ما زلنا نذكر أمنية مجرم الحرب إسحاق رابين الذي كان يحلم بأن يصحو صباح يوم ويجد غزة قد غرقت في البحر. ذهب رابين مقتولا ودفن حلمه معه وبقيت غزة شامخة صامدة. وعندما تيقن مجرم الحرب الأكثر وحشية، أرييل شارون، أنه غير قادر على الانتصار على غزة، قرر الهروب منها وطلب من جنرالاته أن يمنعوا إطلاق المقذوفات من غزة إلى مستوطنات الغلاف، فعادوا إليه بتقرير يؤكد أن ذلك مستحيل فأصيب بجلطة قوية لم يفق منها إلى أن نقل إلى القبر. وحاولت كوندليزا رايس أن تستعين ببعض العناصر المرتبطة بمنظومة الأمن الإسرائيلي بسحق قوات المقاومة فخاب ظنها وهرب المكلفون بإثارة الفوضى ثم السيطرة على عناصر المقاومة، وعادوا إلى أحضان حلفاء الكيان في الخليج.
ثم قام الكيان نفسه بعد ذلك بسبع حروب. غيوم الصيف عام 2006 بعد خطف الجندي شاليط. وعملية الرصاص المصبوب 2008/2009 وعملية عامود السحاب عام 2012 وعملية الجرف الصامد التي استمرت 50 يوما عام 2014 وهي أطول الحروب العربية الإسرائيلية، ثم جاءت مواجهات مسيرات السياج 2018 و 2019 ثم عملية «حارس الأسوار في أيار/مايو 2021 ثم هذه المنازلة. في كل تلك العمليات عادت إسرائيل خائبة مكسورة الجناح والكرامة. وقد استنجدت بهيلاري كلينتون عام 2012 عندما كانت الظروف في مصر مواتية شعبيا حيث تدفق المئات إلى غزة لنصرتها فعلا لا قولا فقط. قصفت وقتلت آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، ودمرت البنى التحتية والمدارس والمباني ثم خرجت دون ثمن بعد أن تهشم أنفها ومرغت كرامتها في التراب، إن كان لديها شيء اسمه كرامة، وبقيت غزة صامدة تضمد جراحها وتمسح الغبار عن جبينها وتعود لترتيب أمورها وتستعد لمنازلة جديدة لأنها لا تملك خيارات أخرى.
هذه المنازلة تختلف نوعا وكما وأبعادا ونتائج عن سوابقها. لقد اختارت المقاومة في عملية «طوفان الأقصى» الزمان والمكان وباغتت العدو بعد أن اخترقت الجدار العازل وشوشت على وسائل الاتصالات واقتحمت المعسكرات وأخذت الأسرى وواجهت وصمدت وسطرت ملحمة بطولية أذهلت العالم كله. كسرت غرور الوحش الذي ألف أن يلغ في الدم الفلسطيني دون أن يحسب أي حساب.
اسم مخادع
جاء رد الفعل الأهوج من المؤسسة الصهيونية في عملية السيوف الحديدية التي تطلقها الآن لرد الاعتبار للمؤسسة المهانة. إنه اسم مخادع فلا يوجد في العملية لا سيوف ولا حديد، فقد أطاحت عملية «طوفان الأقصى» بسيوفهم وحديدهم وكرامتهم واستعداداتهم وضبطوا على حقيقتهم: كيان هش لا يصمد أمام عزيمة المقاتل الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه وتاريخه وحضارته ومقدساته وشعبه بينما هم يحتمون بمنظومة القبة الحديدية ومقلاع داود والبارجات الأمريكية والدعم الأوروبي، ولو تركوا وحدهم أسبوعا لهرعوا كل إلى موئله الأصلي الذي هاجر منه هو أو والده إلى فلسطين. يلجأون إلى صب الحمم من أعلى للتدمير والقتل والترهيب. يقطعون الماء والغذاء والدواء ولو استطاعوا لمنعوا الهواء أيضا لأن غزة أذاقتهم طعم الهزيمة، مرة وراء مرة.
المراهنات الخاسرة
كثيرون ينتظرون نتائج هذه المنازلة، وطابور المنتظرين لاجتثاث المقاومة طويل. ولا يغرنك بعض البيانات التي تتباكى على المدنيين وتطالب بخفض التصعيد والممرات الآمنة. وعلى ضوء هذه المعركة سيتقرر الكثير من النتائج. فإذا صمدت المقاومة وخرجت من هذه المنازلة واقفة، ستغير معادلات كثيرة في الشرق الأوسط وستحتل القضية الفلسطينية موقعها الحقيقي والصحيح كقضية شعب هجر من أرضه عنوة وعلى استعداد أن يضحي بالغالي والرخيص لاستعادة حقه. وإذا تمكن الكيان المدعوم بترسانة القتل غير المحدودة القادمة من الولايات المتحدة والدول الغربية من كسر ظهر المقاومة، وهو ما لا نتوقعه، سيصبح الشرق الأوسط بكامله تحت أمر الصهيوني وسيكون صف المطبعين طويلا.
فمن هم هؤلاء الذين يترقبون انكسار المقاومة بفارغ الصبر؟
أول المترقبين هم الأوسلويون الذين احتضنوا برنامج المفاوضات إلى ما لا نهاية. فلا حققوا شيئا بالمفاوضات ولا بقوا مع رغبات شعبهم في الصمود والمقاومة والنضال. بل حولوا الأجهزة الأمنية إلى سلاسل للدفاع عن العدو وليس عن شعبهم إلى أن أصبحت هذه الفئة فاقدة للشرعية وتعيش عبر أنابيب الدعم من الخارج التي تصب في شرايينها هواء وغذاء ودما. والطرف الثاني هو الذي أطبق الحصار على غزة من معبر رفح وجرف القرى من الجهة المصرية وأغلق الأنفاق وصب خندقا عميقا من الأسمنت المسلح والمياه العادمة على طول الحدود مع غزة، لا يريد أن يرى مقاومة قوية تسجل الانتصارات كي لا تضيع هذه الورقة المهمة من يده والتي يستخدمها في علاقاته الأمريكية الإسرائيلية. ومواقفه في حرب 2014 كانت أكثر من واضحة خلال 50 يوما من المواجهات،
أضف إلى القائمة الدول المطبعة جميعا والتي تريد أن ترى رأس المقاومة مجندلا في رمال غزة كي لا تشعر بالإحراج من هذه المواجهات الشجاعة التي تعريهم أكثر وأكثر. فعندما طبعوا مع الكيان في احتفالات مشينة تغطوا بالقضية الفلسطينية وادعوا أنهم سيستخدمون علاقاتهم مع الكيان من أجل وقف الاستيطان والدفع باتجاه تحقيق الشعب الفلسطيني لحقوقه وإقامة دولته. العكس تماما هو الذي حدث. الكيان فسر هذا التطبيع، محقا، بأنه تخلٍ من هذه الدول عن القضية الفلسطينية، فاستغل التطبيع لبسط سيطرته الكاملة على أرض فلسطين والتحلل تماما من أي التزامات والمضي قدما نحو التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية. ومن لديه شك فليتذكر الخريطة التي رفعها نتنياهو في خطابه يوم 22 أيلول/سبتمبر الماضي من على منبر الأمم المتحدة يدعي أن هذه خريطة إسرائيل عام 1948. هل كان يمكن أن يقول هذا لولا التطبيع، ما سلف منه وما هو آت. هل يستطيع أحد أن ينكر أن منسوب العنف والأنشطة الاستيطانية واقتحامات الأقصى وإطلاق أيادي المستوطنين تضاعف عدة مرات بعد اتفاقيات إبراهيم المشؤومة؟ لقد أدارت هذه الدول ظهرها لفلسطين ولا يخدعنك البيانات المملة حول التمسك بحقوق الشعب الفلسطيني. فبيان الإمارات حول عملية «طوفان الأقصى» كأنه كتب بيد نتنياهو. هذه الدول المطبعة ستتحرر أكثر، على الأقل خجلا من شعوبها المتعاطفة تماما مع فلسطين إلا من بعض الذباب.
والجهة الرابعة التي تتمنى عثرة المقاومة هي الدول التي على وشك التطبيع، فقد جاءت المنازلة الكبرى في غلاف غزة وما تبعها من حرب إبادة على غزة لتعكر سير المفاوضات التي تغنى بها نتنياهو من على منبر الجمعية العامة. هذه المنازلة، وخاصة بعد انتهاء غبار المعركة وخروج المقاومة سالمة، ستغير المعادلة كثيرا ولا أحد يستطيع أن يتجاوز الشعب الفلسطيني أو ينظر إليه نظرة دونية. إن مشروع الخط التجاري الذي يربط الهند بإسرائيل مرورا بالإمارات والسعودية والأردن وصولا إلى حيفا لن يرى النور. فالكيان الذي لم يحم نفسه من ألف مقاتل هل سيحمي هذا المشروع؟ وهل سيثق به أحد؟
لا حاجة أن أذكر أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية، على استعداد أن تدخل المعركة لإنقاذ الكيان الذي أنشأوه واستثمروا في تطويره وتسليحه وعدوانيته الكثير لو تعرض للخطر. لقد أثبتت عملية «طوفان الأقصى» للولايات المتحدة وحلفائها أن هزيمة هذا الكيان وتفكيكه ممكنة. وهو ما يبين أسباب هذا الهلع وهذا الاصطفاف غير المسبوق بالعدة والعتاد.