يعد تخزين المؤونة بالنسبة إلى العائلات السورية طقسا صيفيا يعدون فيه الفاصولياء والمكدوس وورق العنب وغيرها من المواد التي تنخفض أسعارها لكي يطبخوها في فصل الشتاء، لكن هذه العادة بدأت تندثر خاصة في الأوساط الفقيرة بسبب الغلاء وتراجع القدرة الشرائية وانقطاع التيار الكهربائي المتواصل.
دمشق – قبل سنوات الحرب كانت الأسر السورية تتفنن في إعداد أشكال وأصناف عديدة من المؤن ليتم تخزينها قبل قدوم فصل الشتاء، وكانت موائدها عامرة بمختلف أصناف المربيات والمواد الغذائية، لكن غلاء الأسعار وضعف القدرة الشرائية لدى شريحة واسعة من السوريين دفعا الكثير منهم إلى العزوف عن هذه العادة القديمة.
وفي شهري سبتمبر وأكتوبر من كل عام يشرع السوريون في إعداد مؤونة الشتاء من المكدوس (أكلة شعبية يتم إعدادها من الباذنجان المسلوق والمحشي بالجوز والفلفل والثوم وغمره بالزيت) والبقوليات والمربيات بمختلف أنواعها، إضافة إلى تجفيف الفواكه الذي يتزامن مع افتتاح المدارس وشراء مادة المازوت لغرض التدفئة، والتي باتت تثقل كاهل الأسر السورية عامة، ولكن هذا الطقس الشعبي المتوارث تغير، وأصبحت المؤن تقتصر على ما هو ضروري، بل والاكتفاء بالحد الأدنى منها.
ولعل انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة في معظم المناطق كان من العوامل التي شكلت عائقا أمام هذا الطقس السوري المعتاد، فتخزين المؤن في الثلاجات يحتاج إلى ساعات طويلة من الكهرباء، فلجأت غالبية الأسر إلى تجفيفها عبر تعريضها للشمس ثم تخزينها، لكن بكميات قليلة، واقتصر ذلك على شرائح مجتمعية سورية محددة.
وقالت سميرة العبدالله (56 عاما)، وهي ربة منزل تعيش في منزلها مع أسرتها المؤلفة من أربعة أشخاص، لوكالة أنباء شينخوا “قبل الحرب في سوريا كانت غالبية الأسر تتفنن في صنع ما لذ وطاب من طعام وشراب لتخزينه كمؤونة قبل حلول فصل الشتاء، أما خلال سنوات الحرب فقد اختلف كل شيء، واليوم غالبية الأسر تخزن بعض المؤن ذات السعر الأرخص والأقل كلفة”.
وبينت العبدالله أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة شكلت عائقا أمام غالبية الأسر السورية في سعيها لتأمين المؤن اللازمة لفصل الشتاء، وبات الأمر مقتصرا على ما هو ضروري.
ورغم الأتعاب التي تواجهها ربّات المنازل والواجبات التي تقوم بها المرأة السورية ظلت العائلات تُجهّز المؤن للشتاء، واضطرت أم الحارث إلى تقليل كميات المؤونة لأنها أصبحت مكلفة للغاية، وعن ذلك تقول “ضعف الحال أجبرنا على تقليل الكميات إلى ما دون النصف لأن الأسعار مرتفعة جدا هذا الموسم”.
وأعربت أم سامر (43 عاما)، وهي موظفة حكومية، أثناء تجولها في إحدى أسواق الخضروات وسط العاصمة دمشق عن حزنها لما وصلت إليه الأسرة السورية من فقر وخروج الكثير من المواد الغذائية من قائمة التخزين لفصل الشتاء.
وأوضحت أن شهر المؤونة في سوريا يتزامن عادة مع بدء العام الدراسي، وهذا الأمر يشكل إرباكا شديدا لمعظم الأسر السورية، وخاصة التي لديها أكثر من تلميذ في المدرسة، مؤكدة أن غلاء أسعار الخضروات بشكل كبير حرم الناس من تخزين المؤن، واعتبرت أن “هذا شيء محزن للغاية”.
أما الشابة هديل السالم (32 عاما)، وهي متزوجة ولديها طفل صغير، فروت أنها كانت تشاهد أمها وهي تحضر الكثير من الأصناف لمؤونة الشتاء، وكانت تتمنى أن تحذو حذو أمها عند زواجها، لكنها قالت “يبدو أن هذا الحلم لن يتحقق، لأن الوضع الاقتصادي لا يسمح”.
وقالت السالم “كل شيء غالٍ، فكلفة كيلوغرام من المكدوس الواحد تبلغ أكثر من 50 ألف ليرة سورية”، مبينة أن الأسر الصغيرة تحتاج إلى 5 كيلوغرامات على الأقل، يعني 250 ألف ليرة سورية تقريبا، “وهذا هو راتب زوجي في شهر”.
من جانبه أكد حمد الهادي (37 عاما) أن غلاء الأسعار خطف الفرحة من بيوت السوريين عموما، وغاب طقس المؤونة الذي كان الأهل يجتمعون لممارسته، مبينا أن هذا الأمر ترك أثرا سلبيا في نفوس الناس.
وقال الهادي، أثناء وجوده في إحدى معاصر الدبس بمحافظة السويداء (جنوب سوريا)، “قبل سنوات كان الناس يساعدون بعضهم البعض في قطاف العنب وعصره في المعصرة كي يُستخرج منه دبس العنب، وكانوا يوزعون الدبس بشكل مجاني على الأسر المحتاجة”، مؤكدا أن هذه العادة غابت، والسبب هو غلاء الأسعار وارتفاع كلفة الإنتاج.
ويعاني جميع السوريين من انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، ما حرم عدة عائلات من إعداد مؤونة الشتاء خلال فصل الصيف، وسط انعدام الحلول للمشكلة المستمرة منذ ما يزيد على عشر سنوات.
وتقول أم عصام (56 عاما) التي تسكن في حي باب سريجة بدمشق “في العام الفائت خسرت كل ما خزنته في برادي بسبب انقطاع الكهرباء الطويل”، وكذلك خسرت السيدة الخمسينية ما يقارب الـ250 ألف ليرة ثمن مؤونتها التي فَسَدت و”خمت” بحسب تعبيرها. ولا يختلف ما حدث مع أم عصام عن غيرها من نساء العاصمة دمشق اللواتي فقدنَ مؤنهنَّ وخسرنَ ثمنها جراء انقطاع الكهرباء الطويل.
وقالت السيدة نجاح “هذا العام خزنت القليل من مؤونة الشتاء، مثل البازلاء وورق العنب والفول”، معتمدة على طريقة التجفيف، إذ تخلت عن وضع البامية والملوخية في الفريزة ولجأت إلى طريقة التيبيس، وكذلك فعلت مع البندورة بعد تقطيعها ووضعها في الشمس ومن ثم حفظها.
في المقابل هناك أسر فقدت قدرتها على تأمين مؤونة الشتاء نتيجة العوز المادي، وسط وقوع أكثر من 90 في المئة من العائلات السورية تحت خط الفقر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
ويعزو خبراء الاقتصاد في سوريا تدهور الأوضاع المعيشية في سوريا إلى سنوات الحرب الطويلة وخروج الكثير من الموارد الطبيعية والثروات النفطية عن سيطرة الدولة السورية، إضافة إلى العقوبات الأميركية التي استهدفت الشعب السوري في لقمة عيشه وحرمته من الطعام والدواء.
العرب