بغداد – يحتاج الاقتصاد العراقي إلى قطاع خاص أكثر قوة لكي ينمو، ويتطلب ذلك وجود قوة عاملة من الشباب العراقي لديها مهارات جاهزة في مجال ريادة الأعمال. لذلك، تقوم الجامعات ذات النمط الأميركي بملء هذه الفجوة.
وأقامت الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية في الثامن من يونيو مراسم التخرج الخامسة عشرة لها احتفالا بتخريج 250 طالبا. ووصفت السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوسكي في خطاب التخرج الذي ألقته أن النمط الأميركي للتعليم يمنح فرصة فريدة “لتعزيز التفكير النقدي، وتقبل التنوع، وتشجيع الابتكار”. ولذلك، يحتاج الاقتصاد العراقي المتردي الآن أكثر من أي وقت مضى، إلى المزيد من الفرص التعليمية التي تركز على هذه الاحتياجات.
ويواجه العراق تحديات عدة، وفقا لتقرير للبنك الدولي صدر مؤخرا عن الوضع الاقتصادي في البلاد، بما في ذلك انخفاض قيمة الدينار، وتداعيات الموازنة التوسعية المفرطة للغاية التي تم إقرارها للفترة 2023 – 2025، بالإضافة إلى غياب الإصلاحات الهيكلية اللازمة. ولكي يتغلب العراق على هذه العقبات عليه أن يعمل على تطوير اقتصاد مستدام ونابض بالحياة، قابل للتحرر من التركيز الحصري على النفط والفرص التعليمية المحدودة التي ترافقه.
وحفّزت في البداية صناعة النفط في العراق على إنشاء المؤسسات الفنية وصاحب ذلك ارتفاع الطلب على الفنيين المهرة، وكانت الانطلاقة في ستينات القرن الماضي بثماني جامعات فقط. أما اليوم فهناك أكثر من مئة جامعة من الجامعات العامة والخاصة في العراق تتوزع على 18 محافظة. وتقدم هذه المؤسسات برامج البكالوريوس والدراسات العليا لحوالي 900 ألف طالب سنويا وتخرّج 180 ألف طالب في كل عام. ويبدو أن النمو في هذا القطاع لن يتوقف، حيث تأسست أربع عشرة من هذه الجامعات بعد عام 2003، في اتجاه تصاعدي متزايد.
ولكن بدلا من تعليم المهارات والتفكير النقدي المطلوبين في السوق، تنتج الجامعات الحكومية شهادات ملائمة لوظائف القطاع العام. وفي دولة مثل العراق يشكل فيها من هم دون سن الخامسة والعشرين، نحو 60 في المئة من السكان، وتقدر فيها نسبة البطالة بين الشباب رسميا بـ35 في المئة، لا يمكن للدولة ببساطة أن تخلق فرص عمل كافية لتلبية الطلب المتزايد. وقد حد هذا الأمر من تطور القطاع الخاص ومن القدرات التنافسية للعراق. فلا عجب في أن قطاع ريادة الأعمال العراقي يتخلف عن دول الخليج المجاورة بثبات.
إن العمالة في القطاع العام وحده لا تكفي لتنمية الاقتصاد العراقي وتلبية احتياجات الوظائف التي يتطلبها السوق. كما أن إعداد الشباب العراقي للعمل في القطاع الخاص، يتطلب إجراء إصلاح شامل في نظام التعليم العالي في العراق. وعلى الرغم من قلة عدد الجامعات وصغر حجمها في الوقت الحالي، تمهد مؤسسات التعليم العالي ذات النمط الأميركي في البلاد الطريق الآن لإنجاز ذلك، حيث تعمل على توفير هذه الفرص وتقديم نموذج تعليمي بديل.
لا تُعتبر هذه المبادرات العراقية الممولة محليًا وكالات لجامعات أميركية، بل هي جزء من الواردات العراقية، ومع ذلك حفزت التحولات في سياسة الولايات المتحدة وما تبعها من توفير فرص تعليمية، العراقيين على زيادة دعمهم للجامعات ذات النمط الأميركي في البلاد. وفي السياق ذاته، وفرت الولايات المتحدة برامج التبادل والمنح للمواطنين العراقيين، بما في ذلك منحة “فولبرايت”. ومع ذلك، انخفض عدد الطلاب العراقيين الملتحقين بجامعات الولايات المتحدة بشكل كبير بين عامي 2012 و2022، إذ تضاءل العدد من 800 طالب إلى أقل من مئة. وردا على ذلك، سعت واشنطن إلى توسيع نطاق نشاطها من خلال تقديم النمط الأميركي للتعليم داخل العراق.
وكان هذا الرد هو الدافع لإنشاء الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية في عام 2007، ومن بعدها الجامعة الأميركية في كردستان، والجامعة الأميركية في بغداد، بالإضافة إلى كلية بغداد للأعمال، والجامعة الكاثوليكية في أربيل. وعلى الرغم من أن مؤسسات التعليم العالي ذات النمط الأميركي، كالجامعة الأميركية في العراق، السليمانية وكلية بغداد للأعمال، لا تمثل سوى جزء ضئيل من النسبة المئوية الإجمالية لطلاب الجامعات العراقية، فإنها تحتل مكانة بارزة.
وتشير الشعبية المتزايدة لهذه المؤسسات الخمس، التي تم إنشاؤها على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، إلى مدى إعجاب العراقيين بالعلامة التجارية للجامعة الأميركية في العراق. وتعتبر الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية، وهي جامعة فنون ليبرالية، أقدم وأكبر جامعة أميركية من نوعها في البلاد، وقد بدأ برنامج الجامعة صغيرا، وتألفت دفعة طلابها الأولى من 45 طالبا فقط. وبحلول عام 2022 وصل عدد طلاب الجامعة إلى 1600 طالب، ما يشير إلى الجاذبية المتزايدة لهذا النموذج.
وفي حين يشكل خريجو هذه المؤسسات جزءا صغيرا من إجمالي عدد الخريجين العراقيين، فإن البيانات المتاحة حول مسارات عملهم تشير إلى أن هذه البرامج كان لها تأثير ملموس على الفرص المتاحة لخريجيها. وإضافة إلى ذلك، يختار ما يقرب من 75 في المئة من خريجي هذه الجامعات البقاء في البلاد، سعيا وراء فرص عمل في القطاع الخاص.
والدافع وراء هذا الاختيار هو الرغبة في مناهج تعليمية غير تقليدية والحصول على فرص يمكنهم من خلالها العمل في مجال ريادة الأعمال والابتكار، وهي مبادئ يروجها النمط الأميركي للتعليم. وعلى الرغم من أن قطاع ريادة الأعمال والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في العراق لا يزال في مراحل نموه الأولى، يلعب اعتماد النمط الأميركي للتعليم دورا فعالا في تعزيز هذا القطاع ونموه.
ويكتسب خريجو هذه المؤسسات المعرفة والمهارات وعلاقات تمكنهم من إدارة الشركات التجارية المحلية. ويكمن الاختبار الحقيقي لهذه الخبرات في التطبيق الفعال لها في سوق العمل، كما يتضح في مثال شركة “ليزو”، وهي شركة بقالة على الإنترنت أسسها خريج من الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية. ودخلت “ليزو”، منذ تأسيسها في عام 2018، في شراكة مع أكثر من أربعة آلاف متجر وخدمت أكثر من 300 ألف عميل في ست مدن موزعة في جميع أنحاء إقليم كردستان العراق، وحققت إيرادات قدرها 13.1 مليون دولار.
كما لعبت “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” دورا مهما في دعم مبادرات ما بعد التخرج وقدمت حوالي ثلاث آلاف منحة وقرض تجاري منذ عام 2019، ما أدى إلى توفير الآلاف من فرص العمل وزيادة ملحوظة بنسبة 65 في المئة في إيرادات الشركات، كما تلقى ما يقرب من 7500 من رواد الأعمال الشباب خدمات تطوير الأعمال الحيوية مكنتهم المساهمة في التقدم الاقتصادي للبلاد.
ولا شك أن هذه الجامعات ذات النمط الأميركي ليست الحل الأمثل إطلاقا، حيث يختار حوالي 20 – 25 في المئة من خريجي هذه المؤسسات السفر إلى الخارج بدلا من البقاء في العراق، مفضلين متابعة التعلم هناك وشغل الوظائف التي يتم تسهيلها من خلال الصلات الدولية. وعلى الرغم من أن عدد الطلاب الجامعيين في الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية آخذ بالازدياد تدريجيا، فهو لا يزال منخفضا مقارنة بعدد الطلاب الهائل في جامعة بغداد والبالغ 70 ألف طالب. في النهاية، يبقى هذا النوع من التعليم مفهوما جديدا جدا في العراق، وعلى الرغم من أن مؤسساته غير ربحية، فهي تواجه منافسة شديدة من قبل الجامعات الحكومية المجانية.
◙ الرسوم الدراسية للجامعة الأميركية في العراق، السليمانية تختلف بحسب درجات الطالب في شهادة البكالوريا، وتتراوح بين 1450 و8000 دولار سنويا
وتختلف الرسوم الدراسية للجامعة الأميركية في العراق، السليمانية بحسب درجات الطالب في شهادة البكالوريا، وتتراوح بين 1450 و8000 دولار سنويا، بينما يتم تحصيل عشرة آلاف دولار سنويا من الطلاب الدوليين. ونظرا إلى اعتماد البلاد على أسعار النفط المتقلبة، فإن الالتزام بأربع سنوات من الرسوم الدراسية قد يكون محفوفا بالمخاطر، حتى لو كان هذا التقلب نفسه يعني أن وظائف القطاع العام التي وعدت بها الحكومة قد لا تكون متوفرة.
وتواجه الجامعات ذات النمط الأميركي تحديًا آخر يتمثل في شعبية شهادات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات ووظائف القطاع العام، على النطاقين المحلي والإقليمي. وستتطلب محاولة تغيير التصور الثقافي للشهادات الجامعية الخاصة وقتًا وقصص نجاح كثيرة مشابهة لشركة “ليزو”. وتشكل هذه التحديات فرصة لشركاء مثل الولايات المتحدة للاستثمار في الفرص التعليمية المستدامة والمتنوعة للشباب العراقي، وتساهم بشكل كبير في استقرار البلاد على المدى الطويل.
وتلعب الحكومة الأميركية دورا محوريا في تعزيز التعليم العالي، إذ قدمت أكثر من 100 مليون دولار من التمويل منذ عام 2004 وأطلقت برامج رئيسية مثل برامج “فولبرايت” للتبادل والعلماء الزائرين، وشراكة التعليم العالي، وبرنامج تبادل القيادات الشابة العراقية. ومن ثم، سيكون من الأفضل أن تعمل الحكومة العراقية على تطوير جامعاتها بالتعاون مع الولايات المتحدة وذلك بهدف تعزيز نظام التعليم العالي والإنتاجية.
وتدعم الولايات المتحدة بشكل فاعل من خلال هذه الاستثمارات الإستراتيجية تطوير كل من الفنون الليبرالية والمهارات العملية القابلة للتسويق للطلاب العراقيين، وتمكنهم من صقل التفكير النقدي وتمنحهم القدرات اللازمة لحل المشكلات لتحقيق نجاحات شخصية ومهنية أكبر. ففي عام 2022، قدمت وزارة الخارجية الأميركية إلى الجامعة الأميركية في كردستان منحة بقيمة 2.55 مليون دولار، وأعطت الأولوية بشكل خاص للنساء وطلاب الأقليات من خلفيات اجتماعية اقتصادية مختلفة، لتمنحهم فرصًا متساوية للحصول على النمط الأميركي للتعليم.
وفي المقابل، ستساهم هذه الاستثمارات التعليمية بدورها في تقوية الروابط بين البلدين وشعبيهما بشكل كبير. ومع تضاؤل نسبة المشاركة في برامج التبادل التعليمي الأميركية، وبينما يواجه العراق تحديات داخلية كبيرة خاصة به، أصبح الدعم المباشر من قبل الولايات المتحدة للجامعات العراقية والطلاب العراقيين أكثر أهمية من أي وقت مضى. وعلى وجه الخصوص، يجب أن يتعامل الدعم الأميركي مع الوضع التعليمي الجديد في العراق، إذ أصبحت وزارة التعليم العالي الآن تحت سيطرة “عصائب أهل الحق”، وهي جماعة مصنفة على قائمة الإرهاب الأميركية.
ومع أن هذه الجماعة لم تتخذ بعد أي إجراءات مهمة قد تضر بأنظمة التعليم في العراق، يجب على الولايات المتحدة أن تدرك الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه فرصها التعليمية في مواجهة نفوذ “عصائب أهل الحق” وكأساس رئيسي للقطاع الخاص الذي تشتد الحاجة إليه في العراق. ويمكن للولايات المتحدة تعزيز الاقتصاد العراقي وبناء روابط ثابتة تتجاوز الشكوك السياسية، من خلال مواصلة التزامها بالمؤسسات التعليمية ذات النمط الأميركي وتعزيزه.
العرب