أعلنت إيران، في 31 أغسطس الجاري (2023)، أنها أحبطت عملية واسعة لمهاجمة المنشآت الصاروخية، بعد الكشف عن قطع غيار غير صالحة ومجهزة بأدوات تفجير قبل دخولها هذه المنشآت. وعلى غرار العمليات السابقة، وجّهت السلطات في طهران اتهامات مباشرة إلى جهاز “الموساد” الإسرائيلي بالمسئولية عن ذلك.
بصرف النظر عن مدى مصداقية ذلك من عدمه، حيث لا يمكن التثبت من الرواية الإيرانية والاتهام الموجه إلى إسرائيل، خاصة أن الأخيرة لا تعلن في العادة مسئوليتها عن أي عملية استخباراتية تقوم بها داخل إيران سواء في حالة نجاحها أو في حالة فشلها، لكن هذا التطور يطرح السؤال مجدداً عن مدى إمكانية تجدد التصعيد بين إيران وإسرائيل خلال المرحلة القادمة.
فقد بدا لافتاً أن حدة هذا التصعيد تراجعت إلى حد كبير خلال الفترة الأخيرة. إذ لم تتعرض المنشآت النووية أو العسكرية الإيرانية، باستثناء ما تم الإعلان عنه في 31 أغسطس الجاري، لهجمات في الشهور الأخيرة. كما توقفت عمليات الاستهداف التي تتعرض لها سفن وناقلات إسرائيلية في بحر العرب وخليج عمان، والتي كانت تل أبيب توجه فيها باستمرار اتهامات إلى الحرس الثوري الإيراني.
ربما يمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة. إذ أن إسرائيل تبدو منشغلة، إلى حد كبير، بأزماتها الداخلية، سواء ما يتعلق بالأزمة الخاصة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي ما زال يواجه اتهامات بالفساد، أو ما يتصل بالأزمة السياسية التي انعكست في الاحتجاجات التي شهدتها إسرائيل اعتراضاً على قانون الإصلاح القضائي. هذا فضلاً عن تجدد التصعيد العسكري باستمرار مع الفصائل الفلسطينية، لأسباب مختلفة.
فضلاً عن ذلك، لا يمكن استبعاد أن تكون للتغييرات التي أجرتها إيران على مستوى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية دور في هذا التراجع، حيث كانت العمليات الأمنية والاستخباراتية التي شهدتها إيران في الفترة الماضية سبباً، على سبيل المثال، في إقالة رئيس استخبارات الحرس الثوري حسين طائب، في 23 يونيو 2022، وهى الخطوة التي جاءت في أعقاب اغتيال القيادي في الحرس الثوري حسن صياد خدايي أمام منزله في العاصمة طهران قبل ذلك بنحو شهر.
دوافع عديدة
لكن هذا التراجع ربما لا يستمر خلال المرحلة القادمة، خاصة أن هناك دوافع قد تساعد في رفع وتيرة التصعيد مرة أخرى، ويتمثل أبرزها في:
1- إبرام صفقة تبادل السجناء بين طهران وواشنطن: قد تكون الصفقة في حد ذاتها غير ذي أهمية كبيرة بالنسبة لإسرائيل، لكن تداعيات ما بعد الصفقة ربما يكون الأكثر تأثيراً. فبصرف النظر عن أن إسرائيل اعتبرت أن الإفراج عن 6 مليار دولار من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج، وتحديداً في كوريا الجنوبية، سوف يدفع إيران إلى الاستمرار في تدخلاتها الإقليمية، فإنها تبدي قلقاً من إمكانية أن يؤدي ذلك إلى تعزيز فرص تجدد المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول الاتفاق النووي.
فقد تعثرت المفاوضات التي أجريت بين الطرفين، في أغسطس 2022، بعد أن رفضت إيران مسودة الاتفاق التي طرحها مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل. ورجحت اتجاهات عديدة تأجيل البت في الاتفاق النووي برمته إلى ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2024.
إلا أن إبرام صفقة تبادل السجناء- التي لم تتم بعد، وتقضي بإفراج إيران عن خمسة سجناء أمريكيين مقابل إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية سراح إيرانيين واجهوا اتهامات بانتهاك العقوبات المفروضة على إيران، وحصول الأخيرة على 6 مليار دولار من عوائدها المجمدة لدى كوريا الجنوبية- زاد من فرص تجدد الاتصالات والتفاهمات بين طهران وواشنطن، بوساطة من جانب دول عديدة في المنطقة، لا سيما قطر وسلطنة عمان، وبالتالي يمكن أن تؤدي إلى الوصول لاتفاق نووي جديد تبدو إسرائيل في أمس الحاجة إلى تجنبه لاعتبارات ترتبط برؤيتها للمخاطر التي يمكن أن يفرضها هذا الاتفاق المحتمل على أمنها ومصالحها.
ومن هنا، فإنها ربما تتجه إلى رفع مستوى التصعيد مجدداً مع إيران بهدف توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن تكون إلى إيران ومفادها أنها ليست ملزمة بأية تفاهمات قد تصل إليها الدولتان خلال المرحلة القادمة.
وربما يكتسب هذا التوجه مزيداً من الأهمية مع الوضع في الاعتبار أن التفاهمات التي تجري بين طهران وواشنطن قد لا تقتصر على الاتفاق النووي، وإنما ربما تمتد إلى ملفات خلافية أخرى، مثل عدم استهداف المصالح، أو بالتحديد القوات الأمريكية في المنطقة. وقد كان لافتاً في هذا السياق أن عمليات استهداف القوات الأمريكية تراجعت بشكل واضح خلال الشهور الأخيرة، على نحو لا يمكن فصله عن الاتصالات الجارية بين الطرفين.
2- اقتراب موعد رفع الحظر الأممي على الأنشطة الصاروخية: يقترب موعد رفع الحظر الأممي على الأنشطة الصاروخية الإيرانية، في 18 أكتوبر القادم، أي بعد حوالي شهر ونصف من الآن. فهذا الإجراء الذي يبدأ بعد مرور ثماني سنوات من تاريخ اعتماد خطة العمل المشتركة (الاتفاق النووي) في 18 أكتوبر 2015، سوف يوجه رسالة مباشرة إلى كل الأطراف المعنية بالاتفاق النووي وتداعياته المختلفة، بأن إيران ما زالت تستفيد من الامتيازات التي يوفرها هذا الاتفاق، رغم تعرضه لضربة قوية بعد الانسحاب الأمريكي منه في 8 مايو 2018.
ورغم أن إيران لم تلتزم في الأساس بهذا الحظر، حيث ما زالت حريصة على تطوير برنامجها الصاروخي، والإعلان باستمرار عن صواريخ باليستية جديدة بمديات مختلفة، مستندة في هذا السياق إلى أن صواريخها الباليستية، وفقاً لادعاءاتها، ليست مصممة لحمل أسلحة نووية، وهى الصواريخ التي يفرض الحظر على الأنشطة الخاصة بتطويرها، رغم ذلك، فإن تنفيذ هذا الإجراء قد يدفعها إلى المضي قدماً في اتخاذ خطوات جديدة لتطوير هذا البرنامج، الذي يثير قلقاً خاصاً لدى إسرائيل والدول الغربية، خاصة أن هذه الدول تربط المعطيات التي يمكن أن يفرضها رفع الحظر باستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية واتهام إيران بتقديم دعم عسكري لروسيا لإدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
3- استمرار تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%: كان لافتاً أن تقارير عديدة أشارت في مرحلة ما بعد الإعلان عن صفقة تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن الأولى ربما أبطأت عمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، واعتبرت أن ذلك ربما يأتي في سباق التفاهمات الجاري الحديث عنها بين طهران وواشنطن.
لكن إيران سارعت إلى تأكيد استمرار عمليات التخصيب بنسبة 60%، حيث قال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي، في 27 أغسطس الجاري، أن “التخصيب النووي لدينا مستمر على أساس قانون إطار العمل الاستراتيجي”، في إشارة إلى التشريع الذي أصدره مجلس الشورى الإيراني في عام 2020، ويلزم الحكومة باتخاذ تدابير مثل تعزيز عمليات تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز الحد المنصوص عليه في اتفاق طهران النووي المبرم في 2015 إذا لم تلتزم الأطراف الأخرى بشكل كامل بالاتفاق.
ومع أن إسلامي أكد استمرار التخصيب، إلا أنه في الوقت نفسه لم ينف إبطاءه، ويعني ذلك أنه لا ينفي أيضاً التقارير السابق الإشارة إليها، وبالتالي يُبقي على احتمال أن تكون طهران بالفعل قد اتخذت هكذا خطوة في إطار محاولات للتهدئة مع واشنطن، تتوازى مع التوقف عن منح الضوء الأخضر للمليشيات الموالية لها باستهداف قواتها في المناطق التي تتواجد فيها داخل كل من العراق وسوريا.
لكن ما يهم إسرائيل في هذا الصدد ليس إبطاء عمليات التخصيب، هذا إن كان ذلك صحيحاً في الأساس، وإنما استمرار هذه العمليات وعلى هذا المستوى.
إذ تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن إيران تمتلك من المواد الانشطارية ما يمكن أن يساعدها في إنتاج ما بين 4 إلى 5 قنابل نووية. لكن ينقصها بالطبع تقنيات أخرى، مثل تصنيع المفجر النووي ورؤوس الصواريخ التي سيتم تركيب القنابل عليها، وهى عمليات قد تستغرق وقتاً ليس بالقصير.
ومن هنا، فإن إسرائيل ربما تتجه إلى مواصلة هذا التصعيد، لتأكيد أنها لن تقف صامتة أمام أي محاولة إيرانية سواء لزيادة كميات التخصيب أو لرفع مستواه.
وفي كل الأحوال، فإن اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي سوف يبدأ في 11 سبتمبر القادم، سوف يكشف، في الغالب، عن مدى التطور في مستوى وكميات اليورانيوم الذي قامت إيران بتخصيبه خلال المرحلة الماضية.
إذ كان آخر تقرير صدر عن الوكالة في نهاية مايو الماضي، وكشف أن إيران أنتجت من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة ما يوازي 23 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي، حيث يحدد هذا الاتفاق الكمية التي تلتزم إيران بإنتاجها وهى 202.8 كيلوجرام، في حين أن الأخيرة قامت بالفعل بإنتاج 4744.5 كيلوجرام، وهى كمية يتوقع أن تكون قد زادت خلال الشهور الأربعة الأخيرة، وهو ما يبدو أنه محط مراقبة ومتابعة مستمرة من جانب تل أبيب.