دون أن يدري هدف بلاده من دخول بريكس في الحصول على قروض جديدة من البنك التابع لها أو الدول المنضوية تحت لوائها، ومهما كانت التسهيلات المنتظر الحصول عليها فهي في النهاية سوف تراكم الديون، وتفتح بابا جانبيا لا يقل خطورة عن صندوق النقد الدولي، لأن الدول الدائنة لن تقدم قروضا دون فوائد أو لن تستردها.
حاول من ركزوا على هذا البعد في انتقاداتهم تفريغ بريكس من مضمونها الاقتصادي وجعلها عبئا على الدولة بزعم أن الحكومة تتعامل بقليل من الرشادة مع الديون، وتتجاهل الآليات اللازمة للسداد، مع أن صندوق النقد لم يعلن أن القاهرة تخلفت عن سداد الديون في مواعيدها حتى الآن.
تتحمل الحكومة جزءا مهما من اللغط الدائر حول المكاسب التي يمكن جنيها من دخول بريكس، حيث سمحت لبعض الإعلاميين القريبين منها بتسويق القصة على أنها نهاية طبيعية للأزمة الاقتصادية وضربة قاصمة للدولار، وبعض القنوات الفضائية وضعت كلمة بريكس على شاشتها للإيحاء بأن الدولة سوف تجني منها مكاسب لا حدود لها.
كان يمكن مناقشة القضية من أبعاد مختلفة بحيث لا ترفع سقف الطموحات أو تخفضه، فمطلوب وضع النقاط في أماكنها الصحيحة، لأن المبالغة أو التقزيم يعبثان بذهن المواطن الذي لا يعرف بريكس والغرض من دخولها، وتتوه المعاني الإيجابية التي تنطوي عليها خطوة يمكن توظيفها في الحد من العقبات التي تواجه الاستثمار والتجارة والاستيراد، وتتيح بدائل تمكن الدولة من استرداد عافيتها الاقتصادية.
تأتي أهمية دخول القاهرة إلى بريكس أيضا من القيمة المعنوية التي تمثلها، ففي الوقت الذي قبلت بريكس الدول الست تحفظت على قبول دول أخرى، فضلا عن القيمة الرمزية الكامنة في نشاط السياسة الخارجية المصرية وتعدد خياراتها، وتأكيد قدرتها على امتلاك مرونة تساعدها على تنويع مجالات الحركة.
◙ تقوم التوجهات المصرية الخارجية على تبني مقاربات توازن من خلالها في علاقاتها مع القوى الكبرى، ولا يوجد ما يثبت أن القاهرة أعلنت انحيازها لقوة معينة على حساب أخرى بشكل سافر
من اختزلوا انضمام مصر إلى بريكس في إشكالية مع وضد، مزايا وعيوب، جنة ونار، أوقعوا شريحة كبيرة من المواطنين في مأزق، وعززوا تنامي عدم الثقة في التوجهات الاقتصادية الرسمية، فلا يوجد شيء يحمل كل الخير أو كل الشر، والعملية برمتها تتوقف على مستوى التعامل والأهداف المرجوة، فيمكن أن يتحول الشيء إلى نقيضه إذا أسيء استخدامه أو لم تتوافر له المقومات الصحيحة لجني الثمار منه.
يعترف خبراء اقتصاد بأن المسافة بين تحقيق الأرباح وتكبد الخسائر قصيرة وتتوقف على حسن التصرفات والمزايا التفضيلية التي يتم تغليبها، لأن العلاقات الاقتصادية بين الدول لها ضوابط صارمة ولا تعترف بالعواطف الجياشة، والتي تعامل بها من ثمنوا انضمام القاهرة إلى بريكس غاليا ومن حاولوا التقليل منه.
تجاوزت النظرة المسيسة ما عداها من التقديرات الاقتصادية الحاكمة في مثل هذه الأمور، ونسوا القاعدة الرئيسية التي نشأت عليها المنظمة وهي أنها ذات مكونات اقتصادية وما لحق بها من تسييس فرضته التطورات اللاحقة على الخطوة.
سعت مصر لدخول بريكس من منظور اقتصادي وعلى أمل أن تسهم الخطوة في تذويب الفجوات التي تعاني منها في عمليتي الاستيراد والتصدير، ومن هذا المنطلق تنحصر تصوراتها حيالها، لأن المصالح التي تربط بين القاهرة ودول لها تحفظات على تحويل بريكس إلى منظمة عملاقة في العالم كبيرة وليس من مصلحة القاهرة الصدام معها، فقياس المكاسب التي يمكن جلبها من دخولها لا يزال مجهولا، وهو الذي سوف يحدد منسوب التفاعل معها الفترة المقبلة.
العرب