القاهرة – فهمت مصر من تلميحات وتصريحات قيادات إسرائيلية، تحث سكان قطاع غزة الذين يتعرضون لقصف مكثف من قوات الاحتلال على النزوح إلى مصر، أنها رسالة مباشرة إليها والضغط عليها لاستيعاب أكثر من مليوني مواطن يعيشون داخل غزة في منطقة سيناء المجاورة وخلق أزمة بديلة، وحرف القضية الفلسطينية عن مساراتها التاريخية.
وتوالت التقارير عقب اندلاع الحرب بين حركة حماس الفلسطينية، التي تساندها حركة الجهاد الإسلامي، وإسرائيل منذ السبت الماضي حول تفريغ غزة من سكانها، ووضع مسؤولية الهاربين من الجحيم الإسرائيلي على عاتق الدولة المصرية.
وشدد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الثلاثاء على أن أمن مصر القومي مسؤوليته الأولى. وقال “لا تهاون أو تفريط في أمن مصر القومي تحت أي ظرف، وأن الشعب المصري يجب أن يكون واعيا بتعقيدات الموقف ومدركا لحجم التهديد”.
ولم تتوقف الردود المصرية شبه الرسمية على لسان شخصيات أمنية قريبة من الحكومة لرفض هذا السيناريو المتعسف، والذي بدأ يتصاعد مع توالي تصريحات متحدثين عسكريين في إسرائيل، وإن تم نفيها أحيانا، لكن رسائلها السياسية بقيت في الأذهان.
وازداد الأمر غموضا مع إذاعة القناة 12 الإسرائيلية الثلاثاء معلومات حول استهداف أي مساعدة إنسانية تأتي إلى غزة من خلال معبر رفح المصري، ما يقطع الطريق على القاهرة للمساهمة في تخفيف الضغوط عن سكان القطاع، ويحرجها سياسيا، حيث تعني استجابتها للتحذير قبولها التسليم بحصار الفلسطينيين، أو تحدي إسرائيل وتوجيه المساعدات والاستعداد لمواجهة قد تكون لها عواقب وخيمة.
ووقع قصف بالقرب من معبر رفح الحدودي بين غزة وسيناء الثلاثاء، لليوم الثاني على التوالي، حيث تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية دون هوادة في القطاع.
وأصدر الجيش الإسرائيلي الثلاثاء تعديلا لتصريح نصح فيه أحد متحدثيه الفلسطينيين في غزة الفارين من الضربات الجوية بالتوجه نحو مصر، وقال في بيان التعديل “المعبر الحدودي بين غزة ومصر مغلق حاليا”.
وكان كبير المتحدثين العسكريين للجيش الإسرائيلي اللفتنانت كولونيل ريتشارد هيشت قال لصحافيين أجانب “أعلم أن معبر رفح على الحدود بين غزة ومصر لا يزال مفتوحا.. وأنصح أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك”.
ونفى الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الثلاثاء وجود دعوة إسرائيلية رسمية لتوجيه سكان غزة نحو الأراضي المصرية. وقال في حسابه الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي “يقوم جيش الدفاع في الأيام الأخيرة بحملة لإخلاء مناطق تشهد تواجدا عسكريا لحماس والمنظمات الإرهابية الأخرى من السكان المدنيين، حيث يتم توجيه السكان إلى مناطق ومآوٍ داخل حدود غزة دون الخروج منها”.
وكشفت مصادر أمنية مصرية رفيعة المستوى الثلاثاء أن القضية الفلسطينية الآن تشهد منعطفا هو الأخطر في تاريخها، وأن “هناك مخططا واضحا لخدمة أهداف الاحتلال القائمة على تصفية الأراضي الفلسطينية من أصحاب الأرض وسكانها وإجبارهم على تركها بتخييرهم بين الموت تحت القصف أو النزوح خارج أراضيهم”.
وحذرت المصادر في تصريحات نشرتها وسائل إعلام محلية من “المخاطر المحيطة بتداعيات الأزمة الراهنة على ثوابت القضية الفلسطينية وعلى الحق الفلسطيني”.
وأشارت إلى وجود أطراف وقوى تخدم مخطط الاحتلال وتمهد له بتقديم مبررات الأمر الواقع لتزكية أطروحات فاسدة تاريخيا وسياسيا، سعى الاحتلال إلى طرحها على مدى الصراع العربي – الإسرائيلي وتقضي بتوطين أهالي غزة في سيناء، وهو ما تصدت له مصر وسوف تتصدى له، ورفضه الإجماع الشعبي الفلسطيني المتمسك بحقه وأرضه وأعلنته مقررات الجامعة العربية في سياقات مختلفة.
وقال اللواء محمد رشاد وكيل جهاز الاستخبارات المصرية سابقا، ورئيس ملف الشؤون الإسرائيلية في الجهاز، لـ”العرب” إن “اللهجة الحادة التي تحدثت بها مصادر أمنية مصرية جاءت ردا على الطلب من سكان غزة الذهاب إلى مصر”، مؤكدا أنه “لا يمكن السماح بتفريغ القطاع البالغ سكانه أكثر من مليوني مواطن أغلبهم لا ينتمون إلى حركة حماس أو حركة الجهاد، ولديهم الحق في أن يعيشوا حياة مستقرة”.
وأضاف أن “الموقف المصري يدفع نحو وقف إطلاق النار وإنهاء التصعيد الإسرائيلي لتكون هناك فرصة للتعامل مع الأوضاع على الأرض، وفي كل الأحوال يصعب السماح بنزوح الفلسطينيين، ومصر تدرك أن إسرائيل تريد توريطها في صراع لم تنخرط فيه أصلا”.
وأوضح أن القاهرة حذرت مراراً من تبعات استمرار الاعتداءات على الفلسطينيين، وتحذيراتها تبرهن على “أنها ستتخذ كل الإجراءات التي تكفل عدم تصفية القضية الفلسطينية والوقوف في وجه دفع المدنيين إلى سيناء. وتطورات الموقف ستكون حسب ما تفرزه الأيام المقبلة من تحركات، ولدى مصر إجراءات عديدة يمكن أن تلجأ إليها لحماية أمنها القومي”.
وحمّلت مصادر أمنية مصرية السلطات الإسرائيلية مسؤولية إيجاد ممرات إنسانية لنجدة مواطني غزة، والاستجابة للعقل وإيقاف العمليات العسكرية بشكل فوري.
وأكد اللواء نبيل أبوالنجا، مؤسس وحدة الصاعقة في الجيش المصري (999)، أن تهجير سكان غزة “هدف إسرائيلي قديم ومرفوض مصريا، ويشمل تهجير الفلسطينيين وجمع ما تبقى من يهود الشتات لتوطينهم في غزة، وهو توجه لا يسهم في تسوية الصراع، فمن سيتم تهجيرهم من أماكنهم لديهم ثأر مع الاحتلال ولن تبقى إسرائيل مستقرة”.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن “الدعم المطلق من جانب الإدارة الأميركية يجعل مصالح واشنطن حول العالم في خطر، ومصر تدرك أن التصعيد لا يخدم استقرار المنطقة، وما يمكن أن تقوم به القاهرة هو دور إنساني لتقديم كل ما يحتاجه أبناء غزة، بجانب أدوار سياسية لم تتوقف. على أن يكون هناك دور مواز من قبل الدول العربية لتبني إجراءات من شأنها أن تضغط على إسرائيل كي لا تتمادى في التصعيد”.
ولفت أبوالنجا إلى أن مصر تتعامل مع المطالب الإسرائيلية بغلق معبر رفح بشكل كلي، وتشديد الإجراءات العسكرية لضمان عدم حدوث أي عمل عدائي على الحدود.
وشدد على أن مصر “لن تكون لعبة في يد أطراف دولية تسعى لدفع القضية الفلسطينية وفقًا لرغباتها، والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في مصر لديها خطط عمل على المديين القريب والبعيد للتعامل مع هذه النوعية من التهديدات”.
وكثفت القاهرة اتصالاتها بكل الأطراف الفاعلة في المجتمع الدولي لوقف التصعيد، لافتة إلى أن رؤيتها كانت بعيدة المدى عندما حذرت الجميع من خطورة الموقف وتداعياته على ثوابت القضية الفلسطينية.
العرب