مع إعلان مشروع المعبر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، على هامش اجتماعات مجموعة الاقتصادات العشرين الكبرى في نيودلهي مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، يدخل التنافس على جغرافيا المعابر والممرّات البرية والبحرية مرحلة جديدة غير مسبوقة في السياسة الدولية. ويبدو أنّ منطقة الشرق الأوسط، وفي قلبها المنطقة العربية، التي تمتّعت تاريخياً، بموقع جغرافي هام باعتبارها نقطة وصلٍ مركزية بين قارات العالم القديم، ستكون ساحة مفتوحة لهذا التنافس خلال العقود المقبلة، وفيها سيتقرّر مصير النظام الدولي وتتحدّد ملامحه. يهدف المشروع “الهندي” بحسب وجهة النظر الأميركية، إلى قطع الطريق على المشروع الصيني المعروف باسم مبادرة “الحزام والطريق”، لكن تداعياته الإقليمية لن تكون أقلّ أهمية، ليس فقط لجهة العلاقات المتنامية يبن الأطراف المشاركة في المشروع الهندي، بل أيضاً، وعلى الدرجة نفسها من الأهمية، تأثيره في العلاقات بين الأطراف المتضرّرة، التي يُرجح أن تترجم المشروع باعتباره مسعى يستهدف تهميشها والإضرار بمصالحها.
أوّل المتضرّرين ستكون إيران، التي يوجه المشروع الهندي، في حال تنفيذه، ضربة موجعة لخططها بإنشاء معبر “شمال جنوب” الذي يهدف إلى الربط بين مومباي في الهند وشمال أوروبا عبر القوقاز وروسيا. وتقع إيران في قلب هذا الممرّ، ويمكّنها في حال تدشينه من التحكّم بحلقة وصل حيوية بين آسيا وأوروبا. وعليه، يرجّح أنّ إيران لن تستسلم بسهولة أمام محاولات إجهاضه. المتضرّر الثاني من المشروع الهندي تركيا التي احتجّ رئيسها، رجب طيب أردوغان، على استبعاد بلاده من المشروع بالقول “إن مشروعاً لا تكون تركيا جزءاً منه لن يكتب له النجاح”، وإنّ “الخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب” هو الخط العابر من بلاده. وتخشى تركيا التي تطمح إلى التحوّل إلى عقدة مواصلات كبرى بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، إلى بناء مجموعة معابر، منها معبر “طريق التنمية” الذي يعدّه بعضهم إحياءً لمشروع ربط البصرة ببرلين مروراً ببغداد واسطنبول، كذلك تطمح تركيا إلى فتح معبر زانغزور الذي يربط تركيا بأذربيجان عبر إقليم ناختشيفان الأذري، ومنها إلى بحر قزوين والفضاء التركي في آسيا الوسطى. الطرف الثالث المتضرّر من المعبر الهندي هو مصر، حيث يمثل المعبر المذكور تهديداً لقناة السويس التي تعدّ شرياناً حيوياً اقتصادياً لمصر، وسهماً استراتيجياً يضعها في قلب العالم، فالمعبر الهندي يوفر 40% من نفقات الشحن وزمن العبور أيضاً مقارنة بقناة السويس، ما يعني تهميشاً لها.
ورغم أنّ المشاريع التركية والإيرانية تمثل هي الأخرى تهديداً لقناة السويس، وتعدّ في حالة تنافس أيضاً في ما بينها، حيث تمثل خطة تركيا لإنشاء معبر زانغزور ضربة لمشاريع إيران للوصول عبر القوقاز إلى روسيا وأوروبا، مع ذلك يمثل المعبر الهندي نقطة تهديد مشتركة للدول الثلاث، ويمكن أن يؤدي إلى تعاون بينها لإجهاضه، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار التقارب الأخير بين مصر وتركيا، وتزايد احتمالات كسر الجمود في العلاقات بين طهران والقاهرة. ويمكن أن يمثل موقف موسكو وبكين دعماً بهذا التوجّه، فالصين تعتبر نفسها مستهدفة مباشرةً من المشروع، أمّا روسيا، فرغم أنها لا تتضرّر مباشرةً من المعبر الهندي، إلا أنّها، هي الأخرى، قد تجد فيه تهديداً، نظراً إلى أنه يضع الهند كلياً في المعسكر الأميركي. كذلك روسيا مستفيدة من مشروع الممر الإيراني، ولديها هي الأخرى مشاريعها لإنشاء ممرّات بديلة تربط آسيا وأوروبا مثل الممر البحري الشمالي الذي يربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ عبر منطقة القطب الشمالي، التي يتوقع مع استمرار ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الثلوج، أن تصبح خاليةً من الثلوج بحلول منتصف القرن. وفي ضوء توتر العلاقة مع الغرب وإحكام “الناتو” سيطرته على بحر البلطيق، تزداد أهمية هذا المعبر ليغدو من الشرايين البحرية المهمّة لحركة التجارة الروسية مع العالم.
يبدو بوضوح إذاً، أنّنا أمام معركة ممرّات كبرى تنخرط فيها القوى الدولية والإقليمية الرئيسة، ويرجّح أن تلعب دوراً مهمّا في إعادة صياغة المشهد السياسي العالمي، ومعه خريطة التحالفات التي أخذت تتبلور بوضوح في المنطقة والعالم، والتي سيتعيّن فيها على الجميع في مرحلة ما أن يختار موقعه منها.