فضائيو العراق».. جيش من الفاسدين تحت الأرض

فضائيو العراق».. جيش من الفاسدين تحت الأرض

مصطلح «الجيش الفضائي» في العراق ليس جديدا، بل كان يقتصر استخدامه أول الأمر على باعة النفط ومشتقاته ممن كانوا يستغلون الأزمات التي تمر بها البلاد، ليستثمروا فيها.كانت مهمة هؤلاء الذين أطلق عليهم مصطلح «الفضائيين» تتمثل في أن يتسلموا كميات من الوقود من محطات التعبئة عبر طرق وأساليب شتى، من بينها أن يظلوا لأوقات طويلة في الصفوف.. وأحيانا يقضون الليل كله في سبيل الحصول على الوقود، قبل بيعه للمواطنين بأسعار عالية جدا. حدث ذلك قبل سنوات، ومن ثم امتدت هذه الظاهرة لتستقر في المؤسسة العسكرية وتشمل حصرا أولئك الذين يتسلمون رواتب وأحيانا نصف رواتب من الجيش والشرطة مقابل ألا يحضروا لدوام العمل، بينما يذهب النصف الآخر من رواتبهم ومستحقاتهم الأخرى من مأكل وملبس وتجهيزات عسكرية إلى ما بات يعرف فيما بعد بمافيات الفساد.

مصطلح «الفضائيين» ليس براءة اكتشاف يمكن أن تسجل باسم رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، لكن يسجل له أنه أول من بدأ بمحاربة هذه الظاهرة.

إذن تبدو الظاهرة في العراق مركبة.. فهي ابتدأت بالنفط ومشتقاته، ثم انتقلت إلى المؤسسة العسكرية، لكنها طبقا لما بات يكشف عنه امتدت إلى كل مؤسسات الدولة عبر مختلف عمليات البيع والشراء والتعيين والتوظيف.

القنبلة التي فجرها العبادي في مداخلة له أمام البرلمان العراقي تمثلت في الكشف عن 50 ألف فضائي (جندي وهمي) في الجيش العراقي وبالذات في أربع فرق عسكرية فقط (الجيش العراقي يتكون من 17 فرقة). لكن نائب الرئيس العراقي إياد علاوي رجّح إمكانية وجود ربع مليون «فضائي» في الأجهزة الأمنية. علاوي الذي كان أول رئيس وزراء في حكومات ما بعد التغيير عام 2003، وخسر على الرغم من فوزه بفارق صوتين عن خصمه نوري المالكي إمكانية تشكيل الحكومة عام 2010، عد «الإصلاحات التي أجريت حتى الآن في الأجهزة الأمنية غير كافية، وينبغي أن تكون في إطار رؤية متكاملة لترتيب السياسات الأمنية والدفاعية والاستخبارية»، مشيرا إلى أن تلك «الرؤية تتطلب إشراك القوى السياسية وفنيين عسكريين متجردين من الولاءات الجهوية». وأضاف نائب رئيس الجمهورية أن «ما حصل من تغييرات في الأجهزة الأمنية يمثل خطوة واحدة بالاتجاه الصحيح»، مستدركا «لكن بناء مؤسسة أمنية قوية ونزيهة يحتاج إلى مدة أطول، والخروج من النفق الطائفي والمحاصصة». وأوضح علاوي أن «أموال العراق ضاعت بسبب المفسدين»، مرجّحا أن «يصل عدد الفضائيين في الأجهزة الأمنية إلى ربع مليون، وليس 50 ألفا كما أعلن رئيس الحكومة، حيدر العبادي».

مع ذلك فإن عملية الكشف عن الفضائيين في مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها بدأت على نحو متسارع، وما إن كشف العبادي هذه الأرقام حتى توالت كشوفات نواب ومسؤولين آخرين في البرلمان والحكومة ولجان النزاهة. وبعملية حسابية أولية فإنه لو افترضنا أن عدد الفضائيين هو 50 ألفا فقط فإن مرتبات هؤلاء تصل إلى 500 مليون دولار سنويا، بواقع 700 دولار شهريا كحد أدنى، وهو رقم فلكي، وإذا أضفنا له مخصصات طعام هؤلاء الفضائيين بمعدل ثلاث وجبات تكلف الدولة (مع نسبة الفساد فيها) ما لا يقل عن 150 دولارا شهريا للفرد، فهذا يعني 90 مليون دولار سنويا أي ما مجموعه 590 مليون دولار، وإذا ضربناها في أربع سنوات هي فترة الحكومة السابقة فالرقم يصل إلى قرابة المليارين ونصف المليار دولار.

لجنة النزاهة.. مفاجآت غير متوقعة

بالنسبة للجنة النزاهة في البرلمان، وعلى الرغم من كل ما عملته خلال السنوات الماضية من كشف ملفات فساد على كل المستويات وإحالتها إلى هيئة النزاهة، فإن الأمر هذه المرة بدا مختلفا لا سيما أن هناك مفاجآت لم تكن متوقعة خصوصا على صعيد الرواتب والمخصصات والتي شجعت عملية انخفاض أسعار النفط واكتشاف خواء الميزانية العراقية على البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اختفاء مئات مليارات الدولارات من مبيعات النفط العراقي (يشكل أكثر من 92 في المائة من واردات البلاد) وعدم إنفاقها فيما يمكن أن يترتب عليه حدوث تغييرات في البلاد على كل المستويات الاقتصادية والخدمية والاستثمارية.

عضو لجنة النزاهة البرلمانية مشعان الجبوري يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك فضائيين خارج المؤسسة العسكرية ولا يقلون فسادا عنها وهم الفضائيون من المتقاعدين». الجبوري يضيف قائلا إن «هناك 23 ألف متقاعد فضائي يتقاضون رواتب تقاعدية منذ خمس سنوات، وإن مجموع ما تقاضوه من مبالغ يصل إلى مليار دولار». الجبوري أكد أن «هناك مستويات مختلفة من الفساد في كل مؤسسات الدولة، وبالتالي فإن الأمر لا يقتصر على المؤسسة العسكرية فقط، وهو ما يتطلب عملا جديا في هذا الاتجاه لوقف الهدر في المال العام».

رئيس لجنة النزاهة في البرلمان العراقي طلال الزوبعي، وهو نائب عن تحالف القوى العراقية، أكد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «اللجنة لن تسكت عن أي حالة أو ظاهرة فساد مهما كانت طالما الآن الأجواء مهيأة فعلا للتوصل إلى حلول حقيقية من أجل اجتثاث ظاهرة الفساد في البلاد». الزوبعي أضاف أن «اللجنة كانت على عهد الحكومة السابقة تواجه المزيد من الصعوبات نظرا لعدم تعاون الجهات الحكومية والتنفيذية معها، لكن الأمر اختلف الآن حيث سيتم فتح جميع الملفات التي تشوبها شبهات فساد في الدورة البرلمانية السابقة». ويؤكد الزوبعي أن «اللجنة بدأت تعمل الآن في ضوء خطة واضحة المعالم وخارطة طريق من أجل الوصول إلى كل الملفات وفي كل الدوائر والمؤسسات من أجل تنظيف البلاد من الفاسدين ومن مافيات الفساد التي نخرت بجسد الدولة والمواطن طوال السنوات الماضية».

في السياق نفسه، أكدت عضو البرلمان العراقي عن كتلة الأحرار التابعة للتيار الصدري ماجدة التميمي أن «هناك ملفا آخر من ملفات الفضائيين في العراق ويتمثل بوجود متقاعدين يتقاضون أكثر من 23 راتبا في الشهر الواحد ببطاقات ذكية متعددة». التميمي أضافت «إننا نأمل خيرا في الحكومة الجديدة بكشف ملفات الفساد التي أثقلت كاهل الموازنة الاتحادية العامة للبلد»، واصفة «الحملة التي بدأتها الحكومة برئاسة رئيس الوزراء حيدر العبادي لكشف المفسدين بالخطوة الإيجابية». وكشفت التميمي عن «تزوير البطاقات الذكية (كي كارد) في تسلم رواتب للمتقاعدين بحيث تجعل البعض يتسلم عدة رواتب خلال الشهر الواحد».

* فضائيون خمس نجوم

ملف الفضائيين لم يقف عند حدود الجنود في المؤسسة العسكرية أو المتقاعدين في الدوائر المدنية، بل تعداه إلى منصب نواب رئيس الجمهورية الثلاثة (نوري المالكي وأسامة النجيفي وإياد علاوي). رئيس كتلة ائتلاف الوطنية ورئيس البرلمان الأسبق محمود المشهداني يرى أن «نواب رئيس الجمهورية فضائيون لأن مناصبهم بلا صلاحيات، علما بأنهم يتقاضون رواتب ومخصصات وامتيازات ضخمة، بالإضافة إلى حماياتهم ومستشاريهم». وعلى الرغم من أن المشهداني ينتمي إلى الكتلة التي يتزعمها إياد علاوي فإنه لم يتوان عن وصفه في لقاء تلفازي بأنه «فضائي».

غير أن الأمر بالنسبة لرئيس كتلة التحالف المدني الديمقراطي في البرلمان العراقي مثال الآلوسي لم يتوقف عند حدود التشخيص، بل ذهب في حديثه إلى «الشرق الأوسط» إلى ما هو أبعد من ذلك قائلا إن «التحالف المدني الديمقراطي، وهو الكتلة الوحيدة المعارضة في البرلمان العراقي، قرر أن يقدم طعنا للمحكمة الاتحادية، خلال اليومين المقبلين، بوجود 3 نواب لرئيس الجمهورية». الآلوسي يرى أن «الدستور العراقي ينص على وجود نائبين لرئيس الجمهورية، ولا يجوز وجود 3 نواب». اتهامات بأثر رجعي.

الفريق علي غيدان، قائد القوات البرية السابق وأحد أكبر المتهمين بـ«نكسة الموصل» العراقية في العاشر من يونيو (حزيران) 2014، يقول في مسعى منه لتبرئة نفسه من قضية الفضائيين، وخلال استجوابه في مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي، إن «مكتب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي كل على علم بملف الجنود الفضائيين في وزارتي الداخلية والدفاع». غيدان أضاف أن «نسبة ثابتة تصل إلى 40 في المائة من رواتب الفضائيين كانت تستقطع وترسل إلى مكتب القائد العام للقوات المسلحة السابق». ويضيف أن «هؤلاء الفضائيين كانوا موزعين على أمراء الفرق والألوية والأفواج وحتى ضباط السرايا والفصائل، وبواقع 250 جنديا لآمر الفرقة، و200 لآمر الفوج، و75 لآمر السرية، وعدد أقل لأمراء الفصائل والسرايا». وأوضح غيدان أنه أخبر المالكي شخصيا بذلك، وأن مكتب القائد العام يستقطع أموالا من رواتب جنود وهميين لا وجود لهم «لكن رئيس الوزراء السابق أمرني بعدم إثارة هذه القضية مرة أخرى لأن البلد يمر بحالة حرب ولا نملك الوقت والجهد لمتابعة مثل هكذا قضايا بسيطة، كما أنه أمر لي بمكافأة 25 مليون دينار لتنبيهه إلى هذا الموضوع دون أن يتخذ أي إجراء فعلي».

العبادي أشار خلال حضوره جلسة البرلمان إلى أنه يشعر بالأسى لما حدث.. «الجنود يقاتلون ويقتلون وغيرهم يتسلم الرواتب. تمكنا من خلال تدقيق بسيط اكتشاف ذلك، وإذا أجرينا تفتيشا على الأرض فسنرى العجائب والغرائب». واعتبر أن أخطر فساد ما هو موجود في المؤسسة الأمنية. المشكلة أن الأمر لا يتوقف عند الرواتب فقط. فهناك مخصصات الإطعام لكل جندي وهي تشكل بمجموعها مبالغ كبيرة جدا. أيضا هناك التجهيزات الخاصة بالجنود من خوذ وبنادق ودروع وجعب ومخازن إطلاقات وذخائر.

المحللون الأمنيون يرون من جانبهم أن معظم هذه الأجهزة والتجهيزات باتت تذهب إلى السوق السوداء، وبالتالي فإن أحد أهم مصادر التسليح لقوى الإرهاب هو السوق السوداء الداخلية للسلاح. كما أن هنالك مشكلة سياسية ستترتب على قضية الفضائيين، فعدة انتخابات قد جرت في العراق وجرت جردة لأسماء العسكريين ضمن التصويت الخاص، وبضمن هؤلاء يوجد ما لا يقل عن 50 ألف بطاقة انتخابية عسكرية للفضائيين.

وهذا يعني أن أصوات هؤلاء ذهبت إلى الجهة السياسية المتنفذة وقتذاك. ونمضي قدما مع ملفات لجنة النزاهة الجديدة التي بدأت تشير إلى ملفات تم إغلاقها خلال الفترة الماضية بينما هي تريد فتح تلك الملفات والتي يقول عضو اللجنة أردلان نور الدين محمود، النائب عن التحالف الكردستاني، بأنها تربو على الـ40 ملفا. ويضيف محمود قائلأ إن «اللجنة ما زالت تدقق وتدرس هذه الأدلة الجديدة للتأكد من صدقيتها ثم بعد ذلك سيتم فتح هذه الملفات والتحقق مع المسؤولين المقصرين»، مبينا أن «جميع الملفات التي تم إغلاقها لا يجوز بحسب القانون فتحها مرة أخرى إلا بتوافر أدلة جديدة».

وأكد عضو لجنة النزاهة «وجود ملفات جديدة سيتم فتحها قريبا بعد استدعاء عدد كبير من المسؤولين في لجنة النزاهة، ومنهم مدير عام وزارة التجارة والمرور العامة ومفتش العام في وزارة الداخلية خلال الشهر الفائت». وطبقا لمحمود فإن الملفات التي سيتم فتحها «تشمل عقودا أبرمتها وزارتا الدفاع والداخلية ووزارات أخرى، وأن من أبرز الملفات الجديدة التي سيتم فتحها ملف الـ50 ألف فضائي في وزارة الدفاع، فضلا عن ملف المتقاعدين الفضائيين». ويشدد عضو لجنة النزاهة على أن «جميع المسؤولين المتورطين في ملف الفضائيين سيتم استدعاؤهم في البرلمان للتحقيق معهم»، كاشفا عن أن اللجنة «وزعت أعضاءها على لجان فرعية تتكون الواحدة منها من ثلاثة منهم للتدقيق بهذه الملفات المطروحة أمامها». ولم يستبعد النائب عن كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني أن يشمل الاستدعاء القائد العام للقوات المسلحة في الحكومة السابقة نوري المالكي ووزير دفاعه سعدون الدليمي أو أي ضابط متورط بملف الفضائيين في وزارة الدفاع.

حمزة مصطفى

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط

الكلمات المفتاحية: المالكي، العبادي، الفضائيون، النزاهة، الجيش العراقي، البطاقة الذكية، لجنة النزاهة في البرلمان