في اليوم الأربعين للحرب على غزة، تَتَوَاصَلُ الأنباء والتصريحات والتسريبات الصحفية عن قرب إنجاز صفقة تبادل بين إسرائيل وحركة “حماس”، فما مدى قربها من الواقع وهل تخلو من محاولات التضليل المتعمّد والتخدير؟ ما الذي يدفع إسرائيل لتلبية ضغوط عائلات المحتجزين في غزة باستعادتهم الآن بدلاً من مواصلة الزعم بأن الحملة البريّة تقصر الطريق لهذه الهدف أيضاً؟
إسرائيل، منذ اليوم الأول، حددّت أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية “حماس” هو هدف هذه الحرب المتوحشّة، ومع تزايد الانتقادات المحلية صارت تتحدث عن استعادة المحتجزين الإسرائيليين في غزة كهدف مركزي، داعية عائلاتهم للثقة بها، وانتظار النتائج. ولاحقاً زعمت إسرائيل أن الحملة البرية التي شنّتها على قطاع غزة، قبل 19 يوماً، لا تتناقض مع هدفها الثاني المعلن بالإفراج عن المخطوفين، بل يخدمها. لكن هذا الزعم بات محطّ شكوك كبيرة لدى عائلات المحتجزين في غزة، التي شرعت، ليلة أمس، بتصعيد الاحتجاج وتجنيد الإسرائيليين للضغط على حكومتهم من أجل السعي الحقيقي لعقد صفقة فورية، بصرف النظر عن التطورات العسكرية.
لرفع هذا النداء الموجّه للحكومة الإسرائيلية للسعي الفوري عن المحتجزين خرجت عائلاتهم، ليلة أمس، مع آلاف المؤيدين في مسيرة شعبية صامتة من تل أبيب في طريقها للقدس، رفعت خلالها صور أقاربهم وشعارات تدعو لاستعادتهم.
محلل عسكري إسرائيلي: صفقة جزئية الآن ستكون خطأ، فالسيف بات أقرب فأقرب من عنق “حماس”، ومن المحظور المغامرة بفقدان هذه الفرصة
في التزامن، يتواصل الانشغال الإسرائيلي الداخلي بمسألة المحتجزين، وسط تساؤلات عن حقيقة نوايا ورغبات إسرائيل التي تفضّل، حتى الآن، “مصالح الأمن القومي” على 241 محتجزاً وأسيراً وعائلاتهم، حتى وإن كانت تقول رسمياً، وعلانية، إنها تسعى لقلب كل حجر من أجل إعادتهم لبيوتهم.
من غير المستبعد أن إسرائيل تماطل في مساعي عقد صفقة، كما تتهمها حركة “حماس”، فهي تخشى من تزايد الضغط عليها لوقف الحرب نهائياً، بحال وافقت على هدنة لعدة أيام، مثلما لا تريد للمقاومة الفلسطينية المحاصرة داخل القطاع أن تلتقط أنفاسها، علاوة على خوفها من صورة أسرى فلسطينيين قدامى يتم الإفراج عنهم في إطار صفقة كهذه رافعين شارة نصر، كما فعل قائد “حماس” يحيى سنوار يوم أفرج عنه في صفقة تبادل، عام 2011، علماً أن وعي الإسرائيليين مصاب أصلاً منذ السابع من أكتوبر.
ويتطرق المحلل العسكري يوسي يهوشع، في مقال بعنوان “مصيدة المسؤولين الكبار”، نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، لهذه الحسابات غير المعلنة، بقوله إن صفقة جزئية الآن من شأنها أن تكون خطأ. ويعلّل ذلك بالقول إن السيف بات أقرب فأقرب من عنق “حماس”، ومن المحظور المغامرة بفقدان هذه الفرصة. ويقول يهوشع، في المقابل، إن “صفقة صغيرة” الآن هي عالم بحدّ ذاته بالنسبة لناس كثر، لكن المصلحة القومية تقتضي صفقة كبيرة، وإغلاق الحساب مع “حماس” مرة واحدة وللأبد، كي تتوقف عن مواصلة تنكيلها بعائلات المخطوفين وبنا كمجتمع. ويضيف: “هناك شك كبير بأن القيادة السياسية والأمنية قادرة على إنتاج موقف أو حالة كهذه”.
صفقة وشيكة؟
تتواصل التسريبات عن الصفقة المفقودة، فقد نقلت الإذاعة العبرية، اليوم الأربعاء، عن مصدر إسرائيلي وصفتْه بالرفيع قوله إن هناك تقدماً هاماً في مفاوضات من أجل إنجازها، مرجّحا شقّ طريق لها في غضون 48 ساعة، لكن مصادر عبرية أخرى تتحدث عن أن الهوة بين موقفي الطرفين ما زالت كبيرة.
وتقول صحيفة “يديعوت أحرونوت”، اليوم، إن إسرائيل تريد الإفراج عن 80 محتجزاً على الأقل، مقابل أسرى فلسطينيين مسنّين، أعمارهم 68 سنة فما فوق، دون الكشف عن عددهم، وهدنة لثلاثة أيام، وفي المقابل تطالب “حماس” بعدد أكبر من الأسرى مقابل عدد أقل من المحتجزين وهدنة لخمسة أيام، وكمية أكبر من الوقود، وهذا ما ترفضه سلطات الاحتلال. وتقول مصادر صحفية عبرية أن رئيس “الشاباك”، بعد رئيس “الموساد”، يقوم بزيارات ولقاءات في القاهرة مع وزير المخابرات عباس كامل أيضاً، لا الدوحة فحسب، من أجل استنفاد مساعي عقد صفقة، علاوة على مسؤولين أمريكيين يتحركون علانية في المنطقة، ويقال إن الصفقة المطروحة هي عنوان نشاطاتهم.
صفقة الآن
وتزداد الأصوات الإسرائيلية الداعية للسعي الحقيقي لاستعادة المحتجزين عبر صفقة تبادل، وتكرّس صحيفة “هآرتس” افتتاحيتها لهذا الهدف تحت عنوان “صفقة الآن”. وتعلّل موقفها هذا بالقول إنه لا بدّ من استعادتهم فوراً، وذلك من أجل هؤلاء النساء والأطفال والمسنّين والجنود، من أجل عائلاتهم التي يلازمها كابوس وتعيش جحيماً متواصلاً، ويكاد هؤلاء يمسهم جنون، من أجل الجماعة التي ينتمون لها، ومن أجل آلاف من عائلات القتلى. وتلمح “هآرتس” أيضاً إلى أن الإفراج عن المحتجزين الآن يخدم أيضاً مصلحة الأمن القومي، لأن إهمالهم يعني ضربة لوعي الإسرائيليين ممن سيقولون لأنفسهم إنهم هنا غير آمنين، ولا يوجد أمل باستعادتهم في حال وقعوا في مأزق خطير كهذا.
تساؤلات عن حقيقة نوايا ورغبات إسرائيل، التي تفضّل، حتى الآن، “مصالح الأمن القومي” على 241 محتجزاً وأسيراً وعائلاتهم
وحملت المعلقة السياسية في “هآرتس” عنات كام، في مقالها اليوم، على حكومة نتنياهو، وتقول إنها تكذب هنا، وتتعامل مع الإسرائيليين باستخفاف. وتضيف مخاطبةً حكومتها: “إذا قررتم التضحية بالمحتجزين، فلا بد من البوح بالحقيقة. حتى الآن ما زالت اسرائيل تتعامل مع مواطنيها كقاصرين مع احتياجات خاصة، ولا تقول لهم الحقيقة”.
وهكذا أيضاً المعلقة السياسية البارزة في صحيفة “يديعوت أحرونوت” سيما كادمون، التي تقول إن “القلب ينفطر إزاء مشاهد الأطفال الإسرائيليين المحتجزين المرفوعة في مسيرة عائلاتهم، أمس، من تل أبيب إلى القدس”. وتتابع: “إذا مات هؤلاء لأي سبب فهذا لن يُنسى، ولا يغتفر، بصرف النظر عن نتائج الحرب”.
مكاسب “حماس” من الصفقة
ويزداد عدد السياسيين الإسرائيليين الداعمين للإفراج الفوري عن المحتجزين مع ما يترتّب على ذلك من أثمان، ومنهم النائب عن حزب “هناك مستقبل” المعارض رام بن براك، الذي قال للإذاعة العبرية، اليوم، إن على إسرائيل استعادتهم اليوم. فيما تقول سلطات الاحتلال إن استمرار التوغّل البري يخدم الهدف باستعادة المخطوفين، سئل بن براك إذا كان ذلك تحت أي ثمن، فقال إنه لا يفضّل الحديث بهذه المعادلات، لكنه يؤمن بأهمية قيام إسرائيل فعلاً بمحاولة الإفراج عنهم اليوم.
بن براك، الذي دعا، أمس، مع النائب في “الليكود” داني دانون، لترانسفير طوعي في غزة، ضمن مقال مشترك نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، حاول اليوم تخفيف وطأة دعوته العنصرية بقوله إنه يدعو لاحترام حق الشباب في غزة، وإنه يؤيد دولة فلسطينية.
وفي المقابل، هناك سياسيون إسرائيليون كثر يتهرّبون من اتخاذ موقف واضح من صفقة تبادل فورية، ويكتفون بصياغات فضفاضة تتحاشى المساس بعائلات المحتجزين.
تخشى إسرائيل من صور أسرى فلسطينيين يفرج عنهم رافعين شارة نصر، كما فعل قائد “حماس” يحيى السنوار يوم أفرج عنه
في المستوى غير الرسمي تجد دعوة عائلات المحتجزين تأييداً متزايداً، ومن مؤيديها الباحث الإسرائيلي البارز في الشؤون الفلسطينية في جامعة تل أبيب دكتور ميخائيل ميليشتاين، الذي يقول إنه واع لمنافع تجنيها “حماس” من مثل هذه الصفقة، لكن لا بد منها، لأن الأمور بخواتيمها.
ويضيف ميليشتاين، الذي عمل باحثاً مركزياً في الاستخبارات العسكرية في الماضي: “الصفقة مكسب هام لحماس. على مستوى الوعي تتمة لـ “طوفان الأقصى”، كحدث تاريخي مؤسّس في تاريخ الصراع مع الصليبيين والصهاينة، كما سيقول سنوار لاحقاً. في مثل هذه الصفقة غير الكاملة تتطلع “حماس” لاقتناء وقت، لأنها باتت تدرك أن المعركة طويلة، مع الاحتفاظ بـ “أوراق ضغط”، إضافة للإفراج عن نساء وقاصرين فلسطينيين من السجون الإسرائيلية. بحال استكمال صفقة جزئية من المرجّح أن تطرح “حماس” مستقبلاً الصفقة الكاملة من خلال استغلال ورقة الجنود الأسرى الإسرائيليين في قبضتها من أجل وقف الحرب. على إسرائيل أن تبقى مصممة على مواصلة المعركة حتى تحقق هدفها، وفي حال وقفها سيكون هذا بكاء مرّاً طيلة أجيال”.
وكرّر ميليشتاين تأييده لصفقة، رغم أثمانها، فقال، في حديث للإذاعة العبرية: “سنرى صورة مزعجة عندما يتم إطلاق مخربين من السجون، لكن هذا يبقى مرحلياً، وبعدها ستعود إسرائيل لمهمتها المركزية: تدمير حماس. والأمور في خواتيمها، والصورة النهائية هي الأهم”.
مع ذلك، ليس مؤكداً أن تقبل إسرائيل بمثل هذه الصفقة الجزئية، ومن غير المستبعد أن تواصل الثرثرة دون جهد حقيقي لإتمامها، إلا إذا تعاظمت احتجاجات عائلات المحتجزين، وانضم عددٌ كبير من الإسرائيليين لها، تزامناً مع ضغوط خارجية، خاصة من جهة الإدارة الأمريكية التي تبدي نوعاً من التململ المعلن، لكنها ما زالت تعطي إسرائيل فرصة لمواصلة الحرب.