خطاب مصر لخفض الإنجاب يصطدم بعرف اجتماعي و”محرمات” دينية

خطاب مصر لخفض الإنجاب يصطدم بعرف اجتماعي و”محرمات” دينية

تصطدم مساعي الحكومة المصرية لخفض الإنجاب بعرف اجتماعي و”محرمات” دينية تتعارض جوهريا مع جهودها لتنظيم النسل بما يدعم مخططات التنمية. وتلقي القاهرة باللوم على ارتفاع نسب الإنجاب في عرقلة مردودها التنموي وهو قول لا يحظى، وفق مراقبين، بمصداقية.

القاهرة – أصبحت قضية الانفجار السكاني في مصر أزمة كاشفة لفشل مواجهتها من قبل الحكومة ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام لترقى إلى أعلى مراتب الخطورة، حيث اعتبرها البعض في مرتبة موازية للإرهاب، وتصنفها السلطة خطرا على الأمن والاستقرار لأنها تنسف معدلات التنمية.

وكشف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أثناء حضوره مؤتمرا للسكان عقد بالعاصمة الإدارية في القاهرة، الثلاثاء، عن خوفه العميق من استمرار الارتفاع في معدلات الزيادة السكانية في البلاد السنوات المقبلة ما يتسبب في كارثة، لافتا إلى أن الحرية المطلقة في الإنجاب تعني أن الدولة كلها سوف تدفع الثمن.

وأشار إلى أن مشكلة السكان كانت من أسباب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 عندما خرج الناس في احتجاجات غاضبة لشعورهم بأن الدولة لا تستطيع أن تقدم لهم المطلوب، مشددا على أن قدرات الدولة لا تستطيع تلبية مطالبهم، ولا بديل عن تدخل الجهات الرسمية والتوعوية والثقافية والدينية لدعم خفض الإنجاب.

ويزيد عدد سكان مصر حاليا عن 105 ملايين نسمة، ويستحوذ ملف الزيادة السكانية على جزء كبير من اهتمام السلطة، لكن لا تزال حلول ضبط النمو السكاني غائبة عن الحكومة أمام تمرد غالبية الأسر على كل توجه يجري إقراره كجزء من الحل، ويبدو غير واقعي أحيانا أو يتم تقديمه للشارع بطريقة تحمل ترهيبا.

تعاني الحكومة المصرية من صعوبة ترسيخ مفهوم تنظيم النسل لدى المواطنين، لأن عددا كبيرا من الأسر، تحديدا الفقيرة التي تمثل نحو 40 في المئة من المجتمع، تنظر إلى كثرة الإنجاب على أنه سند اقتصادي، حيث يتم استثمار الأبناء في أعمال حرفيّة ووظائف يقومون من خلالها بالإنفاق على متطلبات الحياة المعيشية للأسرة.

وفي المقابل، لا يزال خطاب السلطة المرتبط بالتوعية من مخاطر كثرة الإنجاب يستهدف شريحة بعينها من الأسر ولا ينزل إلى مستوى سكان المناطق الريفية والقبلية والشعبية التي تتعامل مع كثرة عدد الأبناء باعتبارها “عزوة”، وأن تحديد النسل أو تنظيمه مخالف للشرع وأشبه بـ”المحرمات”، ما يمثل تحديا بالغا لخطط الدولة.

وتتعامل السلطات المصرية الرسمية مع تنظيم النسل كقضية اجتماعية وليست اقتصادية، ما جعل خطابها ضعيفا وقليل الفائدة لكثيرين، وهو ما تستثمره تيارات مناوئة لتحريض الناس على التمادي في إنجاب الأبناء ليكونوا قوة اقتصادية لعائلاتهم من خلال إلحاقهم بسوق العمل ومواجهة الفقر الذي تسببت فيه أخطاء الحكومة.

تشويه تنظيم النسل
وبات الخطاب الرسمي بلا تأثير تقريبا أمام هيمنة الخطاب الديني على خطط وحياة الناس في قضية الإنجاب وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وهي معضلة قد تدركها الحكومة، لكنها لا تزال تتعامل معها باستخفاف، وترى أن الأزمة مرتبطة فقط بغياب الوعي والفهم لطبيعة المشكلة، مع أن الخطاب الدعوي من صميم الأزمة.

ولا تعرف الأسر التي تعيش في المناطق الريفية والشعبية الأكثر إنجابا معلومات دقيقة عن خطط الحكومة في مواجهة الانفجار السكاني، وربما لا تستوعب كلامها، وتصدق فقط أئمة المساجد والشيوخ الذين يحتكون بالشارع أكثر من العناصر العاملة في مجال تنظيم الأسرة، وأصبحت هناك فجوة بين الحكومة والسكان في فضاء تنظيم النسل.

وتكتفي معظم المؤسسات الرسمية بالدعوة إلى تنظيم الأسرة دون إقناع الأهالي بأن المعتقد الديني حول كثرة الإنجاب ارتبط بأحاديث وتفسيرات تزامنت مع أحوال وأوضاع المسلمين قديما، ولم تعد تصلح لهذا العصر، لأن الظروف تغيرت ومن شأن استمرار هذا الوضع أن يؤدي إلى تفكيك الأسر وأن يعم الفقر، وهو ما يرفضه الإسلام.

وتتمسك الحكومة بتوجيه خطابها إلى الآباء والأجداد لمواجهة الزيادة السكانية مع أن ذلك قد لا يجدي نفعا، وتتجاهل تخصيص خطاب معتدل ومقنع إلى الأبناء (ذكورا وإناثا) كي تستميلهم بعيدا عن الحصول على المعلومات بشأن الإنجاب من أرباب الأسر الذين يقدسون الأفكار التي تحث على زيادة النسل وترك الأرزاق على الله.

وتخلو المناهج التعليمية من أيّ خطاب يحمل مزايا إنسانية وصحية ومجتمعية واقتصادية من وراء خفض الإنجاب، وبات الشباب والفتيات أسرى لتوجهات عائلاتهم وفتاوى التمجيد في زيادة الإنجاب التي تستند إلى آيات قرآنية، وأحاديث بعضها يحمل تفسيرات عاطفية، في ظل تمسك الكثيرين باستفتاء شيوخ السلفية في كل ما يرتبط بالعلاقات الأسرية أمام تراجع الثقة في المؤسسة الدينية الرسمية.

ولا تمثل الحوافز المالية المقدمة من الحكومة لمن يلتزمون بخفض الإنجاب قيمة كبيرة للناس أمام الغلاء والجباية والضرائب التي تتحصل عليها الدولة، وهناك أسر مقتنعة أنها ستحصل على حوافز لخفض الإنجاب من أموال دفعتها للدولة بغير رضاء.

قال ياسين مصطفى وهو رب أسرة بسيطة في حي المطرية الشعبي بالقاهرة ولديه أربعة أبناء ويطمح في المزيد “إذا كانت الحكومة تبرر الدعوة إلى خفض الإنجاب بالحفاظ على التنمية فأغلب المتمسكين بزيادة الإنجاب يتعاملون مع الأبناء كمصدر للرزق وتعظيم موارد الأسرة، بالتالي نحن نعظم مواردنا أمام زيادة فقرنا”.

ولم يظهر الأب خلال حديثه مع “العرب” قناعات بمبررات الحكومة لخفض معدلات الإنجاب، لأنه يعتقد أن الطفل يأتي برزقه، ويمكن تشغيله في سن صغيرة لمساعدة الأسرة على تجاوز الظروف المعيشية الصعبة، معقبا “البسطاء لن يختاروا مصلحة الحكومة على حساب مصالحهم، لأن عمل الأبناء يزيد العوائد الاقتصادية للعائلة”.

ويحمل استمرار هذه النوعية من القناعات دلالات خطيرة على أن التمرد الأسري لن يتوقف، فالناس يشعرون أن التوجه الحكومي في زيادة معدلات التقشف وزيادة الأسعار هو محاولة لإجبار الأهالي على خفض الإنجاب، واتجاهها إلى خفض الدعم للأسر التي تنجب طفلين فقط كإجراء عقابي قد تكون له انعكاسات سلبية بزيادة معدلات الجهل، وما يتمخض عنه من مشكلات مرتبطة بالأمية.

ولا يدرك دعاة التهديد برفع الدعم عن الأبناء أن تداعياته قد تكون أشد خطورة على الزيادة السكانية، ويكفي أن الأسرة الفقيرة ربما لا تعلم ابنها ليتحول بعدها إلى شخص منعدم الوعي، يؤمن بالزواج المبكر وزيادة المواليد ولا يفهم شيئا عن التنمية والاقتصاد، ويركز كل هدفه على مسايرة حياته بالطريقة التي يراها مناسبة.

وإذا سألت أيّا من الأسر البسيطة حول إمكانية ضياع حقوق أولادها إذا رفضت الاستجابة لتنظيم النسل، يأتي الرد ممزوجا بالتشاؤم على طريقة “الابن من يصنع مستقبله، والحكومة لا تساعده، فالتعليم والصحة والسكن وغيرها من الحقوق المشروعة تدفع فيها تكاليف باهظة، ولا تشارك فيها الحكومة بشيء”.

تعظيم الموارد ذاتيا
قال عادل بركات الباحث في التنمية البشرية بالقاهرة إن سياسة الترهيب الحكومي لن تجدي نفعا مع الأسر التي تستسهل الإنجاب لقناعات دينية واقتصادية ومجتمعية، وهذه بحاجة إلى جهود كبيرة عبر مسارات متوازية ومتعددة، والأهم تقديم حوافز للأسر التي تنظر إلى الإنجاب كسند اقتصادي لضرب معتقد الإنجاب من أجل جلب المال.

وأضاف لـ”العرب” أنه لا يمكن مخاطبة الشارع الذي يتحرك بلغة الفتوى بخطاب حكومي خشن، لأن البعض متشددون لكثرة الإنجاب، وبينهم من يتباهى بذلك، والحل أن يتم التركيز على الأجيال الجديدة بخطاب يعيد تشكيل وعيهم وأفكارهم.

ويعكس ربط الحكومة الزيادة السكانية بضعف معدلات التنمية وزيادة الفقر إخفاقها في وضع خطة عملية، لأن نفس معدلات الزيادة قريبة مما كانت عليه في حقب سابقة، ولم يكن عدد السكان شماعة تعلق عليها الإخفاقات الاقتصادية، وكانت سياسات الحكومة تستوعب الزيادة السكانية بشكل معقول.

وتكتفي السلطات المصرية بالشكوى دوما من الزيادة السكانية الهائلة ولا تتحرك من أجل استثمار القوى البشرية المتاحة عبر وضع إستراتيجيات لزيادة إنتاجية العامل المصري، وتبدو كأنها تبحث عن مبررات للاستسلام للأمر الواقع.

وأنفقت مصر أموالا طائلة على بناء مدن جديدة وطرقات وجسور لاستيعاب الكثافة السكانية، يرى معارضون أنه كان يمكن توظيفها في مجالات إنتاجية تحقق تضاعف إنتاجية العامل بدلا من طوابير البطالة، لكن الحكومة سلكت الطريق الصعب، وأصبحت المشاريع التي تمتص البطالة يعاد خلقها أمام الزيادة السكانية.

وأكد حسن الببلاوي الخبير المصري في علم الاجتماع أن الحكومة إذا أرادت الحفاظ على معدلات التنمية أمام كثرة الإنجاب عليها تغيير خطة التنمية لتتناسب مع ظروف الشريحة التي تقدس المواليد بالتركيز على تشييد مشروعات بقرى ومناطق تنتشر فيها ثقافة الولادات كي تكون لدى سكانها قوة اقتصادية تغنيهم عن زيادة الأبناء.

وأوضح لـ”العرب” أن أغلب الشباب لديهم ميراث ثقافي خاطئ مطلوب نسفه بالنزول إلى واقعهم المعيشي بخطاب تنويري ورؤية اقتصادية تجعلهم يتراجعون عن فكرة العزوة، لا أن يتم التحدث إليهم من مؤسسات حكومية فخمة ومنابر إعلامية متعددة، إذ يجب أن تكون هناك رؤية شاملة بأسلحة مختلفة في توقيت واحد.

ولفت إلى حتمية وجود خطاب ديني داعم للحكومة في مسألة خفض الإنجاب، لأن الفتوى أقصر الطرق إلى تغيير مواقف الفئات الفقيرة التي تعتبر سببا في الزيادة السكانية، فالدين من الأساسيات التي تسيّر حياتهم، ومهما كانت هناك مبادرات رسمية دون دعمها بفتوى رسمية لن تؤتي ثمارها.

وبغض النظر عن إمكانية تصويب خطط الحكومة من عدمه، هناك أسس يجب التركيز عليها لتحقيق تقدم ملموس في مواجهة الانفجار السكاني، ولم يعد هناك بديل عن تغيير مسار الأولويات لخلخلة معتقدات وأفكار المجتمع سواء أكانت دينية أو اقتصادية أو اجتماعية، لأن الخطاب التقليدي لن يحقق أيا من رؤى الحكومة.

العرب