قد يكون من الصعب على الذاكرة التسجيلية استحضار صورة لأي مسؤول أميركي، سياسي قد زار العراق منذ 2003 حتى اليوم، وقام بارتداء درع واقٍ في أعلى تدبير عما يمكن أن يتعرض له من أخطار أمنية، بخاصة في المرحلة التي اتسمت بتصاعد العلميات العسكرية ضد الوجود الأميركي في العراق، وهو، سواء كانت الزيارة للقواعد الأميركية أو كانت زيارة رسمية ولقاء مع مسؤولين رسميين، باستثناء بعض الإجراءات التي كان يتخذها الحاكم المدني بداية الاحتلال، بول بريمر.
زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بغداد تزامنت مع تصاعد العمليات العسكرية والاستهداف بالصواريخ لعدد من القواعد العسكرية الأميركية في العراق وشرق سوريا من قبل بعض الفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي تعمل في إطار قوات “الحشد الشعبي” الذي من المفترض أنه يتبع في آمريته للقائد العام للقوات المسلحة العراقية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
والزيارة تزامت أيضاً مع الإعلان الأميركي عن إرسال الغواصة الاستراتيجية النووية “أوهايو” إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، وما تعنيه الترسانة الصاروخية التي تحملها والتي تتألف من 24 صاروخاً نووياً وأكثر من 150 صاروخ “توماهوك كروز”، ومهمة هذه القطعة البحرية إلى جانب حاملتي طائرات “جيرالد فورد” و”أيزنهاور” والأسطول المرافق لهما، فضلاً عن الحشد البحري لعدد من دول حلف “الناتو” بخاصة الفرنسي والبريطاني.
وبغض النظر عما يمكن أن تسفر عنه معارك غزة بين حركة “حماس” والقوات الإسرائيلية من نتائج، فإن المحور الذي يقوده النظام الإيراني في الإقليم يعتقد بأنها ستنتهي بنتائج تخدم مصلحة المحور، ولن يتم القضاء على حركة “حماس” بحسب المعلن من أهداف تل أبيب من العملية العسكرية البرية والجوية، لذلك ربط استراتيجية التدخل أو رفع مستوى انغماس وتورط المحور في هذه المعركة والانتقال إلى توسيع دائرتها وتحويلها إلى حرب إقليمية، باقتراب إسرائيل من تحقيق هدفها بالقضاء على “حماس” وذراعها العسكرية من جهة، وإخراج ذراعها السياسية من مستقبل الحل للأزمة الفلسطينية.
في المقابل، فإن مستوى الاستنفار العسكري والأمني والسياسي الذي بدأه المحور الإيراني في الأسبوع الأخير، لم يكن محصوراً أو مقتصراً في أسبابه على معركة غزة، التي لا تحتاج منه أكثر مما يقوم به من عملية إشغال على طول الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني وما فيها من تشتيت تركيز المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على مناطق الجنوب مع قطاع غزة. بل الدافع من وراء هذا التصعيد الذي جاء واضحاً في كلام الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصرالله، ينصب على حجم التحرك والحضور الأميركي العسكري في مياه البحر الأبيض المتوسط.
فالعملية التي قامت بها “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وحجم الانهيار الذي أصاب الآلة العسكرية الإسرائيلية، أعادت خلط الأوراق على الإدارة الأميركية التي كانت قد وضعت استراتيجية واضحة في تعاملها مع منطقة الشرق الأوسط، تقوم في أحد أهدافها الرئيسة بالعمل على دفع الإقليم نحو التهدئة والتسويات، بما يساعد على تخفيف وجودها ويسمح لها بالتفرغ لملفات أخرى مع الطموحات الصينية، إضافة إلى الجهود التي تبذلها في التعامل مع الحرب الأوكرانية وتداعياتها.
وهذه العملية خلطت أيضاً الأوراق أمام المحور الإيراني وانتظاراته التي بناها على أساس الاستراتيجية التي أعلنها المرشد الأعلى للنظام بعد مقتل قائد قوة القدس قاسم سليماني على أرض العراق في يناير (كانون الثاني) 2020، والقائمة على مبدأ إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا، وتحديداً من سوريا والعراق.
وبالتالي فإن التهديد الذي وجهه نصرالله في خطابه الأول بعد نحو شهر من بدء معركة غزة، كان واضحاً في تركيزه على الدور والمسؤولية في إدارة الحرب الإسرائيلية ضد “حماس” وقطاع غزة من جهة، وأن الهدف من الحشود الأميركية في مياه البحر المتوسط يتخطى هذه المعركة وقد يؤسس إلى ما هو أبعد من ذلك من جهة أخرى، على اعتبار أن هذه الحشود لا تهدف فقط إلى تقديم الدعم للجانب الإسرائيلي، ولا تهدف لإيجاد حالة ردع للقوى الحليفة لحركة “حماس” ومنع دخولها في الحرب أو فتح جبهة جديدة قد تؤدي إلى حرب واسعة أو موسعة تجبر واشنطن وأطرافاً دولية وإقليمية للدخول فيها.
وأما العجز الذي تعاني منه المؤسستان العسكرية والسياسية في إسرائيل باستعادة قوة الردع على رغم الدعم المفتوح الذي تحصل عليه تل أبيب من واشنطن وحلفائها، والذي لا يقتصر على الجانب العسكري والميداني، بل في السكوت عما ترتكبه من جرائم ومجازر بحق المدنيين، والذي بات من الصعب على هذه الدول إدارة الرأي العام وضبط ردود الفعل ضد هذه المجازر، فإن تداعيات هذه الحرب السلبية، قد تجبر واشنطن وستجبرها في المرحلة المقبلة على إدخال تغيير في استراتيجية وجودها وانخراطها في قضايا وأزمات الشرق الأوسط، وبالتالي سيكون عليها اللجوء إلى سياسة ملء الفراغ الحاصل نتيجة الانهيار الحاصل في قوة الردع الإسرائيلية.
التهديد الواضح والمباشر لنصرالله لحاملات الطائرات والبوارج الأميركية في البحر المتوسط وأنه “أعد العدة لها”، فإنه يتجاوز التهديد لما تقوم به من دعم معلن للجيش الإسرائيلي في معركته، بل يهدف إلى توجيه تحذير للإدارة الأميركية باسمه وباسم المحور الذي تقوده طهران، بأن هذا المحور لن يسكت على هذا الوجود الذي يعني إعادة تعزيز الوجود الأميركي العسكري، وبالتالي يعطل المسار الذي راهن على تحقيقه وينتظره بدفع واشنطن على سحب قواتها من العراق وسوريا، بخاصة وأن النتائج التي حققتها عملية “حماس” وإن كانت خارج التوقيت الإيراني أو توقيت المحور، إلا أنها قد تؤدي إلى الهدف الذي يسعى له في تحجيم الدور الإسرائيلي المنافس في الإقليم، وتضرب مسار السلام الذي دخل في مرحلة متقدمة بعد التطور الذي بدأت بوادره مع الموقف السعودي ودفع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لاعتباره خطوة مفصلية على طريق محاصرة إيران ومحاولة هيمنتها على المنطقة.
من هنا يمكن اعتبار الزيارة التي قام بها الوزير الأميركي إلى بغداد والتي كانت بمثابة زيارة إلى منطقة قتالية، لم تكن زيارة إلى العاصمة العراقية، بل إلى طهران نفسها، لأن الوعد الذي قدمه رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة بضبط ومعالجة الأعمال التي تقوم بها قوات “الحشد الشعبي” الخاضعة قانوناً لسلطته، لا يمكن أن تتحقق ما لم يحصل على موقف واضح من عاصمة القرار للحشد وقوى المحور الإيراني في طهران، الأمر الذي حتم عليه نقل الرسالة الأميركية على وجه السرعة وأن يقوم بهذه الزيارة المفاجئة بغض النظر إذا ما كانت على جدول أعمال بحسب التصريح الرسمي، بخاصة وأن إخراج زيارة بلينكن والصورة التي أخرجت بها قد يكون الهدف منها، إيصال رسالة إلى طهران بأن كل المنطقة ستتحول إلى ساحة قتال إذا ما استمرت طهران بدفع القوى والفصائل المتحالفة معها أو الموالية لها في تصعيد عملياتها العسكرية ضد قواعدها في العراق وسوريا.