مقتل بريغوجين.. دلالاته وانعكاساته على مستقبل “فاجنر”

مقتل بريغوجين.. دلالاته وانعكاساته على مستقبل “فاجنر”

أعلنت السلطات الروسية، في 23 أغسطس 2023، تحطُّم طائرة خاصة، ما أدى إلى مقتل 10 أشخاص، بينهم 3 طيارين و7 من قادة مجموعة “فاجنر” العسكرية الروسية الخاصة، على رأسهم زعيم المجموعة، يفجيني بريغوجين، ومؤسسها المشارك، ديمتري أوتكين. وأفادت وزارة الطوارئ الروسية، في بيان لها، بأن الطائرة الخاصة المملوكة ليفغيني بريغوجين من طراز “إمبراير ليجاسي” تحطمت بالقرب من قرية كوجينكينو بمنطقة تفير، أثناء رحلتها من مطار شيريميتيفو بموسكو إلى مدينة سان بطرسبورج، بعد العودة من دولة أفريقية، وذلك دون الكشف عن أسباب سقوط الطائرة.

وكما يطرح هذا الحادث تساؤلات حول أسبابه وتوقيته والأطراف المسئولة عنه، فإنه يطرح تساؤلات أهم حول تداعياته المستقبلية خاصة على مجموعة “فاجنر” وقواتها العسكرية في مرحلة ما بعد بريغوجين. فيما كان من اللافت مسارعة الأطراف الدولية المنخرطة في الحرب الروسية – الأوكرانية إلى توظيف الحدث كلٌ وفق مصالحه ومنظوره وتفسيراته.

توقيت لافت ومتهمون عديدون
بجانب أهمية حدث مقتل زعيم ومؤسس مجموعة “فاجنر” العسكرية، فإن توقيت الحادث كان لافتًا ليس فقط للربط بينه وبين كونه عقابًا أو انتقامًا على تمرد “فاجنر”، بل أيضًا لأن مقتل بريغوجين جاء تحديدًا في الذكرى الشهرية الثانية على إعلان تمرده، فبينما شهد يوم 23 يونيو 2023 إعلان زعيم مجموعة “فاجنر”، يفغيني برغوجين، تمرده على القيادة الروسية، وتوجهه نحو العاصمة موسكو، شهد تاريخ 23 أغسطس 2023، مقتل مؤسس المجموعة أوكتين وزعيمها بريغوجين على الأراضي الروسية بعد إقلاع طائرتهما من موسكو، في دلالة ربما تكون مقصودة، أو مصادفة لا تخلو من إشارة مثيرة للانتباه.

وبرز العديد من الأطراف كمتهمين محتملين بالضلوع في قتل قادة “فاجنر” وتحطيم طائرتهم، في ضوء عدم إعلان الجانب الروسي بشكل رسمي عن سياق وأسباب سقوط الطائرة، وعدم إعلان أي طرف مسئوليته عن الحادث إن كان متعمدًا. ويأتي على رأس تلك الأطراف المتهمة بالتورط في إسقاط طائرة زعيم “فاجنر”، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، باعتبار أنه لم يكن من الممكن أن يتسامح مع تصرفات يفغيني بريغوجين التي أضرت بسمعة روسيا الأمنية والعسكرية في الخارج بعد قيادة “فاجنر” تمردًا عسكريًا كان في طريقه إلى العاصمة الروسية، ما هز بعض الشيء من صورة بوتين السياسية والأمنية، وأثار شكوكاً بشأن سيطرته على الدولة بشكل مُحكم، ومدى قدرة مجموعات عسكرية على التمرد عليه أو السيطرة على مناطق من الدولة الروسية وصولاً إلى العاصمة نفسها، خاصةً أن الأزمة قد اتخذت بُعدًا شخصيًا بين بوتين وبريغوجين منذ إعلان التمرد.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وصف الرئيس الروسي ما فعله زعيم “فاجنر” بأنه “خيانة” و”طعنة في الظهر”، وتأكيده إن من يدعمون تلك التحركات المتمردة سيدفعون الثمن، مع الأخذ في الاعتبار أن بوتين نفسه سبق وأكد في مقابلة أجراها عام 2018، أن “الشيء الذي لا يغفره هو الخيانة”. وبالتالي اُعتبر أن إسقاط الكرملين الدعوى الجنائية ضد بريغوجين لا يعني غفران بوتين خيانته، وأن عقابه على “الخيانة” مسألة وقت لا أكثر.[1]

وداخل روسيا، تبرز أيضاً القيادات العسكرية الروسية كمستفيد وراغب رئيسي في الإطاحة بيفغيني بريغوجين والانتقام منه، خاصةً أن خلاف قادة “فاجنر” الرئيسي كان مع القائمين على إدارة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبالتحديد وزير الدفاع ورئيس الأركان العامة. وانصبت انتقادات بريغوجين بشكل رئيسي على إدارة العمليات العسكرية وعلى مواجهة قوات الجيش الروسي لقوات “فاجنر”، وعدم إمداد وزارة الدفاع المجموعة بما تحتاجه من ذخيرة ومعدات.

فإذا كان الخلاف بين بوتين وبريغوجين ناتجاً عن خروج غضب زعيم “فاجنر” عن الحد المسموح به إلى التمرد، فإن الخلاف الأعمق منذ ما قبل التمرد -والذي تسبب في التمرد- كان مع قادة الجيش الروسي، حيث وجه زعيم “فاجنر” العديد من الاتهامات والانتقادات للقيادة العسكرية الروسية. بل كشفت تقارير إعلامية نقلاً عن مسئولين غربيين، في يونيو 2023، أن بريغوجين لجأ إلى خيار التمرد العسكري بعد فشل خططه للقبض على وزير الدفاع، سيرجي شويجو ورئيس الأركان، فاليري جيراسيموف، أثناء توجههما إلى جنوب البلاد. ما يشير إلى عمق الصراع بين الطرفين.

ويلعب الاجتماع الذي عقده الرئيس الروسي مع بريغوجين ومجموعة من قادة “فاجنر”، في 29 يونيو 2023، وعودة بريغوجين إلى موسكو، دورًا في تعزيز احتمالات هذا السيناريو باعتبار أن تلك القيادات قد تكون خشيت من محاولة زعيم “فاجنر” العودة تدريجياً إلى المشهد، في ضوء أهمية أدوار المجموعة الخارجية، وخاصةً في أفريقيا، للكرملين. وقد ذكرت قناة “جراي زون” القريبة من “فاجنر” على تطبيق “تيليجرام” أن الطائرة أُسقطت بواسطة الدفاعات الجوية، ملقية باللوم في الحادثة على وزارة الدفاع الروسية، التي كان بريغوجين في صراع شديد مع قياداتها.

وأشارت احتمالات إلى تورط أوكرانيا وحلفائها في الحادث، رغم أنها لا تهاجم العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى، لكن تستند تلك الاحتمالات لقدرتها خلال الآونة الأخيرة على استهداف العمق الروسي بمُسيّرات مسلحة أو مفخخة. وتًلمح بعض المصادر الروسية باحتمالية تورط أوكرانيا وحلفائها في الحادث لتوريط موسكو وتوظيفه ضدها. ويُشار في هذا السياق إلى عودة بريغوجين من أفريقيا، ولذلك يطرح ذلك السيناريو ضلوع الدول الغربية في التخطيط لقتل زعيم “فاجنر” ليس فقط لإحراج موسكو، ولكن أيضاً كجزء من الصراع الدائر على النفوذ في أفريقيا.

ووصلت بعض السيناريوهات إلى حد الحديث عن ترتيب بريغوجين لهذا الحادث كخطوة درامية لترتيب اختفائه وإغلاق صفحة التمرد، رغم إعلان مؤسسة الطيران الفيدرالية الروسية وتسجيلات منسوبة لقادة في مجموعة “فاجنر” مقتل زعيم المجموعة ومؤسسها. واستندت تلك السيناريوهات إلى تأخّر الإعلان عن العثور على جثث القتلى، ورغم إعلان تقارير إعلامية عن تواجد جثة بريغوجين في مكتب الطب الشرعي، إلا أن البعض سيظل مقتنعاً بتلك الرواية طالما لم تظهر جثة يفغيني بريغوجين علنًا.

وأخيراً، هناك سيناريو يدفع بوقوف عوامل داخلية أو ذاتية وراء سقوط الطائرة، فبينما برزت في الساعات الأولى أحاديث عن احتمالات العطل التقني أو الفني كمخرج لنفي أي مسئولية جنائية عن الحادث، لكن تدحض بيانات موقع “فلايت رادار” ذلك الاحتمال، حيث ذكر الموقع أن الطائرة لم تعاني من أية مشاكل، وأنها هبطت أكثر من 8 آلاف قدم في غضون نصف دقيقة تقريبًا، بما يشير إلى نهاية دراماتيكية وسقوط مفاجئ للطائرة، وليس بعد صعوبات في القيادة نتيجة مشكلات تقنية[2]. كما ظهرت تقارير تستند إلى “مضيفة جوية” حول وجود صيانة وعمليات غير اعتيادية على الطائرة قبل إقلاعها، فيما تحدثت تقارير عن زرع قنبلة في الطائرة، وذكرت وسائل إعلامية روسية أن قائد الطائرة هو من كان لديه صلاحية الوصول إلى الطائرة قبل إقلاعها، وسط تلميحات إلى تورطه في الحادث. وتذكر بعض التقارير حدوث انفجار في الهواء في إحدى العجلات، ما أدى إلى تضرر أحد أجنحة الطائرة. فيما ذكرت مصادر روسية، أن التحقيقات تتمحور حول فرضية وجود عبوة ناسفة على متن الطائرة، وأن هذه العبوة قد تكون وضعت في هدية صعدت إلى الطائرة في اللحظات الأخيرة، عبارة عن صندوق من النبيذ الفاخر.[3]

وعلى الأرجح، تشير احتمالات سقوط الطائرة إلى أيادٍ استخباراتية أو عسكرية، سواء عبر احتمالات سقوطها بصواريخ ونيران الدفاعات الجوي، أو زرع قنابل على متن الطائرة، وهو احتمال من الممكن أن يتزايد ترجيحه خلال الساعات القادمة. وتشير غالبية أصابع الاتهام إلى الطرف الروسي في الوقوف وراء ذلك الحادث في ظل معطيات السياق والتوقيت، مع الصمت الروسي الرسمي حتى الآن، والخبرة السابقة لقتل خصوم بوتين، أو المقربين منه الذين اختلفوا معه، خاصةً منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

التوظيف السياسي للحادث
على جانب آخر، يمثّل حادث سقوط طائرة زعيم مجموعة “فاجنر” ومقتله رفقة مؤسس المجموعة وعدد من قياداتها وكوادرها فرصة للعديد من الأطراف لتوظيفه سياسيًا بشكل مباشر أو غير مباشر، ومعلن أو خفي. فداخليًا، وإن لم يعلن الكرملين أو أية أطراف رسمية روسية مسئوليتها عن الحادث، إلا أن تلك الحادثة ستضاف إلى قائمة العديد من الحوادث الأخرى التي شهدت مقتل “خصوم” الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومنتقديه، وخاصةً منتقدي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الذين لقوا حتفهم في ظروف غامضة. ورغم أن الحكومة الروسية لا تعلن مسئوليتها عن تلك الحوادث، لكنها ترسل إشارات ضمنية بالتكلفة الباهظة لمعارضة الرئيس و”خيانته”، الأمر الذي يزيد من إحكام سيطرة الرئيس الروسي على مقاليد الحكم، ويأمل بوتين كذلك أن يساهم مقتل بريغوجين في تصحيح الصورة السلبية التي سببها مشهد تمرد قوات “فاجنر”.

فيما سارعت الدول الغربية المناوئة لروسيا إلى توظيف الحدث ضد النظام الروسي، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، حيث وفر الحادث فرصة لتلك الدول لإثبات فرضياتها تجاه السلوك “الإجرامي” للنظام الروسي باعتباره نظامًا “استبداديًا” يتخلص من خصومه خارج إطار القانون، فبعدما حذّر الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في يوليو 2023، من احتمالات قتل رئيس “فاجنر”، يفغيني بريغوجين، عبر التسميم[4]، يأتي حادث مقتل قادة “فاجنر” على متن الطائرة ليستغله الرئيس الأمريكي كدليل على صحة رؤيته للنظام الروسي وسلوكياته، ولذلك عبّر بايدن عقب الإعلان عن مقتل بريغوجين عن عدم تفاجئه. فيما أكد المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، أوليفييه فيران، وجود شكوك منطقية حول ظروف تحطم طائرة يفغيني بريغوجين. واتفق الجانبان الفرنسي والأمريكي على أنه قلما تحصل أمور في روسيا بدون أن يكون بوتين وراءها[5]، في إشارة إلى مسئولية الرئيس الروسي عن “اغتيال” زعيم مجموعة “فاجنر”.

فيما تسعى أوكرانيا بطبيعة الحال إلى ربط الحادث بشكل رئيسي بالحرب الروسية عليها، وبتمرد “فاجنر” الذي يرتبط بمسار الحرب. وفضلاً عن أن بريغوجين كان أحد أعداء كييف، ويُمثّل التخلص منه ضريبة مناسبة من وجهة النظر الأوكرانية، فإن كييف تعمل على توظيف تمرد “فاجنر” وصولاً إلى القضاء على زعيمها كأحد تكاليف الحرب التي تتحملها روسيا. فضلًا عن توظيف الحدث لتشجيع الروس على التخلص من نظام بوتين، وتثبيط همم المقاتلين عن الاستمرار في القتال ضمن الصفوف الروسية ضد أوكرانيا.

فقد اعتبر مستشار الرئاسة الأوكرانية، ميخايلو بودولياك، إن “تحطم الطائرة في روسيا والتخلّص من بريغوجين ومن قيادة فاجنر بعد شهرين على محاولة التمرد هو رسالة من بوتين للنخب الروسية قبل انتخابات 2024″[6]، في إشارة واضحة إلى مسئولية الرئيس الروسي عن هذا الحادث الذي يتم توظيفه من الجانب الأوكراني والغربي عموماً باعتباره حادثًا عقابيًا على التمرد ورادعًا لأية معارضة محتملة قبيل الانتخابات، مع توظيف الحدث لإحداث نوع من عدم الثقة العسكرية في القيادة.

وتروّج كييف إلى أن بوتين عقد العزم على التخلص من بريغوجين منذ تمرده عليه، وكان ينتظر اللحظة المناسبة فقط. وبدلًا من أن يُعبّر مقتل بريغوجين عن رسالة رادعة لمنتقدي النظام الروسي، فإن كييف تحاول عكس الأمور واعتبار أن قتل بريغوجين كان راجعًا إلى تصديقه لضمانات الرئيس البيلاروسي، ألكساندر لوكاشينكو، و”كلمة الشرف” التي أطلقها بوتين. كما استخدم بودولياك الحادث لتثبيط همم المقاتلين الروس، حيث قال: “هي أيضاً إشارة إلى الجيش الروسي: لن يكون هناك أبطال من قوات العمليات الخاصة. إذا لم تكن المحكمة الأوكرانية، فستكون رصاصة من جهاز الأمن الفيدرالي”.[7]

وفيما أشارت بعض التقارير إلى أن بريغوجين كان يمتلك بعض الوثائق التي تكشف عن مخالفات وفضائح تُدين النخبة الروسية، وأنه أوصى بنشرها عقب مقتله، فإن هذا الأمر حال حدوثه من شأنه أن يؤثر على روسيا، وستستغله المعارضة والقوى الغربية المناوئة للنظام الروسي.

كما ستحاول أوكرانيا والدول الغربية توظيف الحدث لزعزعة العلاقات بين الحليفين الروسي والبيلاروسي، ففي حين قّدم الرئيس البيلاروسي، ألياكسندر لوكاشينكا، نفسه كوسيط بين بوتين وبريغوجين وقدّم لزعيم “فاجنر” ضمانات أمنية مقابل خروجه إلى بيلاروسيا وإنهاء تمرده، ستحاول كييف وحلفائها الغربيون استغلال مقتل قادة “فاجنر” لضرب صورته كوسيط قادر على ضمان تعهداته وإنجاح وساطته، كما سيشككون في استقلالية لوكاشينكا، والترويج إلى أنه لا يُعوّل عليه، كمحاولة لإثارة غضبه تجاه الكرملين. وذلك فيما سيحاول رئيس بيلاروسيا تعظيم استفادته من الجانب الروسي وتعويضه عن الأدوار التي كانت ستساعده “فاجنر” في إتمامها، خاصةً فيما يتعلق بتطوير وتدريب قوات الجيش. كما قد يستقطب بعضًا من عناصر المجموعة في بلاده الذين أصبحوا بلا قيادة.

الانعكاسات على مستقبل مجموعة “فاجنر”
يمكن تناول مستقبل مجموعة “فاجنر” الروسية على ثلاث محاور رئيسية يتعلق أولها بوضع المجموعة نفسها وهيكلها التنظيمي، وثانيها بعلاقتها مع روسيا، والثالث بأدوار المجموعة الخارجية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- مستقبل مجموعة “فاجنر” وهياكلها التنظيمية والقيادية: من الممكن أن تعاني مجموعة “فاجنر” في الأيام الأولى لمقتل أبرز قاداتها من “شللٍ مؤقت” في القيادة التنظيمية على وقع صدمة مقتل زعيم ومؤسس المجموعة. وفيما أشارت مصادر من داخل المجموعة لمنصات إعلامية إلى العمل حاليًا على إعادة الترتيب التنظيمي للمجموعة، فإن جانبًا كبيرًا من مستقبل المجموعة يرتبط بالمدة التي ستتخذها عملية إعادة الهيكلة التنظيمية، وتثبيت قيادة جديدة للمجموعة، وقدرة تلك القيادة الجديدة على امتلاك زمام الأمور داخل المجموعة والسيطرة على آلاف المقاتلين المنتمين للمجموعة بعد توسعها الكبير. ومن الممكن أن تهدد احتمالات الصراع على قيادة المجموعة مستقبل المجموعة نفسها.

ويُشار في هذا الصدد إلى أن موسكو ستسعى إلى لعب دور رئيسي في اختيار القيادة الجديدة للمجموعة لضمان علاقات ثنائية جيدة وطي صفحة التمرد. وعادة ما ترتبط قدرة المجموعات المسلحة على البقاء والاستمرار عقب مقتل قياداتها البارزة الكاريزمية بامتلاك القيادة الجديدة شخصية كاريزمية قوية لا تخلق فجوة كبيرة في عملية انتقال القيادة، وتستطيع تحقيق السيطرة المعنوية والمادية على مختلف العناصر. وتواجه مجموعة “فاجنر” تحديًا رئيسيًا يتعلق باختيار القيادة الجديدة، في ضوء أن الطائرة التي سقطت كانت تضم أبرز قيادات المجموعة، فبجانب زعيم المجموعة الأبرز يفغيني بريغوجين، هناك مساعده والرجل الثاني في المجموعة والذي لعب دورًا رئيسيًا في تأسيسها ديمتري أوتكين، وكذلك المسئول اللوجيستي للمجموعة، فاليري تشيكالوف، الذي يعد أحد كبار مساعدي بريغوجين، وتشير تقارير إلى مسئوليته عن جهاز الأمن بالمجموعة، وهما اسمان كان من المرجح أن يكونا على رأس قائمة المرشحين لخلافة بريغوجين. كما كان على متن الطائرة ألكسندر توتمين الذي كان يُشار إليه على أنه ممثل المجموعة في أفريقيا. وبذلك فإن التحدي الذي تواجه فاجنر ليس فقط مقتل زعيمها بل مقتل بعض أبرز قادتها وكوادرها.

2- مستقبل العلاقات بين “فاجنر” وروسيا: ارتبطت مجموعة “فاجنر” بعلاقات وثيقة بالكرملين، وعُدت أداة مهمة من الأدوات العسكرية الروسية، ومثّل تمرد “فاجنر” تحديًا كبيرًا للكرملين نظرًا لطبيعة الدور المهم الذي كانت تلعبه المجموعة في تنفيذ أهداف السياسة الخارجية الروسية، ليس فقط في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولكن أيضًا في بعض الدول الأفريقية كذراع طولى لروسيا تحفظ مصالحها وتحقق أهدافها. وفي حين تُعد المجموعة أحد الأدوات العسكرية الهامة لموسكو، فإنه لم يكن من الممكن أن يتسامح الكرملين مع تجاوزات زعيم المجموعة التي وصلت إلى حد قيادة تمرد عسكري تجاه العاصمة، بجانب انهيار الثقة بين الطرفين. ولذلك تمثّل إزاحة زعيم المجموعة المتمرد مدخلاً وفرصة لإعادة توظيف المجموعة والاستفادة منها، خاصةً لنفوذها ودورها في الدول الأفريقية. وبالتالي ستعمل روسيا على إعادة صياغة علاقاتها مع “فاجنر” في مرحلة ما بعد بريغوجين مع طي صفحة التمرد بضمانات تحول دون تكراره، فضلاً عما يسببه مقتل الزعيم المتمرد من “ترهيب” لمن يفكر في تحدي الدولة الروسية.

وستعمل موسكو على تحييد قيادة المجموعة، وستسعى إلى أن تكون القيادة الجديدة للمجموعة موالية للكرملين. فضلًا عن إنها ستسعى نحو إعادة المجموعات التي تمردت مع بريغوجين إلى سيادتها المباشرة في ضوء خطتها الرامية إلى ضم قوات “فاجنر” تحت سيطرة الجيش الروسي وتعديل أوضاعهم، والعمل في ظل إطار قانوني تنظيمي. فبينما كانت “فاجنر” قد وصلت إلى وضع يصعب معه تفكيكها كليةً، فإن مقتل زعيمها البارز يمكن أن يُسهّل عملية إذابة قوات “فاجنر” في المنظومة العسكرية بتوقيع اتفاقيات معها تنظم طبيعة علاقتها وعملها مع وزارة الدفاع، أو إدماج قواتها مباشرة في الجيش.[8] ولكن ثمة تحديًا سيواجه العلاقات بين “فاجنر” وموسكو يتعلق بموقف الموالين والمرتبطين شخصيًا ببريغوجين، ففي حين يمكن أن يساعد مقتل زعيم المجموعة في ترهيب من يخرج من عناصرها عن إرادة موسكو، لكنه أيضًا يمكن أن يثير غضب الآخرين ونزعاتهم الانتقامية ويغذي تمردهم المتزايد تجاه القيادة الروسية، كما سيروج لصورة سيئة عن نهاية وجزاء التعاون مع القيادة الروسية وخدمتها حين يجري الاختلاف معها.

3- مستقبل قيام مجموعة “فاجنر” بأدوارها الخارجية: يُمثّل دور “فاجنر” في حماية المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية الروسية في أفريقيا أولوية مهمة للقيادة الروسية، فضلًا عن أن ذلك الدور يُعد أحد مصادر التمويل الرئيسية للمجموعة. ولذلك، من المنتظر أن تستمر “فاجنر” في أداء مهامها في القارة الأفريفية. وفيما يمكن أن يكون تمرد المجموعة على الرئيس الروسي قد أثار شكوكًا لدى القادة الأفارقة حول درجة الثقة في التعامل مع قادة المجموعة، وخشيتهم من ظهور أطماع لقادة المجموعة، فإن من شأن رحيل بريغوجين عن قيادة المجموعة أن يُهدِّئ تلك الشكوك من النزعة التمردية لقيادة المجموعة. لكن من المرجح أن يتحدد جانب مهم من التفاعل الأفريقي مع “فاجنر” وحدوده بشكل مرتبط بعلاقة القيادة الجديدة بالكرملين، حيث ستخشى الدول الأفريقية من أن تدخل في إطار صراع آخر بين المجموعة والكرملين بخلاف الصراع الموجودة فيه بين روسيا والقوى الغربية، فمن شأن تفاقم صراع روسي-روسي، حال حدوث ذلك، أن يثير مخاوف القادة الأفارقة تجاه عمل المجموعة.

وفي الحرب الأوكرانية لم يعد لمجموعة “فاجنر” دور في مسار العمليات العسكرية عقب انسحابها من الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا وإعلان تمردها على القيادة السياسية والعسكرية الروسية. ورغم حاجة الجانب الروسي إلى مقاتلين لدعم جهوده القتالية ضد أوكرانيا، وصلت إلى حد ظهور إعلانات على شاشات مستخدمي الإنترنت في كازاخستان تعرض مبلغًا يزيد عن 5 آلاف دولار تُدفع فورًا مقابل الانضمام إلى الجيش الروسي عبر آلية التعاقد[9]، فإن القيادة العسكرية الروسية من المفترص ألا تقبل بتكرار خطأ انخراط المجموعة التنظيمي في ساحة القتال دون سيطرة كاملة عليها أو آليات تنظيمية ضابطة، ومع ذلك فقد تعمل موسكو على جذب بعض مقاتلي المجموعة كمتعاقدين مع وزارة الدفاع لتنفيذ مهام في إطار العملية العسكرية الروسية تحت إدارة وقيادة وزارة الدفاع.

وفيما يُنظر إلى مقتل زعيم المجموعة وذراعه الأيمن على أنه من المفترض أن يُهدِّئ من مخاوف بولندا بشأن تأثير قوات المجموعة الموجودة في بيلاروسيا على الأمن البولندي، فإن رئيس وزراء بولندا، ماتيوش مورافيتسكي، يتوقع أن تُشكّل مجموعة “فاجنر” العسكرية الروسية الآن تهديدًا أكبر تحت سيطرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين[10]، في ظل قناعة بولندية سابقة بأن نقل قوات المجموعة إلى بيلاروسيا، يهدف إلى زعزعة استقرار الجناح الشرقي لحلف الناتو. ولكن، ترتبط تأثيرات مقتل بريغوجين على نشاط المجموعة تجاه بولندا بمستقبل المجموعة نفسها، ففي حال تمكُّن بوتين من السيطرة التامة على المجموعة وتنظيم نشاطها، من الممكن أن يُشكّل عناصرها الموجودون في بيلاروسيا مخلبًا روسيًا تجاه بولندا ودول الناتو. كما أن تفرُّق المجموعات الموجودة في بيلاروسيا سيطرح بدوره مخاطر عبر تسللهم إلى بولندا وغيرها من الدول.

وفيما عملت بيلاروسيا على الاستفادة من انتقال مجموعة “فاجنر” إلى أراضيها في تدعيم الخبرات القتالية لجيشها، حيث عمل عدد من مقاتلي المجموعة كمدربين للقوات البيلاروسية في عدد من الاختصاصات العسكرية في أراضيها، مع تسجبل “فاجنر” في بيلاروسيا كمنظمة تعليمية،[11] فمن المنتظر أن يستمر هؤلاء في تقديم تلك المهام سواء بعد خروجهم من مجموعة “فاجنر” حال حدوث بعض التفكك أو تصعيد غير مرغوب فيه تجاه موسكو، أو حتى باتفاق مع الجانب الروسي حال نجاح السيطرة الحكومية الكاملة على المجموعة.

وبشكلٍ عام، يمكن الإشارة إلى أن استمرار الدور الخارجي للمجموعة يمثّل هدفًا مشتركًا لها وللكرملين، وأن الاختلاف فقط حول حدود وطبيعة علاقة الطرفين ومستوى الضبط. وبالتالي، يرتبط مستقبل الأدوار الخارجية للمجموعة، بمستقبل المجموعة التنظيمي نفسه، وبمستقبل علاقتها مع موسكو.

ختامًا، فيما مثّل تمرد يفغيني بريغوجين وقوات مجموعة “فاجنر” العسكرية الروسية الخاصة، حدثًا دراميًا مهمًا، وتطورًا لافتًا نتاج تطورات الحرب الأوكرانية، والاختلافات التي تفاقمت بين “طباخ بوتين” المقرّب منه وبين القيادات العسكرية أولًا وصولًا إلى الخلافات مع الرئيس الروسي نفسه، فإن مشهد نهاية بريغوجين الدرامي عبر سقوط طائرته بطريقة مجهولة لم يُعلن عنها، كان متماشيًا مع تطورات الأحداث، حيث برزت العديد من التوقعات منذ تمرد زعيم “فاجنر” بأن هذا التمرد لن يكون الحلقة الدرامية الأخيرة، بل ربما يكون بداية لأحداث أخرى، وظلت التساؤلات عن مصير يفغيني بريغوجين، مطروحة خلال الشهرين الماضيين، حتى جاء حادث الطائرة ليطرح الإجابة، ويصدّق التوقعات بأن مصير زعيم “فاجنر” بات على المحك منذ تحديه للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.