ليس هناك من مؤشرات إيجابية صريحة، وبالأرقام الفصيحة، يمكن للدولة التونسية أن تعوّل عليها في أزماتها الاقتصادية، سوى ثقة شعبها في ما اختارته الحكومة من سياسات داخلية وخارجية.
لم يعرف تاريخ تونس في العقود القليلة الماضية، على الأقل، التفافا بين الشعب وقيادته السياسية كما يحصل اليوم، وعلى الرغم مما قد يبدو معكرا للعلاقة من طرف بعض النخب الحزبية والقيادات النقابية.
الثقة ليست مطلقة بطبيعة الحال، فلطالما عانى الشعب التونسي من خذلان الطبقة السياسية ولُدغ من جحورها أكثر من مرة، لكن وقوف غالبيته الآن، مع الرئيس قيس سعيد، يكشف عن ثقة تبدو غريبة المنشأ بالنسبة إلى المراقب الأجنبي الذي خبر شعبا نزق السلوك، متقلب المزاج وشكاكا بطبعه.
الحكومة التونسية قادرة خلال عام 2023 على الوفاء بآجال تسديد استحقاقات تقدر بنحو 4 مليارات يورو. ويبدو ذلك ممكناً بفضل عائدات قطاع السياحة وصادرات الفوسفات وانخفاض أسعار الطاقة
أكثر ما يجعل الحكومة التونسية في مأمن من أي “ثورة شك” يمكن لها أن تندلع في أي وقت، هو ثقتها شبه المطلقة في رجل بلا حزب، بلا أيديولوجيا، بلا مجاملة أو تملق.. وبلا مصالح فردية أو فئوية أي أن الثقة ليست متأتية من أعضاء الحكومة كأشخاص وكفاءات بل في من شكلها وأظهر أنه قادر على تغييرها في أيّ وقت، ودونما تردد.
أمر نادر أن يكسب زعيم سياسي تونسي ثقة شعبه في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، وزادت عليها عوامل بيئية كالجفاف وندرة الأمطار، وعلاقة كل ذلك بأزمات دولية جعلت أعتى وأقوى الاقتصادات العالمية تقف أمامها عاجزة.
يحدث هذا في تونس الآن، ودون أن يرف للتونسي جفن من أرقام ومؤشرات اقتصادية قد تكون كارثية، خصوصا في العلاقة مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وما يمثله الاثنان من قوة ضاربة يصعب على أيّ دولة متواضعة الإمكانيات وشحيحة الموارد أن تتجاهل الشروط والإملاءات الصادرة منهما.
يكاد لا يمضي يوم إلا ويطلق فيه الرئيس التونسي تصريحاته وتحدياته واستخفافاته بتهديدات الضفة الأخرى، وكأنه زعيم دولة عظمى أيام الحرب الباردة، ولا يلاقي أيّ اعتراضات من الداخل.. ودون أن يكون من قامعي الحريات ومكممي الأفواه.. فما السر في هذه “الثقة الزائدة”، وما الذي يستند إليه حتى يظهر بمثل هذا التحدي الذي قل نظيره ولا يتجرأ عليه قادة دول ذات اقتصادات قوية وفاعلة؟
أما الأعجب من ذلك كله، هو المساندة الشعبية شبه المطلقة لخيارات الحكومة وعدم اكتراثها لبعض المزايدات المتأتية من قوى نقابية وسياسية، خصوصا في ما يتعلق بالمستحقات المتعلقة بصندوق النقد الدولي والجهات المانحة بكل ما تفرضه من شروط، وماذا سوف يكون مصير البلاد في حال استغنائها عن تلك الشروط، وهل يمكنها الصمود أم ستتخلف عن سداد ديونها؟
مشهد صعب بلا شك، ولا يمكن تجاهله وتذليله بالمكابرات وإطلاق الخطب النارية، خصوصا وأن الأسواق التونسية تشكو نقصا متقطعا في التزود ببعض المواد الغذائية الأساسية، وما يمكن أن ينجرّ عن هذه الأزمة المالية من تداعيات وخيمة أخرى في ظل عجز الدولة عن تمويل أيّ استثمار جديد.
ما يخيف التونسيين دوما هو إزالة الدعم عن المواد الأساسية الذي يؤدي إلى الزيادة في الأسعار والضرائب التي قد تكون مجحفة، لكن فرض الضرائب على الأغنياء وحدهم كما اقترح سعيد يبدو حلا ممكنا ويرضي غالبية التونسيين
الحلول لن تكون من السماء بطبيعة الحال، فوراء التفاؤل ورفع المعنويات تقف مؤشرات إيجابية كما يؤكد الخبراء الاقتصاديون رغم قتامة المشهد، ويقولون إن الحكومة التونسية قادرة خلال عام 2023 على الوفاء بآجال تسديد استحقاقات تقدر بنحو 4 مليارات يورو. ويبدو ذلك ممكناً بفضل عائدات قطاع السياحة وصادرات الفوسفات وانخفاض أسعار الطاقة، وفقاً للخبراء.
هذا على مستوى ما تقوله الأرقام، لكن الأهم منها هو تلك الإرادة السياسية المدعومة بالتفاف شعبي، بعيدا عن “الدسائس والمؤامرات والطوابير الخامسة”.. هذه المصطلحات التي يطيب للرئيس التونسي الإكثار منها في خطاباته، لكنها حقيقة في بلد يعد رقما صعبا في الخارطة الإقليمية والدولية وفق المنطق الجيوسياسي، على الرغم من ضعف موارده الطبيعية.
وإذا ما قارنّا الوضع الاجتماعي التونسي بدول الجوار العربي والأفريقي، فإن تونس ليست في أسوأ حالاتها كما يحلو لمثيري الفزع أن يصفوها، فالأمور ليست “عال العال” طبعا، لكن العيش ممكن ـ وقد يطيب ـ في بلد واعد بثرواته البشرية على وجه الدقة والخصوص.
ما يخيف التونسيين دوما هو إزالة الدعم عن المواد الأساسية الذي يؤدي إلى الزيادة في الأسعار والضرائب التي قد تكون مجحفة، لكن فرض الضرائب على الأغنياء وحدهم كما اقترح سعيد يبدو حلا ممكنا ويرضي غالبية التونسيين الذين أصبحوا غير متطلبين كعادتهم، ويقتنعون بأن “يمدوا خطواتهم على قدر كسائهم”.
وبالفعل فقد لوحظ في الأشهر الأخيرة تغير كبير في العادات الغذائية ونمط العيش الذي يحلو ويطيب للتونسي أن يحياه على الطريقة الأوروبية.. فهل مشكلة التونسي عبر تاريخه الحديث، أن يقارن نفسه بالمواطن المرفّه في البلدان الغنية.
العرب